محتوى مترجم
المصدر
Berlin Art Link
التاريخ
2015/10/22
الكاتب
ألينا سكن

حصلنا مؤخَّرًا على فرصة التحدُّث مع الأستاذ الجامعي الشهير سيغفريد زيلينسكي الذي يُدرِّس في كلٍّ من جامعة برلين للفنون والكلية الأوروبية للدراسات العليا، له العديد من الإنجازات؛ فقد أقام العديد من المعارض وألَّف ما يزيد على اثني عشر كتابًا، كما أوجد حقلاً بحثيًا جديدًا يختصًّ بأركيولوجيا/حفريات وسائل الإعلام، يُعدّ زيلينسكي بلا شك واحدًا من أكثر الأكاديميين حيويةً، كما أنَّه قد شرح بقليل عناء المُحاضرات المُبهمة لـميشيل فوكو؛ إذ يذكر صديقه ف. م. انهايت عازف الإيقاع والعضو في فرقة Einstürzende Neubauten أنَّ زيلينسكي يتحدَّث بحماسٍ شديد لشغفه بما يقدمه لديه تقديرٌ عميقٌ للأفكار الراديكالية والتجريبية كما أنَّه يتحدَّى على الدَّوام رتابة الثقافة الأوروبية؛ إذ يؤكِّد لي «إنني لا أطيق كون هذه الثقافة الرتيبة قد شكَّلت خطابًا أكاديميًا».

من غير المُحتمل أبدًا أن ينفِّذ ما لديه من أفكار مُثيرة للاهتمام، قد سبق والتقيت بزيلينسكي من قبل في سويسرا، وبمجرد وصولي لمكتبه في جامعة برلين للفنون بدأ زيلينسكي نقاشًا عفويًا حول المناخ السياسي في برلين ثم تشعَّب الحوار ليتطرَّق للكثير من المواضيع، لم يغب ضحكه عن النقاش.


سيغفريد زيلينسكي: برلين ليست مكانًا يشهد أمورًا مُهمة؛ بل إنَّ القارَّة ذاتها ليس لديها ما تُقدمه حاليًا، فالأحداث المُهمة تشهدها أماكن أُخرى مثل أمريكا اللاتينية، المكسيك تحديدًا وشرق آسيا أو لنقل بشكلٍ أدق النِّصف الجنوبي من الكرة الأرضية شاملاً إفريقيا حيث بدأ البشر هناك المشيَ إذا جاز التعبير، إلا أنَّ كلَّ مَن يأتون إلى برلين يبحثون عن برلين أوائل التسعينات، لكنها بالطبع قد تغيَّرت تمامًا، لكن الأهم أن هذه الكوكبات مثل برلين لا تُمثل بالنسبة لي المستقبل.

ألينا سكن: ما سبب ذلك؟ لمَ لا يمتلك الغرب أيّ مُستقبل؟

سيغفريد زيلينسكي: لا يُخاطر الغرب حاليًا في التَّفكير وبناء احتمالاتٍ مُثيرةً للاهتمام، بينما مهمتي هي أن أخلق مساحةً للاحتمالات، لكنني لا أجدها حاليًا هنا، ما يزال الغرب جذَّابًا بالطبع لكونه قويًا اقتصاديًا وهذا أمرٌ شديد الأهمية في الوقت الراهن، لكن الغرب أيضًا ما يزال عالقًا في مأزق مفهومي الذاتية والحداثة الذين ظهرا في القرن السابع عشر.

بانتهاء السنة القادمة سأنتهي من التدريس في جامعة الفنون، و حينها سأكون قد أمضيت 40 عامًا في برلين، إحدى مخططاتي لما بعد هذه المرحلة هي الذهاب لهونغ كونغ؛ إذ إنني مُهتمٌ جدًا بمنطقة المحيط الهادئ التي ستشهد الكثير مُستقبلاً.


ألينا سكن: ما الذي يجعل شخصًا أو حدثًا ما ذو ارتباطٍ تاريخي بالنسبة لك؟ هل يمتلك أي شخصٍ على الإطلاق قيمة تاريخية؟ وما الكيفية التي بموجبها تختار ما تدرسه وما تستثنيه؟

سيغفريد زيلينسكي: أعرف القليل عن بعض الأشياء ومن ثم أدركت وجوب تركيز جُهدي فيما أختص به، غير أنَّ هذا بالطبع لا يُلغي حقيقة مقدرتي على تعلم أشياء جديدة دائمًا، لكنني بالفعل واسع الاطلاع في حقول الفنون والفلسلفة والسيميائية وعلم الاجتماع وغيرها، إنَّ البحث والاطَّلاع على كافة الحقول الأكاديمية أمرٌ غير مُمكن لذا فإنني أحاول البقاء ضمن هذه الحقول.

