في عام 2007 أصدر فريق الروك الكندي Arcade fire ألبومًا بعنوان Neon bible يتناول طبيعة الحياة المعاصرة والتكنولوجيا، السياسة والدين في أجواء من القلق الوجودي ويفتتح بأغنية بعنوان المرآة السوداء Black mirror وهو مصطلح يصف شاشات الأجهزة التي نرى وجوهنا فيها ونواجه ذواتنا بعد أن يختفي ضوؤها ويتبقى انعكاسنا.

في عام 2011 استعان شارلي بروكر باسم الأغنية لتسمية مسلسله الشهير Black mirror والذي يتكون من حلقات متفرقة تقع أحداثها في واقع بديل أو مستقبل قريب، يتأمل العمل تأثير التكنولوجيا الحديثة المدمر على الحياة والنفس البشرية.

لطالما تناول الأدب الديستوبي والسينما والخيال العلمي مخاطر التكنولوجيا وسيطرتها على البشر، تضخم الآلة وتمردها على الإرادة البشرية وخلق حياة كاملة لنفسها وكيف ينقلب صنع الإنسان عليه في النهاية، منذ كتبت ماري شيلي فرانكنستاين عام 1818 وفكرة أن يصنع الإنسان بعلمه وحشًا تسيطر على الأدب والسينما، تناولت السينما جموح الروبوتات وأجهزة الكمبيوتر عشرات المرات، لكن وصل العالم الآن إلى الديستوبيا المعاصرة حيث لا نضطر للنظر إلى مستقبل تخيلي لكي نجد ذلك الرعب الوجودي التكنولوجي لكن يمكن فقط أن ننظر بين يدينا فالخيال العلمي المعاصر لا يتطلب آلات ضخمة وبشر آليين بل مجرد جهاز صغير بجانب وسادتنا، تمثل تلك الديستوبيا المعاصرة موضوع وثائقي المعضلة الاجتماعية the social dilemma من إنتاج نتفليكس هذا العام وإخراج جيف اورلوفسكي.

ديستوبيا وثائقية

يسرد الفيلم حكايته الأساسية في قالبين، الوثائقي التقليدي والتمثيلي الخيالي، يتخذ أسلوب الوثائقي المعتمد على الرؤوس المتكلمة، ويتولى السرد والتحذير مجموعة من المسئولين السابقين في شركات كبيرة مثل فيسبوك وانستجرام وجوجل، مما يضيف مصداقية للطرح لأن من ينصح ويحذر كان جزءًا من المنظومة.

وفي الجانب التمثيلي يصور أسرة من 5 أفراد، يمثل الأبناء مراهقين من أعمار مختلفة، وهي الفئة التي تقع فريسة لتلك المواقع أكثر من غيرها. يتبع الفيلم الأسرة فيما تختبر الحياة من خلال تلك المواقع، تنقسم القضية التي يناقشها الفيلم إلى موضوعين رئيسيين وهما الطبيعة الرأسمالية الإعلانية لتلك المواقع، وكيف تجعل من الشخص نفسه سلعة تتنافس الشركات على كسب اهتمامه وحمله على إدمان مواقعها؟ يتصاعد السرد حتى نصل إلى قضايا سياسية واجتماعية تسببت بها تلك المواقع، منها سهولة نشر الأخبار الكاذبة وتجميع تكتلات يمينية ويسارية تجعل إنقسام المجتمعات أكثر سهولة من ذي قبل، كما أنها تهدد سير العملية الديمقراطية.

يستعير the social dilemma جماليات الديستوبيا المستقبلية من السينما والتليفزيون ويطبقها على الواقع ففي مشاهده التمثيلية يستخدم عالم خيالي يمثل شخص كاريكاتيري شرير ساذج ينقسم إلى وعي ثلاثي يتآمر كل جزء منه ويسيطر على جزء من العقل المراهق لبطل القصة المتخيلة عن طريق هاتفه الذكي، يقترح عليه ما يشاهده حتى يورطه في أعمال عنف محتملة، يطرح عليه صور فتيات سيصيبه معرفة معلومات عنهن بالقلق وفقدان الثقة، يقترح عليه إعلانات تلائم نشاطه المستمر على تلك المواقع حتى يحقق الربح المادي الذي تسعى وراءه تلك الشركات.

مشهد تخيلي من المعضلة الاجتماعية

يصف شارلي بروكر صانع black mirror مسلسله بأنه يحكي الواقع الذي نعيش فيه أو المستقبل القريب إذا تعاملنا مع الواقع بحماقة وهو ما يتناوله بالفعل المعضلة الاجتماعية، وصولنا إلى ذلك الواقع الذي تسببنا فيه بحماقتنا أو تم خداعنا للوقوع فيه.

