يصفه كثيرون بأنه الفيلسوف الأخطر في الغرب، وُلد وعاش فترة من الزمن في يوغوسلافيا الشيوعية التي عرّضته لمضايقات بسبب آرائه الخارجة عن النظام السائد، من ضمنها كان سعيه إلى مصالحة التحليل النفسي (بالتحديد مدرسة جاك لاكان) بوصفه مدرسة تركز على الفرد وتصالحه مع السياسات الجماعية، حيث كان أحد مؤسسي «جمعية التحليل النفسي» في سلوفينيا. إنه سلافوي جيجك، الفيلسوف أو «الروك ستار» اليساري الماركسي غزير الكتابة وذائع الصيت على اليوتيوب.

في مقدمة كتابه «سنة الأحلام الخطيرة»، يستدعي جيجك مثلًا فارسيًا هو «و نام نهادن» الذي يعني «أن تقتل شخصًا، وتدفن جثته، ثم تنمي زهورًا حول الجثة لتخفيها». مقربًا بذلك آلية عمل الأيديولوجيا التي تحرم المجتمع من حريته.

في النظرية الماركسية،الأيديولوجيا هي الوسيلة التي تقبل من خلالها الشعوب/الطبقات المُستغلَة، تصورات مزيفة/غير دقيقة عن العالم والمجتمع لا تخدم مصالحها، وإنما تخدم مصالح الطبقات الحاكمة التي تقدم تلك التصورات باعتبارها «حقائق كونية»، برغم كونها مُستحدَثة ويُشترط وجودها بالشرط الاقتصادي الاجتماعي لحقبة تاريخية معينة.

تمثل الأيديولوجيا مركز اهتمامات جيجك، منطلقًا من التصور الماركسي التقليدي سابق الذكر، ومطورًا إياه بالاستعانة بأفكار المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، يحاول جيجك (إلى جانب بحثه الأعم كفيلسوف حول المعرفة) اكتشاف السياسة عبر موضوعات غير مرتبطة بها ظاهريًا كالسينما والأدب الرائج (التي يراها أهم مواقع فحص الأيديولوجيا اليوم)، بهدف تحليل وتعرية الأيديولوجيا التي يتلخص تعريفه لها في كونها «بناء الهوية الذاتية عبر اللغة»، بحيث تكون الهوية في تلك الحالة هي هوية الفرد في المجتمع الرأسمالي التي تضمن استمرارية الأخير عبر استمرار علاقات الإنتاج/القوى.

الأيديولوجيا بالنسبة لجيجك انعكاس علاقات القوة المسيطرة على المجتمع كما في التقليد الماركسي، لكن جيجك يركز على طابعها اللغوي (الرمزي) ضمن أفكار التحليل النفسي عن الذات والأنا الأعلى، بحيث تُترجم علاقات الإنتاج/القوى إلى اللغة في علاقة تبادلية (تعيد العلاقات إنتاج اللغة وتعيد اللغة إنتاج العلاقات وتضمن استمراريتها/شرعيتها)، بحيث تمنع تلك العلاقات/اللغة، المجتمعَ كما سبق القول من الحصول على حرياته. إذًا لدى جيجك، لا قمع دون أيديولوجيا ليست فقط تحميه أو تبرره، وإنما تنتجه.


ما الأيديولوجيا؟

ينطلق جيجك من أفكار المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان حول ما يسميه «النظام الرمزي». والنظام الرمزي اختصارًا هو أي نظام تواصل ممثل في لغة أو نظام للإشارات/للدلالات، حيث مجموعة من القواعد والبديهيات والإلزامات والمحرمات التي تعطي مدلولًا/معنى ما للأشياء/الواقع الخارجي.

يمثل النظام الرمزي إذًا القالب الذي تتشكل خلاله الأفكار والاستجابات، وتمثلات الأشياء/العالم الخارجي في الذهن، كما تعريف الصواب والخطأ، وطرق ومستويات ومحركات دفع أو كبت أو تمييز الأهواء. باختصار، يمثل النظام الرمزي القالبَ الذي تتشكل خلاله الهوية أو الذات بطريقة لا واعية، حيث لا تكون قواعد النظام الرمزي حاضرة بشكل واعٍ داخل الذهن بالطريقة التي لا يعي بها الذهن القواعد الإعرابية للغة أنثاء الحديث.

