بالطبع شاهدتَ مشهدًا أو أكثر من مهرجان الجونة، وبالتأكيد أطلعتَك هذه المشاهد على لقطة أو أخرى لفنانة شهيرة أو حتى نصف شهيرة.

تبارت جميع الحاضرات في هذا الحدث في تحقيق حلم الأنوثة الأزلي، تقلُّد تاج الأناقة والجمال. وهو حلم مشروع وتاريخي عرفته الأرض منذ لحظة ظهور المجتمعات في أبسط أشكالها.

ما من حضارة نعرفها إلا ونقلت لنا كتبها سعي النساء الحثيث إلى التأنُّق بجميع الوسائل الممكنة، حتى لو اتَّضح في النهاية أنها ستضرُّ بأجسادهن وقد تودي بحياتهن، لا يهمُّ، وكأن كل واحدة منهن رفعت شعارًا إن كنت سأموت في جميع الأحوال، فلأزفُّ إلى قبري جميلة الجميلات.

المفارقة، أن لقب «جميلة الجميلات» هذا لم يتَّفق عليه أحد تقريبًا في أي عصر، وأننا لو عدنا بالزمن للوراء قليلًا لتخلَّت جميلات الجونة عن كل ما يفعلنه الآن لصالح أساليب مُعاكسة تمامًا، فقط لأنها ستمنحهن لقب «جميلة» وفقًا لمقاييس كل عصر.

الأمر نسبي جدًّا، وبلا معايير تقريبًا إلا استشراء هوى اجتماعي ما في فترة ما نحو مواصفات جمال مُعينة يُقاس بها حُسن النساء. هذه المواصفات قد تكون معايير قُبح في بلدٍ آخر وفي زمنٍ آخر.

فمن مجتمعٍ لآخر تنوَّعت وتباينت أساليب «تقييم الجمال»، خضعت في كثيرٍ من الأحيان للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي سادت في ذاك الزمن، وضعها الرجال في غالب الأحيان ودفعت ثمنها النساء حتى لو على حساب صحتهن، أو حياتهن لو لزم الأمر.

تقول الطبيبة جوني جونستون في كتابها «هاجس المظهر»: معايير جمال النساء التي عرفناها لم تأتِ صُدفة، وإنما لعبت الظروف السياسية والاقتصادية دورًا كبيرًا في وضعها.

تشرح: في المجتمعات التي انتشر فيها الفقر بنسبة شديدة اعتُبرت النحافة رمزًا للفقر، أما الدهون والسمنة فهي رمز للأكل والثروة والمكانة.

مصر الفرعونية: العمل أولًا

نقش فرعوني لامرأة مصرية نحيلة
/

قدَّس المصريون القدماء العمل الزراعي الشاق، الذي كان يتطلَّب مجهودًا كبيرًا في الحقل للعناية بالأرض، لذا كرهوا السمنة بشكلٍ عام؛ لأنها تقود الفرد ليكون عضوًا غير فاعل في المجتمع.

وهو ما انعكس على رؤيتهم للأنثى، فالمرأة البدينة وفقًا لهم «عالة على المجتمع»؛ لذا فإن معايير الجمال الفرعونية ارتبطت أكثر بالمرأة النحيفة ذات الخصر المرتفع، وهو معيار بدأ بمدى فعالية المرأة في الحقل، وامتدَّ لاحقًا ليكون «مفهوم جمال» حرصت نساء مصر على التكالب عليه.

ويتَّضح مدى غرام الفراعنة بالنساء النحيفات في أنهم اختاروهن – وحدهن – للنقش في الجداريات والبرديات كخير مُعبِّراتٍ عن إناث مصر المثاليات في الحقبة الفرعونية.

