أصبح الأمر معتاداً وطبيعياً… تلك هي الصورة كما يشاهدها الجميع، فتفاعل الضحك الأصفر الذي أطلقه مارك زوكربيرج مؤسس فيسبوك، صار هو التفاعل الأكثر انتشاراً على جميع الصفحات بلا استثناء… هكذا هي الصورة في البلدان العربية أو الغربية، فليس من المهم معرفة نوع المحتوى المنشور، حتى تتساءل عن سبب الضحك عليه، ولأن فيسبوك صار الوسيلة الأكثر استقراراً وانتشاراً للتواصل بين البشر، فقد استطاع أن يمسك بطرف الخيط، ويكمل منه الطريق.

لكل قسم من القصة شق خاص به، فالعرب يمتلكون تاريخاً حافلاً من السخرية من بعضهم البعض منذ عصر الجاهلية، سواء كان ذلك في المناظرات الشعرية أو في النصوص النثرية حينما دخل فن النثر إلى معاجم العرب، أمّا عند الغرب، فقصته كانت عسكرية بعض الشيء، استدل بها رئيس الدانمارك ذات يوم على العمق التاريخي لدول أوروبا.


كيف بدأت السخرية عند العرب والغرب؟

كانت البداية عند العرب منذ عصر الجاهلية، لكن الحكاية لم تحمل اسم السخرية، بل حملت اسم «الهجاء» وقد كان أدب الهجاء من أكثر الفنون الأدبية انتشاراً بين العرب وخاصة القبائل المتصارعة، ووصلتنا ممن كتبه شعراء ذلك العصر كثيراً من تراثهم، كقول جرير:

وعاوٍ عوى من غيرِ شيء رميته *** بقافيةٍ أنفاذُها تقطـرُ الدمـا خروجٍ بأفـواه الرواة كأنهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا *** قِرى هندوانيٍّ كلما هزّ صمما

وما أكثر ما كتب جرير في مهاجمة ونقد أعدائه في القبائل المعادية لقومه، ثم امتد بنا الزمان وتغير منطوق اللغة قليلاً، وصارت السخرية أقرب ما تكون إلى السخرية في عهدنا الحالي، لكن بلغة فصيحة تحمل في طياتها التورية كقول أحمد شوقي أمير الشعراء:

سَقَطَ الحِمارُ مِنَ السَفينَةِ في الدُجى فَبَكى الرِفاقُ لِفَقدِهِ وَتَرَحَّموا حَتّى إِذا طَلَعَ النَهارُ أَتَت بِهِ نَحوَ السَفينَةِ مَوجَةٌ تَتَقَدَمُ قالَت خُذوهُ كَما أَتاني سالِماً لَم أَبتَلِعهُ لِأَنَّهُ لا يُهضَـــــــــــــــــــمُ

وقد ترافقت قصائد الشاعر أحمد شوقي مع موجة السخرية التي استخدمها المصريون ضد الملكية والأتراك والاحتلال، لكن السخرية على مدار تلك السنوات لم تتوقف عن التوسع أبداً في مفاهيمها التي كان يطلقها العامة من حين لآخر، في صورة مزحة أو قصة أو حتى مسرحية.

ولم يختلف الأمر في الغرب كثيراً، فمفهوم الـSarcasm وكذلك الـTroll وكلاهما يعنيان السخرية، من أكثر المفاهيم شيوعاً في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في أوروبا والولايات المتحدة، كما أن لها جذورها التاريخية كذلك.

فالكثير من المصادر التاريخية يربطان بين ظهور السخرية في أوروبا وظهور مقاتلي قبائل الفايكينج في بريطانيا، الذين كانت أولى غاراتهم على الغرب، وتحولت مسار هجماتهم من الشرق نحو بريطانيا في القرن الثامن الميلادي، تحديداً عام 793 ميلادية، وتذكر المصادر التاريخية أن الفايكينج أول من أدخلوا مفهوم السخرية إلى تلك البلدان ومنها انتشرت عبر أوروبا.