في صياغة أخرى، فإن النظام الرمزي موجود قبل أن «أُوجد»، لأنه هو الذي يُوجدني، ويوجدني هنا بمعنى أنه الذي يخلق مني «ذاتًا» أو «أنا» فردية، بمعنى أنه يخلق وعيي بنفسي، بوجودي، بحيث يتحول التصريح الديكارتي «أنا أفكر إذًا أنا موجود» إلى «أنا أتكلم إذًا أنا موجود».

والكلام هنا لا يعني مجرد فعل صوتي أو تواصل مع آخر، وإنما هو وسط إشاري/دلالي يمرّ من خلاله الوعي/الإحساس بالعالم الخارجي، بحيث تتكون الذات (التي لم توجد قبل ذلك) ليس من نواة داخلية فطرية، أو من انعكاس صافٍ داخل النفس لوقائع العالم الخارجي، وإنما من انعكاسات/تمثلات قواعد النظام الرمزي عن ذلك العالم داخل النفس.

تُحدِد قواعد النظام الرمزي طريقة انعكاس وقائع العالم الخارجي داخل النفس، أي طريقة استجابة وتفسير النفس لتلك الوقائع، بحيث تكون الحالة الذاتية «مؤسسة على النقص»؛ ذلك النقص المتمثل في عدم إدراك قواعد الاستجابة في لحظة الاستجابة ذاتها، أي بعد أن تُحدث الاستجابة في النفس أثرًا هو بمثابة لبنة في بناء الذاتية، ذلك النقص غير المُدرك هو «اللاوعي» الذي يمثل نقطة مجهولة/عمياء في الذات تؤكد فراغ ووهمية الذاتية نفسها. الواقع (على عكس ديكارت) موجود إذًا والمسألة هي «أنني نفسي غير موجود».

يحتفظ جيجك بالثالوث الفرويدي الكلاسيكي: الأنا (الذات)، والهو (الدوافع الغريزية)، والأنا الأعلى (الإلزام الأخلاقي المتكون داخل النفس الذي يمثله الأب في الصغر ويتحول فيما بعد لما يسمى بالضمير/النظام الثقافي للمرء).

يستعمل جيجك مصطلح «الآخر الكبير» الذي يمارس الإكراه الذي يعني هنا تبرير حيادية النظام الرمزي فيما بتعلق بتكوين الذات، أي أن «الآخر الكبير» يضغط على «الأنا» لإقناعها بأن النظام الرمزي (المنحاز بداية لعلاقات القوى داخل الأسرة/المجتمع) هو نظام محايد يُمكّن «الأنا» من الحصول على معنى مُوحد (سيوجد دائمًا حتى لو تغيرت قواعد النظام الرمزي) ومحايد.

لكن ما يحدث هو أن الذات ليست فقط نتاجًا للغة والنظام الرمزي، وإنما تُنتَج من أجلهما، من أجل ضمان استمراريتهما. أما المعنى فهو خاضع للنظام الرمزي نفسه وحتى الاعتراف بتبعيتنا له لا يتم سوى بالمرور عبر النظام الرمزي نفسه الذي يمثل لدى جيجك «دستورًا غير مكتوب للمجتمعات»، أو أيديولوجيا «الصواب والخطأ»، و«الشرعي وغير الشرعي» التي يفرضها «الآخر الكبير» (المُتخيل تمامًا كما أن الذات مُتخيَلة) الذي هو شبكة علاقات القوى والإنتاج.


أيديولوجية الرأسمالية المعاصرة

يحدد جيجك «الأنا الأعلى» الغربية المعاصرة بأيديولوجيات «الاستهلاك» و«المتعة» و«السعادة» الليبرالية المعاصرة. استمرت «الأنا الأعلى» (قوة السلطة الأخلاقية المسيطرة على الفرد) في الوجود برغم إعلان نيتشه «موت الإله» في القرن التاسع عشر. استمرت تلك الأنا منذ القرن التاسع عشر وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية لكن ممثلة في صورة «المواطن الجيد» سواء كان «الديمقراطي الغربي الجيد» أو «الشيوعي الجيد»، حتى تم استبدالها فيما تلى ثورات 1968 مع استيعاب الرأسمالية لمجمل الثقافة المضادة لها في نسيج «أناها العليا».

