في أحد الأيام، جلس الشاب البصري فارسي الأصل عمرو بن قنبر في مجلس شيخ البصرة حماد بن سلمة بن دينار، قرأ عليه حماد حديثًا عن الرسول يقول: «ما من أحد من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عنه علمًا ليس أبا الدرداء»، ولما ردَّده عمرو من خلفه نطق الجملة الأخيرة خطأ بقوله: «ليس أبو الدرداء»، وهو ما عدَّه حماد خطيئة كبرى فعنَّفه وصاح فيه: «لحنت، ليس أبا الدرداء»، ثم منعه من قراءة الحديث.

شعر عمرو بالإحراج والغضب من نفسه، فقرر مغادرة مجلس الشيخ حماد وطلب النحو على يدي الخليل الفراهيدي محدثًا نفسه: «لأطلبن علمًا لا تلحنني فيه أبدًا».

كانت هذه الواقعة سببًا في تغيُّر وِجهة عمرو العلمية، فبدلاً من الاكتفاء بالفقه عِلمًا قرَّر التوجه إلى علم النحو، وهي الواقعة التي لن تقلب حياته فقط، وإنما سيكون لها أثر بالغ على تعلم اللغة العربية في كل أصقاع الدنيا، بعدما سيُصبح هذا الشاب واحدًا من أشهر مَن تعلَّم وعلَّم النحو في تاريخ العربية، إن لم يكن أشهرهم، كما سيُصبح كتابه مرجعًا رئيسيًّا لأي راغبٍ في تعلم النحو حتى الآن.

إنه سيبويه صاحب كتاب «الكتاب».

مرحبًا بزائر لا يمل

من أراد أن يؤلف كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحيي مِمَّا أقدم عليه.
عالم النحو البصري أبو عثمان المازني

هو عمرو بن عثمان بن قَنْبر، فارسي الأصل وُلِد في مدينة البيضاء التي تقع ضمن مقاطعة سبيدان الإيرانية، عام 140هـ، إلا أنه نزح مبكرًا وهو لا يزال غلامًا حديث السن إلى العراق وعاش في مدينة البصرة، التي كانت وقتها تعيش وهجًا علميًّا كبيرًا في ظِل الخلافة العباسية التي بزغت في أرض العراق للتوِّ وحكمت العالم بأسره.

ففي ظِل أجواء الخليفة العباسي القوي أبي جعفر المنصور تنافست حواضر العراق الكبرى كالكوفة وبغداد على نشر العلم وابتداع النظريات الفقهية والنحوية من كل حدبٍ وصوب.

أجرى العباسيون تعديلات إدارية متتالية رفعت من قيمة البصرة بعدما أصبحت مركزًا إداريًّا ارتبط بالبحرين وعمان، فتزايدت أهميتها وكثرت حركة هجرة القبائل والعشائر العربية إليها، وحوَّلوا إليها نشاطهم التجاري وأقاموا فيها الكثير من المباني التي زادت المدينة أبهة، وخلال نصف قرنٍ وحسب حققت المدينة نموًا كبيرًا حتى صارت تمثل باب بغداد الكبير ومنفذها الأول في الحصول على المنتجات، ولم تتوقف عن استقبال السفن المحملة بالسلع، حتى قيل: «إن العراق عين الدنيا والبصرة عين العراق».

كُنيته أبو بشر (أو أبو الحسن)، أما لقب سيبويه الذي لازمه حتى مات واشتُهر به بيننا اليوم فهو يعود لأصوله الفارسية، والكلمة تعني بلغة الإيرانيين «رائحة التفاح»، وتباينت المرويات التاريخية حول سبب استحقاقه هذا اللقب، بين قائل إنه كان يُحب هذه الرائحة وهو صغير فدعته أمه بها وأنه ظلَّ يتطبَّب بهذه الرائحة حتى كبر، وبين رأي آخر يقول إنه دُعي بهذا اللقب لجمال وجنتيه اللتين كانتا تحمرَّان كالتفاحتين.

