عباس حلمي الثاني هو الحاكم السابع من سلالة محمد علي التي سيطرت على مقاليد السلطة في مصر 148 عامًا. هو الخديوِ الثالث والأخير، حكم مصر بين عامي 1892م و1914م.

خلال هذه الفترة وقع الكثير من الأحداث الساخنة في السياسة المصرية، أخطرها تدبير محاولة لاغتيال الخديوِ سنة 1912م، سُمِّيت بـ «مؤامرة شبرا».

أبوك مات، عُد لتحكم مصر

خلال رحلة سفر إلى فيينا، وحينما كان عباس حلمي الثاني في الـ 18 من عُمره، تلقى برقية تُخطره بضرورة العودة إلى مصر فورًا؛ لأن والده الخديو توفيق مات، وعليه استلام مقاليد السلطة.

ورث الشاب الصغير عن أبيه تركة مليئة بالمشاكل، أهمها وجود المستعمر الإنجليزي، والتدخلات الدائمة للورد كرومر، وحالة الحُزن التي عاشها المصريون بعد فشل الثورة العرابية.

تبنَّى عباس حلمي الثاني أجندة إصلاحية، حاوَل فيها تحسين حياة المصريين في حدود الصلاحيات التي سمح له الإنجليز بالتحرك فيها، منها مثلًا اختياره مجموعة من الشباب النابهين وإرسالهم للدراسة في الخارج، كان من بينهم مصطفى كامل الذي سيعلو شأنه في النضال ضد الإنجليز، وسيؤسِّس الحزب الوطني، الذي سيحاول بعض رجاله قتل الخديوِ لاحقًا.

 
/

بين «كرومر» و«مصطفى كامل»

تمتَّع الخديوِ عباس حلمي الثاني بعلاقة سيئة باللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني في مصر، والذي كان يُذكِّره دائمًا أن الثورة العرابية لو نجحت كانت ستُطيح بحُكم آل محمد علي، أي إنه بقي في منصبه بفضل الإنجليز فقط، وليس لمحبة الشعب المصري له.

وفي إحدى المرات قال له: «لا تنسَ أن الحركة العرابية موجودة دائمًا، وأنني إذا ما رفعت إصبعي الصغير فستظهر من جديد، وتطيح بالأسرة العلوية خارج البلاد».

وفي 22 أكتوبر 1907م ألقى مصطفى كامل آخر خطبة قالها في حياته داخل مدينة الإسكندرية، وحينها أعلن تأسيس الحزب الوطني، واتفق أعضاؤه على أن يكون مصطفى كامل رئيسًا للحزب مدى الحياة، كما أنشأ الحزب جريدة «اللواء» التي تبنَّت خطًّا مهاجمًا للإنجليز في مقالاتها.

بسبب كراهية الخديو عباس حلمي الثاني للإنجليز جمعته علاقة طيبة بمصطفى كامل، ودعَّم الحزب الوطني سرًّا؛ لأنه قرَّر أن يتبع سياسة «إمساك العصا من المنتصف» للحفاظ على عرشه، فاستعان بالإنجليز تارة وبالعثمانيين تارة أخرى، مع الحرص على دعم كل أشكال الحركة الوطنية المصرية سرًّا.

وفي عام 1904م أُحبط الخديو عباس بسبب توقيع فرنسا وبريطانيا ما عُرف بـ «وثيقة الوفاق»، والتي سمحت بأن تُطلَق يد بريطانيا في مصر على أن تنشر فرنسا نفوذها في المغرب كما شاءت.

وهو ما زاد من سيطرة الإنجليز على الشأن الداخلي المصري، وهو الأمر الذي بلغ ذروته بحادثة دنشواي عام 1906م، والتي أثارت صدًى دوليًّا كبيرًا انتهى بعزل اللورد كرومر من منصبه.