استوعبت الرأسمالية بنجاح المساواة والخطاب المعادي للتراتبية الخاص بثورة الشباب في 1968، مقدمةً نفسها بوصفها الروح الجديدة التحررية التي يمثلها رأسماليون (cool) لائقو المظهر؛ فبدلًا من مدير الشركة أو المصنع القاسي، أو الممتعض، أصبح هنالك المدير الذي يرتدي «الجينز» ويحتضن الموظفين، بالرغم من أنه لم ولن يتوقف عن إعطاء الأوامر، لكنه يتظاهر بالصداقة. ذلك هو الأب البدائي/ما بعد الحداثي الأخطر في رأي جيجك، لأنه يمارس عنفًا رمزيًا أشد قسوة لأنه يُحمّل الموظف مشاعر طيبة تجاه عملية استغلاله التي تتم بطريقة مقنّعة.

فإذا كانت الحالة الأولى قد مثلت أنا السلطة الأبوية التقليدية العليا (الأب الأوديبي)، فإن الحالة المعاصرة (ما بعد الحداثية) تُمثل أنا سلطة أبوية «بدائية» رسالتها/إلزامها هي «المتعة». فعلى عكس التحفط الأبوي الكلاسيكي (الأوديبي) إزاء المتعة، صارت المتعة أمرًا واجب التنفيذ، يتوازى ذلك مع سيطرة القيم الاستهلاكية. وإذا كان ماركس قد بيّن أن آلية الإنتاج الرأسمالي ليست موجهة بالأساس من أجل «المنفعة المتحققة من المنتج»، ولكن لضمان استمرارية عملية الإنتاج ذاتها، فإن آخرين كُثر خلفه (من هربرت ماركيوز وحتى جي ديبور وجيجك نفسه) قد بيّنوا أن رسالة «المتعة» ليست لأجل تحقيق المتعة بالفعل، وإنما لأجل ضمان نفس الغاية، أي استمرار عملية الإنتاج ذاتها. كيف ذلك؟

يوضح جيجك أن الضغط الإلزامي للسعادة جعل الناس عمليًا غير سعداء، لأن ما تقرره الأنا الأعلى ليس المتعة وإنما «محاكاة لفكرتها»، لقد تحدث الفيلسوف الفرنسي جي ديبور من قبل عن المجتمع الاستعراضي قريب الصلة بتصورات جيجك عن المحاكاة، حيث تقوم الحياة الآن على ما «نشاهده ونشتريه ونستهكله، أكثر مما نفعله أو نصنعه»، بحيث يكون إنسان المجتمعات المعاصرة مُجرد مُتلق سلبي للتصورات الاستهلاكية حول السعادة التي يُصدرها الإعلام بوصفها شراء المزيد من الأشياء.

يُعد «إشباع/تحقق المتعة» عبر استهلاك سلعة ما هو بمثابة قضاء على دورة الإنتاج الرأسمالية ذاتها، لأن تلك الأخيرة تعتمد على إرجاء الإشباع/التحقق حتى إشعار آخر، ذلك الإشعار هو سلعة أخرى تخلق دورة إنتاج جديدة وهكذا (أنت تملك آيفون 7 لكنك لا تشعر بالسعادة لذلك لأن هناك آيفون 8 جديد لم تمتلكه بعد). السلعة «س» لا تخلق السعادة وإنما الطلب على السعادة، وبالعودة إلى جيجك فإن فرض السعادة من قبل الأنا الأعلى هو حيلة النظام الرمزي للأيديولوجيا المعاصرة لخلق الطلب على السلع وبالتالي ضمان استمرار عملية الإنتاج، وليس تحقيق سعادة فعلية.

وعمومًا يرتبط مفهوم «المحاكاة» في فلسفة ديبور وأيضًا جان بودريار (فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي) بالواقع الافتراضي المستحدث مع تطور التكنولوجيا الحديثة. يتحدث الاثنان عن تقديم التمثيل على الواقع، «لا شيء يحدث ما لم يتم تمثيله»، مما يقود إلى «أيديولوجيا الإعلان» لدى جيجك الذي يقسم الإعلان إلى ثلاثة أبعاد:

الأول: البعد التخيلي، أي السردية أو الحبكة التي تمثل مضمون الإعلان.

الثاني: البعد الرمزي في الإعلان، وهو توضيح المكانة الاجتماعية المُكتسبة في المجتمع الطبقي نتيجة امتلاك السلعة (يقول لك الإعلان مثلًا إن هذه السيارة ننتجها للنخبة وليس لغيرهم).