كما عرفنا في بداية المقالة، سلك سيبويه في بداية حياته العلمية مسلكًا تقليديًّا حتى غيَّرت «واقعة اللحن» حياته فأشاح بوجهه عن الحديث والفقه ويمَّم وجهته نحو النحو.

لزم الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العَروض وصاحب معجم «العين» الشهير، وتعلم منه الكثير والكثير، وكان أنجب تلاميذه كما كان الفراهيدي أعظم أساتذته من ضمن باقة الشيوخ الآخرين الذين تتلمذ على أيديهم مثل عيسى بن عمر الثقفي، ويونس بن حبيب الضبي، وأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري، وعبد الحميد بن عبد المجيد المُلقب بـ «الأخفش الكبير».

ويقول الدكتور عوض القوزي، الأستاذ بقسم اللغة العربية كلية الآداب بجامعة الملك سعود، إن سيبويه كان جلدًا في طلب العلم، ما جعله يحتلُّ مكانة مرموقة عند أستاذه الخليل، الذي رُوي أنه كان يُحيِّيه بقوله: «مرحبًا بزائر لا يمل»، ولم يُعرف عنه أنه حيَّا أحدًا من تلاميذه بهذه الطريقة إلا سيبويه.

تحققت أمنية سيبويه في التمكن من علم «لا يلحن فيه»، وبرع أيَّما براعة في العلم وذاع صيته وصار شيخًا كبيرًا فيه له تلامذته ومريدوه، أشهرهم أبو الحسن سعيد بن مسعدة (الأخفش الأوسط)، وأبو علي محمد بن المستنير (قطرب)، وغيرهم.

لم يكتفِ سيبويه بذلك، وإنما رغب قبل مغادرة الدنيا في وداعها وداعًا يليق بقدره فقرَّر أن يؤلِّف كتابًا لم يسبقه إليه أحد.

وهو ما حكى عنه الدكتور عوض في كتابه: برع سيبويه في اللغة والنحو، وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد، كما لم يلحق به من بعده، وكما اشتهر بالإمام في ميدان العربية، فقد عُرف كتابه باسم الكتاب، تمييزًا له عن غيره من الكتب، وكان الناس يدعونه قرآن النحو.

«الكتاب»

ألا صلى الإله صلاة صدق :: على عمرو بن عثمان بن قَنْبر
فإن كتابه لم يغنِ عنه :: بنو قلم ولا أصحاب منبر
من أشعار الزمخشري

يقول الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة، في بحثه «تجربتي مع كتاب سيبويه»: «نحن لا نعرف مدى ما وصل إليه التأليف في النحو قبل كتاب سيبويه، بل إن أقوال النحويين الذين سبقوه لا نعرف عنها شيئًا سوى ما نقله صاحب الكتاب»، مضيفًا: «نعم نعرف أسماء كتب، ولا نعرف حقيقة ما حوته».

كان هذا السَّبْق الذي ضمن به سيبويه لنفسه الخلود، بعدما وضع للأمة أوَّل كتاب يُؤصِّل قواعد لغتها ونحوها، وهي خطوة لم يسبقه إليها أحد، فلا نعرف مَن ألَّف على هذه الشاكلة إلا عيسى بن عمر الثقفي، الذي قيل إنه وضع كتابين هما «الإكمال» و«الجامع»، قال فيهما الشاعر:

بطــــــل النحــــو جميعًا كلِّه :: غــير ما أحـــدث عيسى بن عمر
ذاك إكمــــــال وهذا جــامع :: فهمـــا للنــــــاس شمس وقمر

قلَّل أبو العباس المبرد من قيمة هذين العملين بقوله: «قرأت أوراقًا من أحد كتابي عيسى بن عمر فكان كالإشارة إلى الأصول».

لا نعرف متى تم تأليف الكتاب، لكن يخمِّن النوري أن سيبويه ألَّف هذا الكتاب بعد وفاة شيخه الخليل بن أحمد عام 170هـ؛ إذ كان يعقب على مقولاته بـ «رحمه الله».