حتى أن رئيس وزراء الدانمارك كلاوس جروب، قد افتخر بذلك ذات يوم، خلال إحدى زياراته للمملكة المتحدة، قائلاً:

إن دخول مفهوم السخرية إلى بريطانيا، على يد قبائل الفايكينج القديمة، يمثل جزءًا من التراث المشترك بين البلدين.

كيف تحولت السخرية لهدف؟

في الكثير من الفترات عبر التاريخ، كانت السخرية للنيل من الخصوم، فالخاضعون للاحتلال يسخرون من مستعمريهم، والمستضعفون يسخرون ممن يقهرهم، لكن ماذا لو انتفت كل تلك الأسباب، ماذا لو تحولت السخرية لفعل مرغوب في حد ذاته، دون أن يكون هناك هدفٌ بعينه.

عبد الرحمن الشهراني، مدون سعودي يمتلك قناة على اليوتيوب، يقدم من خلالها مقاطع فيديو، تحقق العديد من المشاهدات، شاء القدر أن تٌلتقط له صورة وهو جالس في مكان ما، لتنتشر الصورة وبشكل غريب كالنار في الهشيم، ويتحول الشهراني دون أن يُعرف إلى مادة دسمة للسخرية والضحك، لمجرد أن شكله قد يعتبره البعض مضحكاً.

حتى جاء وقت السؤال، ما الذي يدفع شخصاً ما للسخرية من شخص لمجرد أن هيئته تصلح للسخرية؟

تطور الأمر دون أن يدري من قاموا به، حتى استيقظوا ذات يوم على محاولة الشهراني الانتحار، بعد أن صعقه كل ذلك الكم من السخرية من صورته، حتى أن أحدهم علق حينما عرف أن صاحب الصورة من الأثرياء والمشاهير في بلده، كيف لشخص بمثل هذه الصورة أن يكون كذلك!


الساخرون أذكياء أكثر من غيرهم!

قد يكون ذلك مفاجئاً للبعض، لكن الكثير من الآراء العلمية تجمع على ذلك. فالساخر دائماً ما يكون بحاجة إلى توجيه جملته في موضع قوي ومثير للضحك، حتى يحصل على ما سخر من أجله، وهو ضحك واستحسان الجميع من حوله، فإذا ما كان الساخر ذا معدل ذكاء منخفض أو ضعيف التفكير، فمزحته قد لا تتوافق مع واقع الموقف محل السخرية، أو قد لا تكون بالقوة التي تحتاجها المزحة لتؤدي دورها.

حيث ذكر أستاذ علم النفس «شاماي توزوري» في إحدى دراساته، أن الأشخاص ذو الحس الساخر، يمتلكون عقولاً ذات قدرة كبيرة على القيام بالعمليات العقلية المتطورة، كما وصل الأمر إلى قول إن الذين لا يستطيعون فهم الصور الطبيعية من جمل وتعبيرات السخرية، يمكن وصفهم بالمعتلين اجتماعياً، أو بأن عقولهم تحتاج لمزيد من التدريبات الذهنية.

كما ذكر خبير اللغويات في كلية مانشستر «جون هايمن»، أن السخرية تمثل شكلاً من أشكال تدريب العقل على زيادة نشاطه، فالجمل الاعتيادية لا تحتاج إلى نفس المجهود العقلي الذي تحتاجه السخرية.

كما أضافت الدكتورة «كاثرين رانكين» أستاذ علم نفس الأعصاب بجامعة كاليفورنيا، أن الأشخاص الذين لا يستطيعون فهم جمل السخرية وتلميحاتها، يمكن تصنيفهم أشخاصاً إنطوائيين، منزويين اجتماعياً.