تشبه رؤية الفيلم لتأثير التكنولوجيا بعض الأعمال السابقة التي تنبأت بسيطرتها الكاملة على الواقع الإنساني، في إحدى حلقات المرآة السوداء، يعيش الأفراد في واقع بديل بداخل غرف مغلقة مغلفة بالكامل بشاشات تعرض عليها إعلانات جنسية مشاهدتها عنوة تضمن للمستخدم نقاط يستخدمها فيما بعد، أفكار مثل تلك كانت فرضيات للأعمال الدرامية الخيالية لكنها أصبحت واقع متكامل وفكرة السيطرة الكاملة للشاشة وخاصة طبيعة الإعلانات والمحتوى الموجه هي جوهر فيلم المعضلة الاجتماعية.

في حين أن أعمال مثل المرآة السوداء وغيرها من الأعمال تناولت الهلع الوجودي من التكنولوجيا بشكل خيالي عن طريق صنع ديستوبيا تبالغ وتضخم الواقع فإن المعضلة الاجتماعية يستعين بتلك العناصر في جزء منه لكنه بشكل رئيسي يستخدم المحتوى الوثائقي لكي يحذر بوضوح من واقع قاتم ومستقبل أقتم فبينما نشاهد القصة المتخيلة يطل علينا عدة شخصيات تصبح أكثر ألفة مع تتابع أحداث الفيلم، يشرح كل منهما تفصيليا كيف تنجح تلك التطبيقات في التلاعب بالعقل والضغط على نزعاته الإدمانية، وكيف يؤثر الوقوع في ذلك الفخ على الصحة النفسية والعقلية وأساليب الحياة والتربية والصورة الذاتية.

كان من الممكن أن يصبح الفيلم أكثر قوة وتأثيرا إذا وثق أن الحقائق التي يملكها تكفي لكن جيف اورلوفسكي رأى أنه من الضروري رسم صور توضيحية عن طريق القصة المتخيلة لكي يجذب الفيلم مشاهدين أكثر ويصبح أقل مللا من الأفلام الوثائقية التعليمية، فأصبحت النتيجة النهائية مربكة وغير منمقة على المستوى الفني، خاصة أن الاستنتاج الذي تتوصل له الشخصيات غير مقنع بشكل كامل على عكس ما يسرده من يمكن تسميتهم خبراء في مجالهم.

وبالنظر إلى رد الفعل الجماهيري  وللمفارقة على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن ما انتشر من الفيلم هي اقتباسات وثائقية واضحة موجهة للكاميرا نابعة من تجارب هؤلاء الذين عملوا داخل شركات كبرى واشتركوا عن طريقها في شبكة التلاعب العملاقة التي يحذروننا منها الآن.

مشهد من مسلسل المرآة السوداء

يركز قلق صناع الفيلم والمشاركين فيه على فكرة طبيعة الحقيقة والأخبار المزيفة، وصناعة عالم بديل مضلل يجعل الواقع يبدو أقل واقعية ويصبح كل عنصر من عناصر الحياة الإنسانية مرتبط بما يختبره من خلال هاتفه الذكي، لكن الهواتف الذكية والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لم تكن أول تطور تكنولوجي يثير الهلع بهذا الشكل.

من الدراجة إلى التليفزيون 

لن نخبرك بأية حقيقة، سنخبرك بكل ما تريد سماعه، نحن نكذب كما نتنفس، نحن نتاجر في الأوهام لكن أنتم تجلسون هنالك يوم بعد يوم، ليلة بعد ليلة من جميع الأعمار وجميع الألوان والأعراق، نحن كل ما تعرفون، بدأتم في تصديق الأوهام التي نغزلها هنا، بدأتم في تصديق أن تلك الشاشة هي الحقيقة، وأن حيواتكم ذاتها غير حقيقية، تفعلون أيا كان ما تخبركم به الشاشة، ترتدون ملابسكم مثل الشاشة، تأكلون مثلها تربون أطفالكم مثلها بل حتى تفكرون حسبها، هذا جنون جماعي، أقسم لكم أنكم أنتم الشيء الحقيقي، نحن أوهام، أغلقوا أجهزة التلفزيون الآن، أغلقوها واتركوها مطفأة، اطفئوها في منتصف الجملة التي أنطقها الآن !

عند قراءة ذلك المقطع يصعب تخيل أنه عن التلفزيون بل يبدو وكأنه نقد مكرر آخر لانستجرام وفيسبوك وكيف تؤثر بنا الصورة والأوهام وكيف يفرض علينا مجموعة من البشر أذواقنا وطريقة تفكيرنا، وكيف نستبدل بمواقع التواصل واقعنا، لكنه اقتباس على لسان شخصية كتبها بادي شايفسكي في فيلم من إخراج سيدني لوميت عام 1976، والذي وصفه آرون سوركين مؤلف الفيلم الشهير الذي يلمس نفس المواضيع الشبكة الاجتماعية The social network  بأنه أكثر الأعمال الخيالية تنبؤا بالمستقبل.