وهو ما دفع «عضيمة» إلى التأكيد في نهاية بحثه أنه لا شك في أن كتاب سيبويه هو الذي أرسى قواعد التأليف في النحو، وأقام هذا الصرح الشامخ، ورفع مناره، فاهتدى بهديه جميع النحويين الذين جاءوا من بعده إلى يومنا هذا.

يقول جواد النوري في ورقته البحثية «سيبويه وكتابه»، إن «الكتاب» هو أول مُصنَّف لغوي جمع بين دفتيه مختلف القضايا النحوية والصرفية والصوتية للغة العربية، فضلًا عن اشتماله على بعض الإشارات واللمحات البلاغية.

ويضيف: استقى مادتها الأساسية من القرآن الكريم، وأكثر من الاستشهاد به والاقتباس منه، ولم يفعل ذلك كثيرًا مع الأحاديث الشريف، كما استدلَّ كذلك بأبيات كثيرة من الشعر الجاهلي وشعر المخضرمين وصدر الإسلام أحصاها أبو عمر الجرمي، أحد مترجمي الكتاب، قائلاً: «نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا، فأما الألف فعرفت أسماء قائليها، وأما الخمسون فلم أعرف قائليها».

فيما يضيف الدكتور راشد جراري، في بحثه «أثر المعنى في الصيغ الصرفية: دراسة في كتاب سيبوبه»، إلى أن أهمية الكتاب ترجع إلى كونه أقدم مؤلَف يبدأ به التاريخ الحقيقي في لغة العرب، كما أنه يتضمن كذلك إشارات مهمة إلى آراء عدد من اللغويين الرواد الذي سبقوه، فأخذ عنهم، وحفظ لنا قدرًا من جهودهم.

وينوِّه جراري بأن سيبويه كان دقيقًا في معلوماته، فكان لا يقبل إلا ما سمعه مشافهة، أو ممن يثق بهم من العلماء، لذلك كثرت في كتابه عبارات مثل: «وذا لا يجسر عليه إلا بسماع.. وسمعت ممن يوثق بعربيته.. وهذا سمعناه عن العرب.. وغيرها مما يؤكد حرصه ودقته في قبول ما سمعه أو روي له».

وفي بحثه «نظرية النحو العربي في كتاب سيبويه وإسهامها في علم اللغة العام»، يعتبر الكاتب محمد كاظم البكاء، من كلية العلوم الإسلامية بجامعة بغداد، إن كتاب سيبويه هو «أقدم وثائق القرن الثاني الهجري، ويمثل خلاصة الفكر النحوي لأوائل النحاة».

وينقل البكاء عن المستشرق الإنجليزي ميخائيل جورج كارتر راسله، الذي اعتنى بهذا الكتاب ووضع فيه بحثًا بعنوان «عشرون درهمًا في كتاب سيبويه»، انتهى فيه إلى أن الكتاب أعظم عمل من حيث الترابط المنطقي والتناسق.

ويشرح كاظم في بحثه شيئًا من النهج الذي اتَّبعه سيبويه عند كتابه عمله، فيقول إنه سلك في دراستها طريقة التحليل والتركيب معًا، واستطاع أن يكشف لنا عن الوحدات والعلاقات الأساسية في اللغة، أي أنواع الكلم والمعاني النحوية، بجانب الكشف عن النظام النحوي للغة، ولم يتم ذلك إلا باتِّباع طريقة بحث تعتمد على التحليل والتركيب.

وتكشف صفحات الكتاب عن وعي مُبكِّر عند سيبويه بما يُمكننا تسميته «المستويات النوعية للغة»، والتي يمكننا اختصارها في أسلوبين؛ الأول: المستوى الصوابي (خطأ أو صواب)، وهو المستوى الذي يعبر عن صحة الأسلوب واستقامته حيث ينأى عن الخطأ في ضوء قواعد اللغة بعيدًا عن وجود أي جماليات في التركيبات اللغوية.

أما الثاني فهو المستوى البلاغي (حسن أو قبيح)، وهو المستوى الذي يُعبِّر عن تفاعل الأساليب اللغوية مع بعضها ومدى استقامتها معًا بشكل صحيح يُعبِّر عن بلاغة التعبير الأدبي.

