ظهر لنا الأهمية الجوهرية للمواد في الأسماء التي نطلقها على مراحل الحضارة كالعصر الحجري، العصر البرونزي والعصر الحديدي، حيث تأتي المادة الجديدة بحقبة جديدة من الوجود البشري.
الأشياء تهم، مارك ميودونيك.

في حقبة نقوم بتعريف كل اختراعاتها على أنها «ذكية»، كان من الضروري أن تكون المواد اللازمة لصنع هذه الاختراعات الحاذقة ذكية بدورها. أنت ببساطة لا تقوم بصنع كمبيوتر من صخرة على قمة جبل، ولا تستطيع أن تحصل على أجهزة استشعار sensor من كتلة أسمنتية.

لهذا كان على تطور المواد أن يتخذ منعطفا جديدا، فبعد أن كانت مهمة الإنسان أن يكتشف موارد الطبيعة ويسيطر على موادها ويستمد منها احتياجاته، أصبح يقوم بصنع مواد لم تشهد الطبيعة مثيلا لها ولا لقدراتها. أصبح لزاما على البشر إذن أن ينظروا بعين الابتكار إلى المواد الحيوية ويقوموا بمحاكاتها من الصفر بواسطة مواد غير حية ثم ينقلوا النظر إلى مواد صماء ويعطوها القدرة على التغير والتبدل. أصبح على البشر الاّن صناعة مواد تتفاعل مع محيطها وصانعيها ومستخدميها.


مادة صماء ذكية؟ كيف؟

يختلف البشر في تقديرهم لمعنى الذكاء. هناك من يعتبره القدرة على إتمام سلسلة من العمليات الرياضية المعقدة سواء ذهنيا أو على الورق، وهناك من يعتبره القدرة على الفهم والاستيعاب ثم الاستنتاج مع الأخذ في الحسبان العديد والعديد من المتغيرات مع القدرة على استخدام المنطق. وبين هذا وذاك يرى البعض أن الذكاء هو القدرة على الاستجابة المناسبة للمواقف التي يتعرض لها المرء.

حسنا هذا هو ما نشترك فيه مع المواد الذكية.

يطلق الباحثون لقب مواد ذكية على المواد ذات القدرة على الاستجابة المنتظمة للمؤثرات الخارجية. فبينما لن تتأثر قطعة رخام عند لمسك إياها، ستقوم مادة ذكية باستشعار هذه اللمسة وتسجيلها ومن ثم التجاوب معها حسب نوع الاستجابة التي صممت المادة لتبديه، كأن تتغير في مقاومتها الكهربية بشكل منتظم مع ارتفاع درجة الحرارة على سبيل المثال.

بنفس المنظور، يمكننا اعتبار أن معدل ذكاء المادة هو مقدار انضباط استجابتها لعوامل الضغط المحيطة. وبالتالي فإن المادة التي تستطيع الإحساس بالتغيرات الطفيفة جدا في بيئتها المحيطة وإبداء استجابة واضحة تبعا لذلك هي مادة أكثر ذكاء من غيرها. مع ذلك، تتلو مرحلة الاستجابة مرحلة «تأقلم»، وهي الخاصية التي تصبح المادة ذات أهمية صناعية من أجلها. فنحن البشر نريد هذه الاستجابة مصممة بحيث تعيد التوازن في ظل التغير الحادث، خدمة لراحتنا وتسهيلا لحيواتنا.

لكن ماذا نعني بقولنا «حسب نوع الاستجابة»؟

لدى المواد قائمة طويلة من العوامل التي يمكن أن تتأثر بها وأن تبدي ردة فعل لها في صورة استجابة محسوسة. كذلك فإن لها طرقا لا حصر لها في تغيير أو تثبيت هيكلها أو صفاتها تأقلما مع هذه المثيرات. يمكن للمادة الذكية أن تتأثر بالضغط أو الشد أو درجة الحرارة أو الاحتكاك أو المجال الكهرومغناطيسي.

