لعب الطلاب على مدار التاريخ دورًا فعالًا في التفاعل المجتمعي المؤدي إلى التغيير في شتى جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليس فقط على المستوى الداخلي ولكن في التفاعل مع القضايا الإقليمية والدولية. وتعتبر الحالة المصرية أحد أبرز النماذج بين تلك الحركات الطلابية العالمية، فهناك اهتمام أصيل لدى المجتمع المصري بالتعليم، ويتساوى في هذا الأمر الغني والفقير، فالغالبية تحرص على أن يتعلم أبناؤها وبناتها بالمدارس ثم الجامعات، بل ويتجاوز الأمر الإرادة الشعبية المحلية إلى الإرادة الشعبية الإقليمية سواء عربية أو أفريقية أو إسلامية، فآلاف الطلاب الوافدين يقصدون مصر للدراسة بجامعاتها المختلفة ويضاف إلى ذلك خصوصية الازهر كجامعة علمية يقصدها على مدار التاريخ عشرات الآلاف من الشباب للتعلم.


كيف كانت الحركة الطلابية فى مصر

تجدر الإشارة أن المؤسسات التعليمية الأكثر قدمًا وشهرة كالأزهر وجامعة القاهرة إنما هي وقف أهلي من الناس، فكانت لها مواردها واستقلاليتها لسنوات طويلة، ومع الاستقلالية تزداد الحرية في التعلم والتعبير والحوار، وهو ما يؤدي إلى زيادة الانتماء إلى المكان وإلى البشر، فتعلقت قلوب الطلاب المصريين وغيرهم بمصر وعلمها وعلمائها، فكانت الانتفاضات المتلاحقة بالأزهر ضد الاحتلال الفرنسي، تفاعل فيها الطلاب مع العلماء مع التجار في مجتمع أهلي متعلم ومترابط، فلا نتعجب أن نجد طالبًا أزهريًا عربيًا كسليمان الحلبي هو الذي يقوم بأكبر مهمة وطنية مصرية باغتيال الحاكم الفرنسي العسكري كليبر.

شهد الاستعمار البريطاني مقاومة طلابية تمثلت بدايتها بثورة 1919

وتوالت الأحداث وجاء الاستعمار البريطاني، وشهد خلال تلك الفترة استمرارية مقاومة الطلاب، فهناك دور أصيل للطلاب في ثورة 1919. وفي نوفمبر 1945 تحركت جموع الطلاب متضامنة مع فلسطين وأندونيسيا وتوالت الأحداث التي وصلت للاشتباك مع قوات الاحتلال فيما يعرف بانتفاضة 1946 التي طالبت بإلغاء معاهدة 1936 مع الإنجليز، وفيها تعاون طلاب المدارس وطلاب الجامعات وكذلك العمال وطالبوا باعتبار يوم 21 فبراير يومًا لجلاء الإنجليز، وذات اليوم تم اعتباره اليوم العالمي للطالب بسبب هذا الحراك الطلابي المصري، ودعوا إلى إضراب عام استجاب له الناس في مواجهة الإنجليز وانتقل الصدام إلى المحافظات وقد نجحت الانتفاضة في الضغط على الحكومة المصرية وكذا المستعمر البريطاني وتمت الاستجابة لعدة طلبات كمحاولة لاستيعاب الحراك الطلابي وتهدئته.

وفي عهد الرئيس عبد الناصر كان هناك تضييقًا كبيرًا على العمل العام بشكل عام بما في ذلك الطلابي، إلا أن تجربة منظمة الشباب والتي يمكن أن نعتبرها الذراع الشبابي للاتحاد الاشتراكي في ظل نظام الحزب الواحد لها بعض الإيجابيات حيث أفرزت قيادات شبابية لعبت دورًا هامًا في الحياة السياسية المصرية. وفي عهد الرئيس السادات وسياسات الانفتاح وتعدد الأحزاب، ومن قبلها رغبة القيادة السياسية في عدم هيمنة التيار الناصري الشبابي على الجامعات وفتح المجال أمام التيارات الأخرى بما فيها الإسلامية في ظل سياسة تفكيك مراكز القوى الناصرية المناوئة للسادات، فكان للحركة الطلابية دور كبير، ولعل من بين أشهر أسباب الإسراع بالقيام بحرب 1973 المظاهرات الطلابية في مصر.

أما في عهد الرئيس مبارك فقد استمرت الحركة الطلابية في العمل وكان جزءًا كبيرا من نشاطها اجتماعي ومظاهرات موسمية كتفاعل مع أحداث خارجية، كالقضية الفلسطينية والحرب السوفيتية على أفغانستان ثم ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وهكذا، إلا أنه خلال فترة مبارك بدءًا من التسعينيات بدأت نماذج المحاكاة الطلابية في الظهور ويزداد تأثيرها وانتشارها وهو ما سنتناوله في الفقرة التالية.