اليونانيون: المجد للبدينات

تمثال لامرأة إغريقية
/

على عكس خُطى الفراعنة، أسقط اليونانيون النحافة من حساباتهم في تصنيفات النساء، وإنما أولوا أهمية أكبر للبدانة، فنُظر لها على أنها علامة أكيدة على أكل المرأة للكثير من الطعام ومِن ثَم انتماؤها لأصلٍ نبيل وثري، لذا حرصت جميع النساء اليونانيات على اكتساب الوزن لترويج أنفسهن كصاحبات ثروة.

ونلاحظ هنا أن اليونان ليست مجتمعًا زراعيًّا يحتاج إلى كل يد عاملةٍ رشيقة ممكنة، وإنما اعتمد في أغلب أنشطته على التجارة واستيراد البضائع من الخارج، وهي الظروف التي تكاد تنطبق على الجزيرة العربية في فترة ما قبل الإسلام التي نُظر فيها للمرأة البدينة على أنها لا تتحرَّك كثيرًا لأنها تمتلك خدمًا يقومون لأجلها بكل المهام؛ ولهذا ازدحم القاموس العربي بمصطلحات متعددة للإشارة لحالات المرأة السمينة مثل «الخديجة» و«البرمادة» و«العبلاء»، وفي مدح السمينات قالوا قديمًا: «نعوذ بالله من زلاء (خفيفة الشحم) ضاوية، كأن ثوبها علق على عود»!

أيضًا اهتمَّ الإغريق بالشعر الأشقر وحرصت جميع النساء على التزين به – ولو عبْر الصبغة – لاعتقادهن أنه لون شعر الآلهة.

ولقد عُرف عن اليونانيين اهتمامهم بشدَّة بما يُمكننا اعتباره «وصفة جمال»، فسعوا لأن يتمتَّعوا بها في حياتهم ثم ذريتهم من بعدهم، حتى إنهم صنعوا تماثيل لأيقوناتهم الجمالية مثل أفروديت أبولو ووضعوها في غرف نومهم لمساعدتهم على إنجاب أطفال جميلين، ونلاحظ هنا أن مُجسَّمات فينوس إلهة الجمال عند الإغريق لا تظهرها نحيفة وإنما تتمتَّع بجسد ممتلئ.

كما لم يغفل الإغريق دمج شغفهم بـ«الهندسة» و«الجمال» معًا، أشهرها نظرية النسبة الذهبية، ووفقًا لحسابات معقدة لا داعي لشرحها هنا توصَّل إقليدس إلى أن الرقم 1.61 التقريبي هو قيمة إلهية وسر جمالي بثه الله في الوجود.

اعتبر اليونانيون هذه النسبة رمزًا للجمال في المباني والمعابد وعلى وجوه النساء أيضًا، فوفقًا لها اعتبر اليونانيون أن الوجه الأنثوي الأمثل هو الذي يساوي عرضه ثلثي ارتفاعه.

الصينيون: دمَّروا أقدام البنات

امرأة صينية تكشف قدمها المتأذية بفعل سنواتٍ من ربطها بإحكام
/

كالفراعنة اعتبر الصينيون القدامى – شعب زراعي أيضًا – أن النحافة شرطًا أساسيًّا في جمال المرأة، لكنهم أضافوا عليها شرطًا آخر فريدًا وهو صغر حجم القدمين

بحسب كتاب «الآلام من أجل الجمال: ربط الأقدام في الصين»، يقول المؤلِّف وينج بينج إنه خلال القرن العاشر حظي إمبراطور الصين براقصة مفضلة برعت في تقديم أعظم الرقصات الاستعراضية أمامه حتى خلبت لبَّه من فرط رشاقتها وخفة قدميها.

لاحقًا، تبين أن الراقصة كانت تربط قدميها بشدة حتى تصبحان في شكل أقرب لحافر الحصان، وهو ما كان يعينها على الرقص بمنتهى الخفة، وعندما اكتشفت باقي الراقصات هذا السر قلَّدنها وربطن أقدامهن أملاً في تقديم استعراضات تنال إعجاب الإمبراطور، ولم يفت وقت طويل حتى انتشرت تلك العادة في جميع أرجاء الصين.