تستشعر المادة هذه العوامل وغيرها عندما تصل شدتها intensity إلى حد معين نطلق عليه حد التأثر Threshold، فتبدأ برد الفعل على هيئة لون أو تغير في هيكلها أو شكلها structural change أو مقدار مقاومتها الكهربائية أو غير ذلك. تبعا لهذا التسلسل فإن المادة الذكية تدخل في صنع الأنظمة المتأقلمة adaptive systems والتي تتكون من ثلاثة محاور أساسية.

بداية، نجد المستشعر sensor الذي يقوم بالإحساس بالمتغير أو المؤثر وقياس مدى شدته، ثم المشغل actuator الذي يقوم بتعديل النظام ميكانيكيا – أي يقوم بالتسبب في حركة ما- وفقا لما تتطلبه شدة التغير، ثم أخيرا نجد أداة التحكم controller التي تتلقى المعلومات من المستشعر وتتحكم في استجابة المشغل، والتي تعتبر بمثابة عقل النظام.

لن يسعنا حصر كل المجالات التي طالتها المواد الذكية والنظم المتأقلمة ابتداءً من المواد ذات القدرة على الشفاء الذاتي، والمواد الممتصة لموجات الصوت، حتى الحواسيب الفائقة، مرورا بالملابس والنوافذ التي تقوم بتنظيف نفسها، والعقاقير التي تعرف وجهتها داخل الجسم من تلقاء ذاتها. ولأننا كنا قد تحدثنا عن مواد تقوم بتجميع ذاتها سابقا فيما يعتبر إحدى فئات المواد الذكية المهمة، فإننا سنتحدث الاّن عن فئة جديدة ثورية من هذه المواد المثيرة للدهشة. مواد ذاكرة الشكل.


مواد لا تنسى ماضيها

هل استيقظت يوما وشعرت بالملل من فكرة اضطرارك إلى إعادة ترتيب سريرك قبل الذهاب للعمل أو الجامعة؟ حسنا إذا كان سريرك مصنوعا من مواد قامت بتخزين الهيئة المرتبة للسرير قبل أن تنام عليه، فإن مجرد الضغط على زر -ثيرموستات- سيؤدي إلى عودة السرير إلى شكله المرتب في غضون ثوان دون أن تحرك أنت ساكنا.

بدأت هذه المواد في الظهور في خمسينيات القرن الماضي على هيئة سبائك ذاكرة الشكل Shape-memory alloys وبوليمرات ذاكرة الشكل shape-memory polymers and plastics. أما كلمة سبائك فهي تشير إلى مزيج من معدنين أو أكثر ينتج عنه مادة تمتلك خواص مختلفة عن كل من المعدنين على حدة، بينما تشير كلمة بوليمرات إلى هياكل طويلة ومتشابكة من نسخ من نفس الجزيء monomer تتكرر وترتبط معا لتتكون شبكة طيعة أحيانا وصلبة أحيانا أخرى نطلق عليها بوليمرات.

من بين هذه السبائك نجد مادة النيتينول المصنعة من مزيج النيكل والتيتانيوم والتي نشاهدها في هذا المقطع تعود إلى شكلها الأصلي بالحرارة.

لكن ما معنى «ذاكرة الشكل»؟

تتمتع هذه المواد بالقدرة على امتلاك ما يبدو وكأنه نوع من الذاكرة المخزنة فيها التي تستطيع بواسطتها دائما العودة لهيئة معينة بعد أن تمر بحالة من التشوه Deformation. يعني هذا أن هذه المواد إذا تعرضت لمؤثرات قوية أدت لتشوهها وتغير شكلها وهيكلها، فإنها تستطيع العودة باستخدام الحرارة إلى شكلها الأصلي بدقة شديدة كما لو كانت تتذكره طول الوقت.

تخيل قطعة من الطين الصلصال أتتك على شكل زهرة. تناولت أنت قطعة الصلصال تلك وقمت بتحويلها إلى شكل شجرة. إذا تخيلنا أن قطعة الصلصال هي سبيكة تتمتع بذاكرة الشكل فإنك ما أن تعرضها –وهي على شكل شجرة- لحرارة معينة -تعتمد على طبيعة المواد المكونة للسبيكة- فإنها ستتحرك أمامك إلى أن تعيد تهيئة نفسها وتعود زهرة كما لو كانت عصا موسى.