ظهور مفاجئ

اعتاد الطلاب على شكل تقليدي من الأنشطة في قالب اتحادات الطلاب في الكليات والجامعة بلجانه الثقافة والرياضية وغيره، إلا أنه في ظل مجال عام مخنوق وانعكاس ذلك على الجامعات وعدم السماح لتيارات المعارضة خاصة الإسلامية من الوصول إلى مقاعد برلمانية ومن ثم مناصب طلابية، أو الوصول إلى درجة من المواءمات التي أضعفت بشكل كبير الاتحادات الطلابية وجعل الطلاب الناشطين يعزفون عنها.

استوردت الجامعة الأمريكية بالقاهرة مع مطلع التسعينيات وحرب الخليج الثانية فكرة نماذج المحاكاة

استُوردت الجامعة الأمريكية بالقاهرة من الجامعات الأمريكية مع مطلع التسعينيات وحرب الخليج الثانية فكرة نموذج محاكاة جامعة الدول العربية ومن قبلها الامم المتحدة، وفتح الباب أمام نخبة من الطلاب للمشاركة بما في ذلك طلاب بعض الجامعات الحكومية المصرية، ثم انتقلت الفكرة إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وكان بمثابة نشاط طلابي مقتصر على نخبة جلها من دارسي العلوم السياسية في ذات الكلية.

ثم تطور الأمر مع الوقت ليزداد عدد نماذج المحاكاة إلى أن وصلت اليوم في هذه الكلية إلى ما يزيد عن عشرين نموذجا بين الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوربي ومنظمة التعاون الإسلامي فضلًا عن محاكاة مجلس النواب، ووزارة الخارجية، ذلك إلى جانب انتشار الفكرة في كليات أخرى بأشكال أخرى فنجد نموذج الاتحاد الأفريقي في معهد الدراسات الأفريقية في جامعة القاهرة، وتولدت مع الوقت أنشطة طلابية أخرى تنتهج نهج نماذج المحاكاة وإن كانت لا تحاكي منظمة أو مؤسسة، فنجد أنشطة في كلية الهندسة على سبيل المثال تهتم بالتنمية البشرية ويضاف إليها تطوير مهارات التخصص، وكذا في بعض كليات الطب، فضلًا عن الأنشطة الأخرى الخيرية والاجتماعية كعلشانك يا بلدي ورسالة حيث كانت البداية في الجامعة ثم تجاوزت أسوار الجامعة إلى التنمية المجتمعية.

ففكرة المحاكاة فكرة تعليمية مبتكرة كانت بدايتها في العصر الحديث في وكالة الاستخبارات الأمريكية عبر تهيئة بيئة متكاملة يعيش فيها الأفراد حالات نظم أخرى لمحاولة الوقوف على طريقة تفكيرهم وردود أفعالهم إذا ما انتهجت الولايات المتحدة سياسات تجاههم، وكالإنترنت الذي بدأ كصناعة عسكرية أمريكية ثم انتقل إلى المجال المدني نجد نماذج المحاكاة التي انتقلت إلى الجامعات كوسيلة تعليمية مبتكرة.


الشباب المصري ونماذج المحاكاة

اتجهت النخب الشبابية إلى المشاركة في هذه النماذج الطلابية كمحاولة منها لخلق مجال عام افتراضي في ظل تضييق المجال العام، فضلًا عن نظام تعليمي تقليدي يعتمد على التلقين، فبدأ الشباب يكتشف مهاراته وتزيد ثقته بنفسه، ويزيد اهتمامه وانتماؤه لوطنه، في شكل من التكافل الطلابي الثقافي، فالطلاب يعلمون بعضهم البعض ويعتمدون على أسلوب الحوار والنقاش، ويناقشون كافة القضايا المحلية والإقليمية والعالمية، ويتخذون قرارات في مؤتمراتهم الختامية تبهر المسئولين إذا ما رأوا مستوى الطلاب والطاقات الكامنة بداخلهم.

ظل الطلاب يطورون من نماذج المحاكاة ليضيفوا إليها أبعادًا جديدة، فيضيفون البعد الخيري إلى جانب الثقافي كأن يدشنوا حملات خيرية تنموية في العشوائيات وفي القرى إلى جانب الحفاظ على نشاطهم الثقافي الأساسي، كما أضافوا أقسامًا بهذه الأنشطة الجامعية توجه إلى طلاب المدارس بهدف تنمية المهارات والتوعية، ومنهم من أضاف إلى أنشطته التوعية والتنمية في ملاجئ الأيتام كما فعل نموذج محاكاة منظمة التعاون الإسلامي.