الثالث: بُعد التجربة المُستحدث في ما بعد الحداثة، فالإعلام يمثّل لك الخبرة المعاشة أثناء استهلاك السلعة (متعة تذوق قطعة من الشيكولاتة مثلًا أو الجاذبية الجنسية لعطر ما)، هو استعراض كيف يجعل المتتج لحياتك معنى، في حين أنه غالبًا ما يتم عرض منتجات منزوعة من عناصرها (قهوة دون كافيين أو جنس «ميكانيكي» حيث مجرد أداء وظيفي للأدوار دون شعور باللذة أو الحب).


الحرية: كيف؟

يقع المضمون الحقيقي للتحرر عند جيجك داخل شبكة العلاقات الاجتماعية، من الأسرة إلى السوق. ورغم الوقوع في «الوضع ما بعد الحداثي» الذي يقول فلاسفته إن الاعتقادات فيه، وإن استمرت، فإن أحدها لم يعد صادقًا أكثر من الآخر، فإن جيجك يرى أنه لم يزل بالإمكان الإمساك بالحقيقة خلف شبكة العلاقات الاجتماعية/النظام الرمزي، عبر الأفعال التي تمكننا من إدراك أن ذلك الأخير هو وهم، وبالتخلي عن كل ما هو ممكن من المثالية، وبالتالي تحقيق الانتصار على الأنا العليا بالتخلص قدر الإمكان من قواعدها الإلزامية.

يكمن التصور التحرري إذًا في ذلك الارتياب الموجه نحو العالم الخارجي، لأنه في الوقت الذي لا يصبح فيه شيء ثابتًا أو مقدسًا، أو متحققًا كأحد أشكال الفطرة أو الطبيعة خارج علاقات الإنتاج/النظام الرمزي، فلا شيء إذًا في العالم الخارجي (الواقع) كي يعمل على تثبيت إحداثيات الذات المُختلَقة، وما يتبقى هو مواجهة مع المُتخيَل في بنية النظام الرمزي، بصفته متخيلًا غير واقعي وغير ثابت.

لكن جيجك يقبل (رفقة ماركس وفرويد/لاكان) بأن الوعي التام بالنفس مستحيل سواء لتشكلها عبر الاقتصاد (ماركس) أو اللغة (لاكان)، حيث يؤكد لاكان على أنه من دون «نظام مصطنع/رمزي» ينظم الواقع والمعنى، فإن الفرد يتوقف عن الوجود، حيث إن التخيلات هي التي تبني الواقع، بينما فكرة انسحاب التخيلات عبر طرد اللغة والتعبير معًا لا تعني سوى الانهيار النفسي. لذا فالمسألة بالنسبة لجيجك تظل في التخلص من القواعد الإلزامية الحالية للأنا الأعلى (وربما إحلال أخرى جديدة مكانها)، وليس في التخلص من مكبوتاتنا اللاواعية.

تنجح مهمة التحليل النفسي إذًا عندما يقتنع المرء بأنه «غير موجود»، ذاته وأناه العليا (سلطات المسموح والمحظور من القول والفعل، وتعريفات السلوك القويم) التي اختلقها المجتمع الرأسمالي هما وهم، اقتناع يصل إليه بكامل حريته؛ لأنه بالتوصل إلى وهمية ثبات ووحدة الذات يتم التغلب على الحضور المسيطر للأنا الأعلى. يتمثل الأمر في التوصل إلى حقيقة أن الذات (الحالية) ليست أبدية، بل يمكن الانفصال عنها، وبالتالي عن الأنا الأعلى.

بينما على المرء تحمل مسئولية أفعاله بأقصى قدر ممكن بعيدًا عن إملاءات الأنا الأعلى، وجوهر ذلك ليس في أداء المرء لواجبه (لأنه غالبًا ما يكون مُقررًا بشكل مسبق من قبل الأنا الأعلى)، وهو الواجب الذي تفرضه عليه علاقات القوة داخل المجتمع الرأسمالي لخدمة مصالح الأخير، وإنما جوهر مسئولية المرء هو تقرير ما هو واجبه مجددًا من أجل التحرر (الفردي والجماعي) من قيود ذلك المجتمع، مرة تلو الأخرى.