يحكي الفيلم قصة إحدى المحطات الإخبارية الفضائية وهوس إحدى المسئولات بها بجني الأرباح ورفع المشاهدات حتى يصل بها الأمر أن تقتل مباشرة على الشاشة، يأتي الاقتباس على لسان هاورد بيل مذيع اخباري سابق ناجح تم فصله من القناة لكنه يصاب بنوبات مما يمكن أن نطلق عليه الهلوسة وخلالها ينطق الحقيقة الكاملة فتعيد القناة إذاعة برنامجه لأن الحقيقة التي ينطق بها تجذب المشاهدين نظرا لغرابتها الشديدة، فهي تبيع تلك الحقيقة كمنتج معلب.

بعض المتحدثين في المعضلة الاجتماعية

في أحد مقاطع فيلم The social dilemma  يقارن أحد المسئولون السابقون في جوجل الهوس والقلق الوجودي المصاحب للإنترنت، بذلك الذي صاحب اختراع الدراجة، لكن الفارق الحقيقي أن الفزع مبرر، وأن وتيرة تطور الإنترنت حسب الوثائقي تسير أسرع من أي شيء سبق اختراعه في التاريخ. وعلى عكس الدراجة فإن مواقع التواصل الاجتماعي ليست أداة تنتظر أن نستخدمها، بل هي كينونة تتلاعب بنا تريد منا أشياء معينة، وتستخدم نفسيتنا ضدنا، لكن القلق من سيطرة التليفزيون على العقول ومدى قوة تأثيره في سنوات سيطرته على الثقافة البصرية تطابق ذلك القلق من التواصل الاجتماعي، يكمن الفارق في أن التليفزيون ذو اتجاه واحد كما أن وجوده مقترن بالجلوس في مكان محدد ومشاهدته أما الهواتف الذكية فهي امتداد لأذرعنا لا تتركنا ما دمنا مستيقظين في الداخل أو في الخارج.

مع الوقت خفت الخوف من التلفزيون لأنه فقد ذلك التأثير وتلك القدرة على خداع الجميع بوهم تقديم الحقيقة فهل ستفقد مواقع التواصل الاجتماعي القدرة نفسها مع الوقت أو تنجح تحذيرات الخبراء من خطورتها في التأثير على مستخدميها؟

سبب كل المشاكل

يتسبب فيلم The social dilemma في قلق آني جدا، تجد نفسك تحلل طبيعة استخدامك لهاتفك وعدد الساعات التي تقضيها تمرر اصبعك على شاشته دون كلل، وللسخرية فبينما تشاهده فإنك على الأغلب ممسك بهاتفك الذكي باحثا عن أخبار جديدة أو طرفات مضحكة، بل إن طبيعة المنصة التي يعرض عليها الفيلم تعتمد على خوارزميات مشابهة لتلك التي تستخدمها مواقع التواصل الاجتماعي فهي توجهك لما يعجبك وتقولب ذوقك في إتجاه واحد وتبتلع من وقتك ساعات وساعات.

لكن ما أخفق فيه الفيلم هو الشيطنة الجامحة لدور تلك المؤسسات دون إعطاء أي أهلية للإنسان فأصبح على حد قول أحد المتحدثين هو السلعة، حتى وإن كان ذلك صحيح جزئيا فإن تتابع الذروة الذي يستخدمه أورلوفسكي لكي يؤطر حجم الأذى الذي يتعرض له الشباب نتيجة للانجراف في تلك المواقع يتجاهل حريتهم ويتجاهل العنف الشرطي الذي يتعرضوا له، يصبح ذلك العنف نتيجة أخرى للهاتف الذكي وليس تطاول يستحق الدراسة والحساب.

في التتابع الأخير يتم لوم كل مشكلة سياسية تتعلق بالديمقراطية أو القبلية والانقسام المجتمعي على مواقع التواصل الاجتماعي دون اعتبار لأي تفاصيل تتعلق بالسياسات في كل بلد أو طبيعة الشعوب المختلفة ومعاناتها المتعددة، سهلت مواقع التواصل الاجتماعي التجمعات الغاضبة والانقسامات والتلاعب في نتائج الانتخابات لكنها لم تخلقها، وجدت نفس المشاكل قبل وجود تلك التكنولوجيا وسوف تستمر في التواجد بعد زوالها لأن فساد الانسان وتعصبه يملك جذورا أعمق من مجرد مجموعة غاضبة يقترحها عليه فيسبوك.