وهذا المستوى من التحليل يُعلِّق عليه كاظم في بحثه بقوله: «هذا التحليل النوعي لمستويات اللغة لم ينتبه إليه علماء اللغة الغربيون فيما وقفت عليه».

لم تتوقف عبقرية سيبويه اللغوية على هذا الأمر فقط، وإنما فصَّل المستويات التحليلية للغة إلى عدة مراحل: هي الأصوات، أي ما يقع موضوعًا لعلم الأصوات وعلم وظائف الأصوات، وبناء الكلمة والجملة أي ما يقع موضوعًا لعلم النحو والصرف أو علم الصيغ والنظم، وأخيرًا المعاني أي ما يقع موضوعًا لعلم الدلالة أو علم دراسة المعنى.

ويعتبر الدكتور جعفر كمال الدين، من كلية اللغة العربية بجامعة أم درمان الإسلامية، في أطروحته «التنغيم في كتاب سيبويه وأثره في توجيه المعنى»، أن الكلام المسموع أكبر أهمية من مثيله المكتوب؛ لأن الأول أقدم في الحياة من الكتابة وأوغل في سلوك الفرد والمجتمع، ويعطي إمكانية أكبر للبحث عن ظلال المعنى ودقائقه.

ويؤكد كمال الدين أن سيبويه اهتمَّ بسماع الكلمات بشكلٍ مباشر من أفواه العرب أو مِمَّن يثق فيهم من شيوخه، ويرى أن ابن البصرة كان الأسبق في الحديث عن الذي يحدثه التنغيم في توجيه المعاني، وهذا الاتِّجاه العلمي لم يكن معروفًا بالشكل الذي نعلمه وقتها.

ويضيف كاظم أن سيبويه ابتكر في كتابه 14 أسلوبًا سار عليها في منهجه وأطروحته حتى شملت كل أنواع التركيب اللغوي للجملة في العربية، ما دفع المستشرق الإنجليزي كارتر لوصفه بأنه «مفكر نظامي، مرتبط منطقيًّا أكثر بكثير مما أقر به ناقدوه حتى الآن».

ويزيدنا الباحث أحمد السوادحة، الطالب في كلية الآداب بجامعة مؤتة بالأردن، في أطروحته «النظام السيميائي في النحو العربي.. دراسة في كتاب سيبويه»، بأن صاحب الكتاب كان أول من قسَّم الكلمات إلى اسم وفعل وحرف، وهو التقسيم اللغوي الذي لا يزال معتمدًا بيننا حتى اليوم.

المفارقة أن سيبويه لم يتمكَّن من مطالعة هذا النجاح الهائل لكتابه، بل لم يره مجموعًا مطبوعًا بأمِّ عينيه، فلقد تُوفِّي قبل أن يُنشر في أسواق الكتب وبين الورَّاقين، ودون أن يتمَّه بشكلٍ نهائي، حتى إنه لم يضع له عنوانًا فجاء مُسمَّى «الكتاب» من الباحثين والقراء تقديرًا لجلال العمل بوصفه بألفٍ ولامٍ قمرية تُعرِّفه وتميِّزه عن أي كتابٍ آخر، فكانت تكفي الإشارة إلى «الكتاب» ليعرف المُستمع أن المقصود هو كتاب سيبويه.

ويضيف الدكتور القوزي: إن صاحب الكتاب لم يقدر على نشره لا في بغداد عند زيارته لها، ولا في البصرة التي كان يعيش فيها، ولم يظهر إلا بعد وفاته.

أما من تحمل عبء نشره فهو تلميذه الأخفش الأوسط، الذي حمل علمًا كبيرًا واشتهر في البلاد حتى وُصِف بأنه من أوسع الناس علمًا؛ ما أهله ليكون أستاذ البصريين والكوفيين على السواء.