لم يضمن رحيل كرومر عن مصر أن تخلو الساحة للخديوِ، فسياسات خليفتيه السير إلدون أو اللورد كتشنر لم تختلف كثيرًا عن كرومر، وظلَّ الخديو يشكو تنازع الإنجليز معه على صلاحياته.

إعلان الحرب على الحزب الوطني

بعد اغتيال بطرس باشا غالي عام 1910م على يدي إبراهيم الورداني، أحد أعضاء الحزب الوطني، ارتبك المشهد السياسي في مصر، وقرَّرت سفارة بريطانيا إنشاء مكتب مراقبة سياسي تابع لها، تكون مهمته مواجهة الأعمال السياسية العدائية، وجمع المعلومات عن الجمعيات السرية التي تمارس السياسة في مصر، وإخضاعها لمراقبة دقيقة.

تولى ضابط شامي الأصل، هو جورج فيليبيديس، رئاسة المكتب منذ ديسمبر 1910، وعاونه ضابط مصري اسمه حسني شعير، ويوزباشي إنجليزي هو فرنشيسكو لوسكيافو، معاون البوليس السري. قاد الثلاثة شبكة ضخمة من المخبرين الوطنيين والأجانب، وتعاونوا مع الأميرالاي جورج هارفي باشا حكمدار بوليس العاصمة.

حقَّق جورج نجاحًا كبيرًا، ونجح في ضبط الخلية التي اغتالت بطرس غالي، وبسبب هذا الحادث كوَّن قناعة بأنه يجب إخضاع جميع المجال السياسي المصري للمراقبة، فبثَّ جواسيسه في كل مكان، حتى يتمكن من تنفيذ ضربات سياسية مُضادة، حال الرغبة في القيام بأي عمل عدائي، كما اعتبر أن الحزب الوطني شرٌّ لا بد من القضاء عليه.

 
/

ماذا حدث في شبرا؟

بدأ الحديث عن المؤامرة للمرة الأولى يوم 1 / 7 / 1912، حينما قُبِض على المصريين الثلاثة: علي إمام واكد، ومحمود طاهر العربي، ومحمد عبد السلام، وهم جالسون على مقهى في حي شبرا البلد.

خطَّط الرجال الثلاثة لقتل الخديو عباس حلمي الثاني في ساحة محطة القطار، لكن قبل الضغط على الزناد رأى حرس الخديو محمود طاهر وهو يُعدُّ نفسه لقتل الخديوِ، فخاف طاهر وهرب.

بذلت الشرطة جهودًا لتعقُّب المتورطين دون جدوى، حتى وشى مصطفى المحلاوي الصحفي في جريدة اللواء، التابعة للحزب الوطني، بزملائه، وأخبر الضابط فيليبيديس بجميع تفاصيل عملية الاغتيال، وحكى له أيضًا أن المخططين الثلاثة كتبوا رسائل إلى زوجاتهم يبررون لهن اشتراكهم في العملية.

استعمل فيليبيديس الصحفي المحلاوي كـ «طُعم» للقبض على زملائه؛ فقادهم إلى قهوة في شبرا حيث قُبض عليهم، وأحيلوا للمحاكمة وصدرت ضدهم أحكام بالسجن 12 عامًا.

الخديوِ يتجاهل، وسعد زغلول يُعلِّق

من ناحيته، شكَّك سعد زغلول في مذكراته في هذه الأزمة، معتبرًا أنها مسرحية من تدبير فيليبيديس، الذي منح المحلاوي رشوة قدْرها 200 جنيه للإيقاع بزملائه.

وهو ما يتَّفق مع تجاهل الخديو عباس لهذه المؤامرة في مذكراته، التي حملت عنوان «عهدي»، وذكر فيها العديد من الوقائع المهمة في مسيرته إلا محاولة اغتياله.