وبالطبع لا يمكن أن يُصنف البشر داخل قوالب مُعدة مسبقاً، خاصةً فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي من مشاعرهم وأفكارهم، لكن السخرية ومنذ زمن طويل شكلت بعداً اجتماعياً مهماً في حياة البشر، فقد كشفت إحدى ا لدراسات أن 23% من نصوص المحادثات التليفونية في الولايات المتحدة منذ بداية القرن الحادي والعشرين، كانت عبارة عن جمل ساخرة، وهو ما يثبت أن السخرية تحمل بعداً اجتماعياً مهماً ومؤثراً في عمليات التواصل الاجتماعي بين البشر، حتى قبل أن تظهر مواقع التواصل.

لكن الأمر هنا يرتبط بشكل كبير بالتفاعل الاجتماعي، فالشريحة العامة من الإنطوائيين، لا يميلون للسخرية من الآخرين بشكل عام، وذلك خشية التعرض للسخرية كرد فعل مقابل، وكذلك خشية إيذاء مشاعر الآخرين والخجل من الدخول في مثل ذلك النوع من المواقف.


لماذا أصبحت السخرية ملاذاً للكثيرين؟

صارت الإجابة منطقية بالضرورة، فحالة التفكك الاجتماعي التي تشهدها المجتمعات بشكل عام حول العالم، بالإضافة إلى النوع الجديد من العزلة النفسية والاجتماعية التي ضربتها مواقع التواصل الاجتماعي حول مستخدميها، خلقت ممراً شبه آمن للسخرية بمختلف أشكالها، فمن يمتنعون عن السخرية من أشخاص بعينهم بشكل مباشر، يحصلون على الفرصة ذاتها عبر الإنترنت، دون أن تقع مواجهة بشرية واحدة.

فالفيسبوك، على سبيل المثال، جعل العلاقات بين البشر، تصل إلى قدر مخيف من السطحية، حيث يكفي أن ينتهي الأمر بين طرفين عن طريق زر «الحظر» ثم يمارس الشخص بعدها كل ما رغب فيه دون أن تكون هناك مواجهة فعلية.

لكن التداعيات النفسية بين أصحاب العلاقات الطويلة، والتي لا يمكن إنهاؤها بسهولة، تدخل ضمن حيز آخر من التفسيرات، فقد أوضحت دراسة لجامعة شيكاغو أن السخرية خلال المحادثات النصية عبر مواقع التواصل الاجتماعي قد تكون خياراً سيئاً، فـ30% من جمل السخرية المكتوبة عبر رسائل منصات التواصل يُساء فهمها، وتؤدي لتشوه العلاقات.

بالطبع جزء من ذلك يرتبط بشكل كبير بالمشكلة العامة التي تشكلها المراسلات عبر منصات التواصل، حيث إن هذا النوع من المراسلات المكتوبة يفتقد لعنصر الرؤية والتفاعل وفهم لغة الجسد وتعبير الوجه الحقيقي المرتبط بخروج الجملة، فتلك العناصر تساعد على فهم المقصود الحقيقي من نص المحادثة.

ومن الأمور اللافتة في ذلك الشق، السخرية من النساء، كالزوجة أو الأخت أو أي امرأة تقع ضمن نطاق علاقة مقربة طويلة الأمد،فالسخرية من النساء قد تكون من الأخطاء التي لا يزول أثرها بسهولة، وقد تُفهم بشكل خاطئ، خارج نطاق المزاح، فالتأثر العاطفي عند النساء يرتبط بصوت المتحدث وتعابير وجهه، فإذا ما حاول المتحدث أن يضبط صوته وتعابير وجهه ليتناسب ذلك مع فحوى الجملة بسخريتها، فقد تكون النتيجة سلبية أكثر من المتوقع.

وفي النهاية يمكن القول إن فعل السخرية، كتصرف نفسي عقلي منطوق، ربما يحوي الكثير من المعاني والأسرار خلفه، وخلف خروجه بالصورة المعتادة التي نراها، والتي نظن في كثير من الأحيان، أنها لا تزيد على مجرد كونها جملة تخرج من لسان صاحبها، فتحدث أزمات وكوارث، أو تحدث الكثير من الضحك والصخب المرح الذي لا ينتهي في الأمد القريب.