أصبحت نماذج المحاكاة ذكرى وذاكرة حية يستمد منها الشباب طموحاتهم وأحلامهم الشخصية ولوطنهم ولعالمهم.

وحين الوقوف بقرب ومتابعة العديد من الطلاب بعد تخرجهم من الجامعات وتلك الأنشطة تجد أن الترابطات الاجتماعية بل وربما العائلية في بعض الحالات نتجت عن التفاعلات في تلك النماذج فأصبحت ذكرى وذاكرة حية يستمد منها هؤلاء الشباب طموحاتهم وأحلامهم الشخصية ولوطنهم ولعالمهم.

وحينما بدأت أحداث 25 يناير وما تلاها من إبداعات شبابية ومبادرات مجتمعية وفنية وإصلاحية وسياسية فنجد أثر نماذج المحاكاة بارزًا في أسلوب الحديث والعمل والتفاعل للشباب بشكل مبدع غير معتاد إلى الدرجة التي تعجب بها بعض المحللين والإعلاميين من قدرة الشباب على الحديث والحوار وتسجيل نقاط الحديث والمناقشة، ولعدم اطلاعهم على تجارب مبدعة وتقولب هؤلاء الناس لم يجدوا إلا الظن بهؤلاء الشباب واتهامهم بالتدريب الخارجي وغيره في الوقت الذي تعلم غالب هؤلاء الشباب القدرة على الحوار والتعبير عن الرأي بقوة وحرية وذكاء وإبداع في نماذج المحاكاة، في الوقت الذي افتخر فيه آخرون بنماذج من الشباب المصري وقدرته الحوارية وزاد الاهتمام بأهمية الأنشطة الطلابية والمجتمعية، إلى أن عاد المجال العام إلى الانغلاق من جديد.


مستقبل أثر نماذج المحاكاة

عاد المناخ والمجال العام إلى الانغلاق من جديد فهناك من يبرر ذلك بحساسية الأوضاع الأمنية والضرورة في ذلك، بينما يرفض آخرون ذلك، وفي نهاية الأمر بقيت نماذج المحاكاة كمتنفس صحي للتعبير والحوار واكتساب المهارات. بالقطع يشكو الكثيرين من إدارات هذه الأنشطة من حالة التضييق العامة وأثرها عليهم، وميل إدارات كثير من الجامعات إلى سياسة المثل الشعبي الشهير «الباب اللي يجيلك منه الريح.. سده واستريح»، فلم يعد التحفيز والتشجيع الذي كان بعد ثورة يناير لشباب الجامعات، إلا أن أغلب النماذج الطلابية مستمرة في عملها ويستمر الإقبال عليها من الطلاب.

الحرص على تلك الأنشطة وبقائها ونمائها إنما هو أمر ضروري لإكمال شخصية الشباب وتوازنهم

إن الحرص على تلك الأنشطة وبقائها ونمائها إنما هو أمر ضروري لإكمال شخصية الشباب وتوازنهم، وغرس المعاني الوطنية ومواجهة أشكال اليأس الاجتماعي والسياسي والثقافي. وأن تلك النماذج الطلابية تتحرك في إطار ما يعرف بالمجال العام فلا تتفاعل مع القضايا السياسية الضيقة ولكن مع تجويد التعليم والتثقيف والتفاعل الاجتماعي والإنساني وبناء الوعي والثقافة.

على من يدير تلك الأنشطة من الشباب وممن تخرجوا منها، أن يكملوا ما بدأوه في الجامعة إلى خارج أسوارها عبر مشروعات لريادة الأعمال الاجتماعية يجمعون فيها بين الهدف الثقافي والاجتماعي الخدمي والقيمي وبين المكسب المالي الذي يعينهم على استمرار حلمهم بالمساهمة في التغيير والاصلاح في المجتمع، وألا تضيع أحلامهم تحت عجلات لقمة العيش والوظيفة البيروقراطية سواء في قطاع عام أو خاص، بل يبدأوا مشروعاتهم الخاصة على ذات الرسالة التي تعلقوا بها في أنشطتهم، وبالتعاون مع زملائهم من تلك الأنشطة، وهو أمر ممكن وضروري، إلا أنه يحتاج إلى رؤية ونماذج من دول العالم شبابية نجحت في ذلك، وهو ما يمكن أن نتناوله في مقالات قادمة بإذن الله تعالى، على طريق حلم الطلاب والشباب في تنمية شاملة لوطنهم وللعالم.