الإعلام هو مجال اختصاصي الأوسع، إلا إنَّه حقلٌ دراسيٌّ يضم العديد من التخصصات إضافةً لكونه تخصصًا تجريبيًا للغاية، ومن المهم أن أذكر أنني أُفرِق بين الإعلام بوصفه حقلاً مُتنوعًا من الظواهر وبين الإعلام بوصفه منظومة، بالنسبة لدراسة الإعلام فإنَّ الأفكار التجريبية والمُتعدِّدة الجوانب بالغة الأهمية من أجل فهم تعقيدات الإعلام، أما في مجال دراسة الإعلام كمنظومةٍ فإنَّ من المُهم تقديم أفكارٍ بديلة، عالم الإعلام معياريٌ للغاية ويفتقر للأفكار المتنوعة؛ فقد أصبح الإعلام الآن يُمثِّل منظومة لم يعدّ يُفضي لثورة.


ألينا سكن: أعلم من خلال معرفتي بعملك أنك قد طوّرت منهجيةً مُتكاملة لدراسة الثقافة والتاريخ بوصفهما مجموعة من التقاطعات غير المركزية، هل يمكنك أن توضّح باختصار مفهوم الاختلافية ولمَ تعتقد أنَّها أفضل من النموذج الخطي العادي للتاريخ؟

سيغفريد زيلينسكي: ربما يجب أن أبدأ بمصطلح الأناركية الذي سبق الاختلافية، فقد عملت خلال أواخر السبعينات وبداية الثمانينات على أناركية الإعلام، مُتناولاً عدَّة إشكاليات مثل حركات عمَّال الإذاعة في عشرينات القرن الماضي والتي كانت بحلول السبعينات إشكالية منتهية عفا عليها الزمن تمامًا، مثَّلت هذه الإشكالية بالنسبة لي موضوعًا مُهمًا للدراسة؛ وذلك بسبب التَّشابه بين الحركات العمالية الإذاعية وبين حركات التلفاز المُثيرة حول العالم، والتشابه أيضًا مع حركات القرصنة في بداية ظهور ثقافة الانترنت، هذه الأمثلة بالغة الأهمية بالنسبة لي لكونها توضَّح كيف تمكَّنت الأركيولوجيا/الحفريات من الوصول للتاريخ أو لعمق تاريخ بعض المناطق؛ إن هذا الوصول ما هو إلا سعيٌ لمحاولة التعامل مع المستقبل واحتمالياته، يُمكننا الرجوع إلى الماضي فقط لدراسة الاحتماليات المُستقبلية، إن مشاريع الحفريات الأولى هذه كانت أشبه بآلات الزمن، نرسلها لنستكشف ما كان وما قد يأتي، جامعين بذلك بُعدين زمنيين.

كان هذا البحث الأركيولوجي/الحفري ساذجًا في بداية الأمر، ثم أصبحتُ أكثر دراية بميشيل فوكو وأعماله إضافة لغيره من مُفكري ما بعد البنيوية الفرنسيين، اعتمدت استخدام الأركيولوجيا/الحفريات في بحثي في مجال الإعلام بوصفها ميتا/ما وراء منهجية، بالرغم من ذلك فإنَّ هذه المنهجية كانت على الدوام بطريقة أو بأخرى خطيةً بعض الشئ، لم تكن ديناميكية حيوية بشكلٍ كافٍ، وبالرغم من ذلك فإن فوكو كان على الدوام يتطرق لضرورة التحرك ضمن منهجٍ مُعقد غير خطي.

لذلك حاولت أن أطوِّر ذاتي من خلال إيجاد بعض البدائل، وفي بداية التسعينات بدأت باستخدام مصطلح أركيويولوجيا، بالطبع أثار استخدامه حفيظة الجميع لكن راق لي ذلك، تعني الأركيولوجيا أن ما ندرسه من أمور مضت أكثر حرية وأكثر مرونة، كما أنَّها ليست خطية كما قد نعتقد، لذا علينا أن نسمح لأنفسنا أن ننظر للماضي لنُدرك كيف تطورت الأمور.