وبحلول القرن الثاني عشر، بات على كل فتاة ترغب في الزواج أن تحظى بقدمين صغيرتين فاعتنى والدها بربط القدمين بحبال سميكة منذ أن تتم الطفلة عامها السادس، ولم تنجُ من هذه العادة إلا القرى العاملة في صيد السمك التي احتاجت أن تكون نساؤها قادرات على الوقوف باتزان في قارب المياه خلال الصيد.

انعكست هذه العادة على شكل أقدام نسوة الصين خلال تلك الحقبة، والتي باتت منثنية الأصابع مغروسة في اللحم، ما جعلهن يلجأن لأسلوب جديد في المشي اعتمد على عضلات الفخذين والأرداف أكثر من الأصابع، وبمرور الوقت صارت تلك العضلات بدورها من علامات جمال النساء في الصين!

عصر النهضة الإيطالية: البدانة مُجددًا

زوار متحف اللوفر يتكالبون على تصوير لوحة الموناليزا
/

في هذه الفترة، نعود من جديد إلى البدانة المُحببة، وباعتبار أن جسد المرأة يجب أن يعكس مكانة الزوج، ولهذا كان منطقيًّا أن يُنظر للمرأة البدينة على أنها جميلة الجميلات وكريمة الكريمات، لأنها تأكل جيدًا ولديها من يخدمها لذا لا تتحرك كثيرًا فأصبحت بدينة من فرط ثروة زوجها.

كما اعتُبر امتلاء أعضاء الجسد الأساسية كالثديين والأرداف علامات رئيسية للخصوبة، لهذا نُظر للمرأة البدينة على أنها صاحبة جمال أيقوني، فيما نُظر إلى النحيلات باستهجان.

أيضًا توضِّح الرسومات التي وضعها فنانو ذلك العصر أن المرأة الجميلة وجب أن تتحلَّى برقبة طويلة وشعر فاتح وجبهة شديدة الاتساع، ولاكتساب هذه العادة اضطرت النساء إلى «حلق» شعر مقدمة رءوسهن قليلًا ليُكسبن جبهاتهن المزيد من المساحة. هذا الإمعان في اكتساب جبهة عريضة خالية من الشعر امتدَّ في بعض الأحيان لحلق الحواجب، وهو ما يظهر في لوحة الموناليزا التي لا تكاد تمتلك حاجبين في وجهها.

إنجلترا الفيكتورية: ظهور الساعة الرملية

خنق الكورسيه جسد المرأة وسبّب لها ضررًا جمًّا

ساد في هذا العصر مفهوم أن المرأة المثالية يجب أن يتَّخذ قوامها من شكل الساعة الرملية نموذجًا، لذا فإن على المرأة أن يكون خصرها نحيفًا جدًّا، وهو ما أجبر النساء على استعمال الكورسيه الخانق الذي يكتم الأنفاس ويقبض على عظام الصدر بأشدِّ ما يكون وأصاب مستعملاته بأضرار صحية كبيرة.

أيضًا كفل الكورسيه منح الثديين مظهرًا أكثر اكتنازًا راق للنساء فأقبلن عليه، خاصةً أنه حتى هذه الفترة لم تكن هناك وسيلة جراحية تجميلية آمنة لتكبير حجم الثدي عدا وصفات مسح الصدر بزيت جوز الهند وزيت الزيتون، لكنها لم تُجدِ نفعًا.

أما عن دلالة شكل «الساعة الرملية» والرغبة في اتباعه في حدِّ ذاته، فلقد تكاثرت الأسباب وراء ذلك.

اعتبرت دراسات نفسية أن شكل الساعة الرملية  يُعتبر عند النساء رمزًا للنضج الجنسي والخصوبة وتمتُّع المرأة بصحة جيدة، إلا أن سببًا قاطعًا للجوء البشر نحو هذا الشكل الجسدي لم نعرفه بعد.