على عكس قصة العصا، فإن المواد ذات ذاكرة الشكل لا تحتوي على سحر أو ما شابه. يعتمد الأمر فقط على مفهوم علمي يسمى انتقال الطور phase transition. من الاسم، يتضح أن المصطلح يعني انتقال مادة ما من طور أو حالة إلى حالة أخرى. يسهل تخيل تحول الماء من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية مثلا، لكن هناك انتقالات طورية تحدث على مستوى أعمق بكثير، انتقالات تحدث داخل بلورة المادة ذاتها.

بواسطة التنويع بين درجات الحرارة والضغط المختلفين، تتحول المواد من حالة إلى أخرى في أنماط منها ما يمكن رؤيته كما في انتقالات الحالات الفيزيائية الصلبة والسائلة والغازية، ومنها ما لا يمكن اكتشافه إلا بواسطة التحليل المختبري وتقنيات التصوير المتقدمة. تلك الأخيرة هي تحولات في التكوين البلوري للمادة، نقصد بذلك كيفية ترتيب الذرات في بلورة المادة ومدى انتظام ترتيب هذه البلورات لتقوم بتكوين تلك المادة.

بهذه المعرفة، يمكننا دائما محاولة تصنيع مواد يتم التحكم في مستوى درجة الحرارة الذي تتطلبه لكي تنتقل من صورتها المشوهة أيا كانت إلى الصورة الأساسية الأصلية لها. تلك الصورة التي تتحدد بواسطة الخواص الكيميائية والكمومية للمادة الذكية والتي تضع حدا أقصى للتغير الذي تستطيع المادة التحول إليه، فيما يبدو لنا كذاكرة أولية.

فيم قد يبدو الأمر مألوفا للبعض، فإن هذا قد يعود إلى السبب الخطأ. لا تقتصر هذه القابلية للتغير على ما نعرفه باسم «المرونة elasticity» التي قد تكون قد مرت عليك في دراساتك الأساسية. فبجانب اختلاف ميكانيكية عمل هذه المواد وخواصها عن ميكانيكية منحنيات الإجهاد والانفعال Stress-strain curves، فإن هذه المواد الذكية تتميز أيضا بقدرتها على تحمل 20 ضعف مستوى التشوه التي تستطيع المواد المرنة تحمله دون أن تفقد قدرتها على العودة لشكلها الأصلي. الأمر الذي يفسر نشاط العلماء في هذا المضمار حتى أصبح لدينا الاّن عددا هائلا من السبائك المكتشف أنها تظهر تأثير تذكر الشكل هذا، من بينها الذهب أو الفضة مع الكادميوم، النحاس مع الزنك أو مع القصدير، التيتانيوم والنيكل، وبالطبع الحديد مع العديد من العناصر من بينها البلاتين والبالاديوم والنيكل، بل الكربون أيضا.

إذا كنت من محبي مشاهدة أفلام الخيال العلمي التي تصور توقعات البشرية لما يمكن أن يحتويه المستقبل من رفاهية وسهولة وكفاءة في أداء كل المهام، فإن مشهد سيارة منبعجة إثر حادث تقوم باستعادة شكلها العادي السليم سيكون من المشاهد التي يمكن أن تتخيلها بسهولة. لكن الأمر لم يعد مشهدا من فيلم تم صنعه بواسطة حاسوب كما أنه ليس مجرد فكرة طور الاختبار يتشدق بها العلماء دون أن يكون لديهم نتائج ملموسة فيما يخصها. إن المواد الذكية هنا وقد تجاوزت مرحلة التخمين والتشكيك في إمكاناتها، فالمستقبل أخيرا هنا.

Footer أسبوع العلوم
Footer أسبوع العلوم
المراجع
  1. Smart materials taxonomy- Goldade, Shil'ko and Neverov
  2. Shape-memory alloys- Fremond and Miyazaki (CISM courses and lectures No. 351)
  3. Physical chemistry- Atkins and De Paula