سرعان ما ربط الناس المفهوم بمفهوم الأناركية السياسية، لكنني بعد حين أدركت حاجتي لمفهومٍ استدلالي أكثر، فرجعت بذلك إلى نقطة البداية في بحثي لأُدرك أنَّ ما أردت فعله هو أن اتحدَّى التكنولوجيا من خلال منهج تفكيرٍ وأداء شاعري*. التكنولوجيا ذات تميل للمعيارية والعالمية، لذا أردت إيجاد بدائل مختلفة مقابل التكنولوجيا، حتى أخلق تبايُنًا في بحثي يجمع بين أفكارٍ ومفاهيم متنوعة، هنا ظهر مصطلح الاختلافية Variantology الغريب؛ وبالتالي فإنَّ هذه البدائل مختلفة عن المعايير العالمية.

تدرك من خلال قراءتك لتاريخ الفن وتاريخ الإعلام أنَّ هناك العديد من المفاهيم والسجلات التاريخية والأفكار المُتنافسة فيما بينها، وبالرغم من ذلك فإن هذا التعدد المفاهيمي المصحوب بتفشي التصنيع والرأسمالية قد أصبح مُتجانسًا ضمن تاريخ واحد، من خلال الحفر في التاريخ بحثت في كيفية انتشار هذه الاختلافات وتضاربها وتطوّرها، أتمنى أن يُستفاد من هذا الجهد البحثي الغني ليُثمر في الحاضر والمستقبل.

الماضي بشكل أساسي هو ما نصنع منه، كيف نفسره ونُعرِّفه، فحين ننظر للمستقبل فإننا نُريد مُستقبلاً مفتوحًا، مُستقبلاً مليئًا بالاحتمالات والخيارات والإمكانات؛ لكننا لانسمح للماضي بذلك، بالطبع لست أحاول أن أُنكر الماضي أو حقيقة التاريخ فهذا ليس هدفي، أُدرك أنَّ هناك الكثير من الظواهر في الماضي التي من المُمكن تفسيرها بطريقة تُحقق إستفادةً مُستقبلية، لكنني آمل أن يكون ما نطلبه من المُستقبل بأن يكون مفتوحًا لإمكانياتٍ كثيرة هو ذاته ما نريده من الماضي.


ألينا سكن: هل يمكن أن تعطينا مثالاً لمشروع يتمحور حول الاختلافية؟

سيغفريد زيلينسكي: أعمل حاليًا على مشروعٍ لإقامة معرضٍ أطلقت عليه «Allahs Automata» يُعرض فيه أنظمة ذاتية التشغيل صُممت في العلم العربي في الفترة بين 800 و1200، قلةٌ من الناس تُدرك أنَّ تلك الفترة التاريخية كانت شديدة الغنى علميًا وقدمت ثقافةً تقنية عالية لهندسة متطورة وأبحاثٍ تجريبية في بلاد ما بين النهرين وفي الأندلس بالطبع وأجزاء أُخرى في الإمبراطورية الإسلامية، لذلك فإنَّنا حين جمعنا المادة البحثية الخاصة بتلك الفترة وأعدنا فهمها وجدنا صورةً مُختلفةً تمامًا للثقافة الإسلامية عن تلك الصورة الشائعة حاليًا للأحداث الحالية في سوريا ولبنان، كما أنَّني أعمل على هذا المشروع مع سوريين ولبنانيين وهذا جانبٌ مُهم كذلك.


ألينا سكن: كيف تحافظ على التزامك الأخلاقي عند دراستك للثقافات غير الغربية مثل ثقافة شرق آسيا والثقافة العربية الذي يتضمن أن لا تفرض عليها شيئًا خارجًا عنها حين تدرسها من خلال الثقافة الغربية؟

سيغفريد زيلينسكي: يجب أن يكون الحوار مع الثقافات الأخرى حقيقًا، كما يجب أن تكون حريصًا أشدَّ الحرص على أن لا تفرض ما تعرفه من الفلسفة الغربية على تلك الثقافات، وفي واقع الأمر إنَّ الاتِّصال مع الثقافات الأخرى ضروريٌ للغاية، وبالنظر إلى المنظور الغربي الحالي للعالم نجد أنه ضيق جدًا؛ لكنَّنا حين نحفر عميقًا في طبقات التاريخ نجد أن هناك غنى هائل وتنوع في ثقافاتٍ أخرى لا نملك أي فكرةٍ عنها، وبالتالي فأن نحفر عميقًا في الزمن ليس ببساطة أن نجد ما هو قديمٌ في الحديث؛ فكلما ذهبت أعمق عموديًا في الماضي كلَّما أدركت أنَّ من الواجب أن أوسِّع بحثي أفقيًا لأنظر للمجالات الثقافية الأخرى.