وأتت هذه الخطوة على الرغم من السوء الذي اعترى قدرًا من العلاقة بين الرجلين بسبب رغبة كلٍّ منهما في إثبات أنه أفضل وأعلم من الآخر، وهو ما يثبته ما قاله الأخفش بحقِّ أستاذه عن كواليس إعداد الكتاب: «كان سيبويه إذا وضع شيئًا من كتابه عرضه عليَّ، وهو يرى أني أعلم به منه، وكان أعلم مني، وأنا اليوم أعلم منه».

ويرى القوزي أن هذا الخلاف بين الرجلين كاد يحرمنا من «الكتاب» بعدما تلكأ الأخفش في نشره، لولا نزول أبي العباس المبرد إلى بغداد، فأكثر الحديث عن معجزة سيبويه ورغَّب الناس فيه، وبعد خروجه إلى النور اعتمد عليه بشكلٍ تام في مجالسه العلمية فكان يأمر تلاميذه أن يطرحوا كتب الكوفيين جانبًا؛ ليتفرغوا لدراسة كتاب سيبويه.

يختتم الدكتور ورقته البحثية بقوله: «من بغداد انتشر كتاب سيبويه في البلاد الإسلامية، وعُرِف بِاسم الكتاب، حتى إنه كان إذا قيل: قرأ فلان الكتاب، عُلم بداهة أنه قرأ كتاب سيبويه».

المسألة الزنبورية تنهي أحلام سيبويه

لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه، وذلك أن الكتب المصنفة في العلوم الأخرى مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فَهمَه إلى غيره.
العالم اللغوي محمد بن يزيد المبرد

حقَّق سيبويه شهرة صاعقة في البصرة وأصبح عالمها الأول، فحدَّثته نفسه بالرحيل صوب بغداد لإثبات نفسه في عاصة الخلافة والعلم في حضرة البلاط العباسي، وكان ذلك في عهد هارون الرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكي.

فور وصوله إلى مدينة المنصور، طمع أبو النحو إلى مناطحة الكبار فورًا فطلب من الوزير البرمكي مناظرة الإمام الكسائي شيخ المدرسة الكوفية. نصحه الوزير ألا يفعل، قائلًا: إنه (أي الكسائي) شيخ مدينة السلام (بغداد) وقارئها، ومُؤدِّب ولد أمير المؤمنين، وكل من في المصر له ومعه.

التقى سيبويه الكسائي، وتناظرا في نقاطٍ متعددة حتى تعرَّض له الأخير بالسؤال في المسألة المعروفة بـ«المسألة الزنبورية»، والتي وُصفت في كتب التاريخ بأنها الأشهر في تاريخ النحو، بعدما سأله الكسائي، ماذا يقول في «كنتُ أظن أن العقربَ أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أم فإذا هو إياها؟»، أكَّد سيبويه أن الأصح هو «هو هي» ولم يُجز النصب، وهو ما خطَّأه فيه الكسائي واعتبر أن النصب هنا واجبًا، ولما اختلفا طلبا اللجوء إلى حُكم المتابعين.

هنا تزعم المرويات أنه بالرغم من أن موقف سيبويه كان أحق من الكسائي فإن المُحكِّمين كانوا من أنصار الأخير فدعَّموه على ابن البصرة ونصروه عليه.

كان وقْع هذه الهزيمة مُزلزلاً على سيبويه، الذي لم تدفعه مرارة الهزيمة إلى الرحيل عن بغداد فقط، وإنما قرَّر الرحيل عن العراق بأسره، وقرَّر أن يعود إلى موطن أجداده في بلاد فارس ناويًا بعدها استكمال رحلته والعيش في كنف والي خراسان طلحة بن طاهر بن الحسين.

لكنه شعر بالمرض في مدينة شيراز جنوبي إيران ومات فيها عام 180هـ، أي كان عمره حينها بضعة وأربعين عامًا، بعدما خلَّد لحظات حزنه الأخيرة بأبيات قال فيها:

يؤمل دنيا لتبقى له.. فمات المؤمل قبل الأمل
حثيثًا يروي أصول النخيل.. فعاش الفسيل ومات الرجل