بعد الثورة الصناعية، باتت الكورسيهات أقوى وأرخص ثمنًا، وبات بالمقدور التفنن في صناعتها فحُشيت بالصُلب وزوِّدت بأربطة محكمة زادت من متاعب النساء. لاحقًا ربط الأطباء بين شيوع استخدام الكورسيه ومشاكل صحية عميقة الأثر كالعقم والبواسير والإمساك والتهاب الكبد.

من إنجلترا خرجت موضة الكورسيه ثم انتشرت حول العالم بأسره.

تزامن هذا مع إقبال الرجال الأمريكيين منذ منتصف القرن الـ19 على صنف معين من النساء أملن فيه أن يتصف بالهشاشة والتهذيب واللطف وضعف الشخصية والاعتماد الدائم على الرجال، هذا الصنف من النساء عُرف باسم «سيدة النقش الفولاذي» (steel engraving lady)، والذي انعكس فورًا على سمات جسدية تتسم مع هذه الصفات كالخدود الحمراء والخصر الصغير والجسد النحيل والشفتين الصغيرتين، كذلك الأقدام والأيدي النحيلة.

كل هذه المواصفات عُدَّت مواصفات جمال مثالية في أمريكا، فتكالبت النساء على الظفر بها سواء باتِّباع الحميات المتنوعة أو أساليب التجميل المتباينة ليظهرن أضعف ما يكون أمام الرجال.

البعض ربط بين خروج الأمريكيين المدمِّر من الحرب الأهلية، بالرغم من انتصارهم فيها، وبين رغبتهم في الاستئناس بأنماطٍ معينة من النساء لا يجدون منها إلا الحنو والسمع والطاعة.

هذا النموذج الذكوري في معايير الجمال سيتطوَّر لاحقًا إلى ما عُرف بـ«فتاة جيبسون»، وستعبِّر عنه الصحف والمجلات كنموذج جمالي يجب أن تلتزم به الفتاة الأمريكية العصرية.

كاريكاتير يجسّد رجلاً أمريكيًا مُعجبًا بفتاة من طراز فتيات جيبسون

وكان اندلاع الحرب العالمية الأولى نقطة نهاية لكل هذا، وخاصة تلك الأنواع القاسية من «مشدَّات الجسم»؛ بعدما أصبحت الدولة أكثر اهتمامًا باستخدام الفولاذ في تصنيع الأسلحة بدلاً من الكورسيهات.

كما تعيَّن على المرأة أن تكون أكثر حركة لتمارس مهامَّ أكثر تعددًا، وهو ما كان الكورسيه يحدُّ منه كثيرًا فبدأت النساء في التخلي عنه كأحد النتائج الاجتماعية غير المباشرة للحرب، ولجأن إلى الملابس الأكثر عملية كالبنطلونات والتنانير الواسعة والملابس الداخلية المريحة.

تزامنت نهاية الحرب العالمية الأولى مع نيل النساء بعض حقوقهن السياسية والكثير من التقدُّم في المكانة الاجتماعية ما مكنهن من اختيار مظاهر جمالية أكثر مناسبة لهن وليس للمجتمع، فتخلت بعضهن عن تصفيفات الشعر المعقدة وحتى عن مساحيق التجميل.

كما ارتبطت نهاية الحرب أيضًا بانتشار نظام الانتدابات الأوروبية بحقِّ الأراضي المشرقية بعدما استأثرت إنجلترا بمصر وفلسطين وفرنسا بسوريا وبلاد المغرب العربي، وهو الوضع الذي استمرَّ لفترة طويلة لم تنتهِ حتى بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.

وقوع الشعوب العربية أسيرة لفترة طويلة أسيرة للثقافة الأوروبية، التي صدَّرت لنا نموذج جمال نسائي غربي قحٍّ شمل البشرة البيضاء والشعر الناعم الملوَّن والعينين الملوَّنتين كذلك، ولا تزال تلك المعايير تظهر في بيئتنا العربية من وقتٍ لآخر، ويُعتبر التشبُّه بالأوروبيات واحدة من علامات الجمال المحبَّبة عند الكثيرين.