فعندما أذهب لهونج كونج على سبيل المثال سأحوال إدراك مشروعٍ أعمل عليه منذ مدة يتعلّق بالرياح والمِلاحة، لقد كانت الرياح شديدة الأهمية في الماضي في الكثير من المجالات؛ منها على سبيل المثال نشر المعرفة والسِّلع والثَّقافة من خلال حركة السُّفن التي كانت تُعدّ أهم وسيلة نقل حينها، أنا واثق أنَّنا بحاجة لإعادة فهم الرياح وكيفية التعامل معها مُستقبلا.

أعتقد أن من المُمكن إنشاء مشروعٍ حول الرياح والملاحة مع أشخاص من منطقة المحيط الهادئ والمناطق المُحيطية الأخرى؛ ممَّن هم على اتِّصال مع بحار العالم، وليس فقط مع المناطق الصغيرة حول البحر المتوسط، يُعدّ النظر إلى الثقافات الأخرى أمرًا حتميًا ببساطة في هذا البحث؛ إذ إنَّه يظهر مدى قصر نظر الفلسفة الغربية، فإيمانويل كانت الذي تعوَّد أصوله إلى بروسيا الشرقية ، لم يتعدَّ فعليًا مسقط رأسه في كونيغسبرغ إلا ببعضة أميال رغم كونه أنبل مُفكر في الكوسموبوليتية\الكونية في تاريخ الفلسفة الألمانية الشرقية، فقد أمضى كلَّ حياته يدور حول مسقط رأسه وكأنَّه مرتبطٌ بحبل سُري به. هيجل لم يرَ البحر قط؛ وبالرغم من ذلك قد كتب عن البحر الأبيض المتوسط بل إنه قد أكد على دوره الجغرافي مُستندًا في كتابته على ما قرأه في بعض مُذكرات السفر، لم يكن لديه أيُّ تصورٍ عن البحر، لم يشتم مرةً رائحة البحر؛ وبالتالي كيف له أن يتخيل العالم أو يكتب أي شئٍ عنه؟

كُثرٌ من صغار السِّن في هذا الجيل والطلبة لا ينتمون لأي دولةٍ أو إقليم بعد الآن؛ فكلهم قد ولِدوا في مكانٍ ما ونشؤوا في غيره ودروسوا في مكانٍ ثالثٍ وهلُّم جرا ، لكن هذا أمرٌ مُختلفٌ تمامًا عمَّا كان عليه الحال في القرن التاسع عشر، وبالتالي فإنَّ هذه التغييرات تُبرز حاجتنا لإيجاد أساليب تفكيرٍ مُختلفة.


ألينا سكن: هل تعتقد أن ضياع الوطن مُشكلة؟ هل البشر ممُتناثرون جدًا ومُقتلعون تمامًا من جذورهم؟

سيغفريد زيلينسكي: لا أعتقد ذلك؛ فأنا أعتقد أنَّ الوطن أمرٌ شخصيٌ جدًا، لقد تعلَّمت من فيلم فلاسر أنَّ الوطن إشكالي، وبالتالي قد تكون خسارتك لوطنك شكلاً من أشكال التَّحرر؛ فبخسارتك له تبدأ سعيك لإيجاد وطنٍ جديد وبالتالي تجربة جديدة؛ فالوطن لم يُعد يُعرّف بأنَّه الأصول أو الإقليم، بل من المُمكن أن يتمثَّل في كتابٍ جيد أو حوار أو نشاط مألوف أو نشاطٍ تعاوني، قد يبدو هذا شاعريًا جدًا وغير واقعي، لكن هكذا تبزغ الأفكار الجديدة؛ وبالتالي فإنَّ علينا تطوير مفاهيم جديدة والتي من المُمكن أن تساعدنا لمواجهة هذا الوضع السياسي السخيف الذي نواجهه حاليًا، ما زلنا نُفكِّر بمفهومنا القديم عن الوطن وحدوده ، لكن هناك بعض المساعي للتَّفكير فيما وراء ذلك، ولا يمكننا طلب ذلك من السياسيين؛ لأن التَّفكير بهذا الأسلوب ليس وظيفتهم ببساطة، وبالتالي فإنَّ ذلك التفكير هو مسؤوليتنا مُفكرين وفنانين وآخرين لديهم القدرة على الإصغاء لإرادتهم الحرة هي أن نطوِّر أفكارًا جديدة.