اعتقد الخديو نفس رأي سعد زغلول، وأن هذه المحاولة مجرد مؤامرة إنجليزية للإيقاع بين الخديوِ والحركة الوطنية المصرية، وكان على يقين من أنها من تدبير المكتب السياسي البريطاني حتى تكون ذريعة لتدمير الحزب الوطني.

ما رسَّخ هذا اليقين داخل نفس الخديوِ هو رفض الإنجليز لكل سياساته الإصلاحية، حتى إنهم استغلُّوا وجودهم في إسطنبول سنة 1914م، للإطاحة به من منصبه، ورتَّبوا محاولة أخرى لاغتياله، وعقب فشلها أخبروه بنبأ إزاحته عن عرش مصر.

تناول الصحافة للقضية

على نفس النهج تناولت الصحافة المصرية القضية التي تحولت سريعًا إلى رأي عام، وتباينت مواقفها خلال التغطية على حسب أرضيتها السياسية.

الصحافة الوطنية، المعادية للخديوِ وللإنجليز، صحف المؤيد واللواء وغيرها، أطلقت على الحادثة لقب «مؤامرة شبرا»، واعتبرتها قضية ملفقة من عمل البوليس السياسي للقضاء على رجال الحركة الوطنية.

في المقابل، أطلقت الصحافة الموالية للإنجليز، مثل جريدة «المقطم»، على الواقعة لقب «قضية واكد (أحد المتهمين الثلاثة فيها)»، وباركت المقطم عملية القبض، وأفردت مساحات مُطوَّلة للحديث عن تفاصيل المؤامرة، وحنكة المكتب السياسي بقيادة فيليبيديس.

السجناء يتحدثون

في كتابه «12 عامًا من السجن» حكى المتهم الرئيسي في الواقعة محمود طاهر العربي، أحد المتهمين، تفاصيل القضية، وتبنَّى نظرية المؤامرة بشكل ساحق في جميع جنبات الكتاب.

شكَّك العربي في جميع أوراق القضية، وفي أقوال الشهود، وكشف عن أن فيليبيديس سعى مُبكرًا لتدمير الحزب الوطني عبر الدسِّ بين أعضائه، ولما فشل في ذلك جنَّد الصحفي مصطفى المحلاوي، وعبره دبَّر محاولة الاغتيال الوهمية من أجل الإيقاع برجال الحزب.

ويحكي العربي أن المتهم الثاني في القضية محمد عبد السلام هو صديق للمحلاوي، وهو الذي وفَّر له فرصة العمل في جريدة اللواء، ورغم ذلك أوقع به المحلاوي.

سجن الضباط

كان المفترض أن تحقق هذه القضية نجاحًا باهرًا لجورج فيليبيديس، إلا أنها لم تفعل.

فلقد نشر أعضاء من حزب العمال البريطاني أنه استخدم أساليب تعذيب وحشية لإجبار المتهمين على الاعتراف.

وهو ما راق للضابط الأيرلندي «توماس راسل»، حكمدار القاهرة، الذي رفض أن يتولى هذا المنصب الحسَّاس ضابط «غير بريطاني»، متهمًا إياه بتلقي رشى كبيرة من الأثرياء ليُلفق التهم لأعدائهم.

في النهاية، انتهى كل هذا الجدل بالقبض على فيليبيديس وسجنه 5 أعوام وشطب اسمه نهائيًّا من سجلات الشرطة.

وبحسب شهادة العربي في كتابه، فإن مصطفى المحلاوي خلال هذه القضية انهار، واعترف بأن «مؤامرة شبرا» ملفقة ضد زملائه.

وعلى الرغم من ذلك لم يُفرج عن المتهمين إلا بعد قضاء عقوبتهم كاملة، وخرجوا من السجن عام 1924م، وهو نفس العام الذي عرفت فيه مصر طريقها للاستقلال بعدما انتزعت تصريح 28 فبراير من بريطانيا، وبموجبه اعترفت بمصر رسميًّا، لأول مرة، كـ «دولة مستقلة ذات سيادة».