الحس الأخلاقي لأفراد المجتمع هو الأساس الذي يمكن الاستناد عليه لمنع وقوع تلك المجتمعات في فخاخ الاستبداد والديكتاتورية وسيطرة الروح الشمولية التوتاليتارية، التي يمكنها أن تقود المجتمع بالكامل إلى السكوت على جرائم جماعية، أو الصمت والمشاركة في تحويل المجتمع بالكامل إلى أن يكون صدى لصوت الطغيان.

شغلت مسألة سطوة الفاشية والنازية على المجتمعات الغربية في إيطاليا وألمانيا منذ الثلاثينيات مساحة كبيرة من الفكر الغربي، إذ بقي السؤال قائمًا حول كيفية تحول أمم بالكامل إلى خادمة وصامتة ومنفذة لما يريده شخص واحد؟ حتى لو بلغ الأمر درجة العمل في معسكرات جماعية للاعتقال والتعذيب، أو حدوث نوع من الهولوكست لمن اعتبرهم الفاشيون أعداءً للأمة وأعداء للفكر الذي يعبر عن المستبدين والطغاة.


تجربة «ستانلي ملليجرام» لاختبار توطين الشر

عالم النفس الاجتماعي اليهودي الأمريكي «ستانلي ملليجرام» كان متوجسًا من أن يحدث لليهود في أمريكا ما حدث لهم على يد هتلر في أفران الغاز، وهو ما عُرف فيما بعد باسم «الهولوكوست»، فأنجز ملليجرام تجربته التي أكدت أن الشر يبدأ بخطوة بسيطة، ثم تتدحرج المجتمعات لتصبح ملاذًا للشر كله، ويتحول أفرادها الذين لم يكن لهم خبرة سابقة بذلك الشر إلى درجة من التوحش الذي اكتسبوه من منبع هذا الشر.

التجربة تقول إن ستانلي جاء بمبحوثين عددهم أربعين من مهن مختلفة موظفين، وأطباء، ومهندسين، ومدرسين، وأخبرهم أنه يُجري تجربة للتذكر على كبار السن، ووضع مبحوثًا آخر يتلقى الصدمات الكهربائية في غرفة منفصلة عن المبحوثين الذين يقومون بتوجيه صدمة إليه تبدأ بسيطة، ثم لا تلبث أن تزيد كلما أخطأ.

بدأ المبحوثون الذين يوجهون الصدمات يزيدونها كلما أخطأ المسكين في الغرفة المجاورة، وكان الرجل يصيح من الألم، ولكن ملليجرام كان يأمرهم بالاستمرار في توجيه الصدمات واستمرارها بقوة، وكان الرجل المتلقي للصدمات في الغرفة المجاورة كلما علا فولت الصدمة الكهربائية لا ينطق، وإنما يضرب برجله الحائط الذي أمامه تعبيرًا عن انهيارة واقترابه من الموت، واستمر ستة وعشرون مبحوثًا في إطلاق الصدمات الكهربائية رغم أنها وصلت إلى مستوى تهديد حياة الإنسان المتلقي لها في الغرفة المجاورة.

اعتبرت هنا إرادة القائم على التجربة مماثلة للسلطة لدى المبحوثين، إذ كان يرتدي معطف الأطباء الأبيض، وكان المبحوثون حين يتململون أو يضطربون أو يترددون يدفعهم ستانلي ملليجرام إلى الاستمرار، وكانوا يرضخون لما يأمرهم به.

يشرح ملليجرام نتائج تجربته بالقول إنها تتضمن التسليم بالطاعة للسلطة، وهو أسلوب يفسر أشكالًا معينة من التطرف والعنف، والتي منها ما أبداه النازيون الألمان تجاه اليهود، وانتهى ملليجرام من نتائجه إلى القول إن الناس سوف يتبعون الأوامر حتى ولو كانت النتيجة إحداث معاناة يكابدها آخرون من الأبرياء.

ففي حالة ملليجرام أجريت التجربة في موقع أكاديمي، ولأسباب عملية اعتقد المبحوثون أن المشرف على التجربة والذي يمثل السلطة هنا يملك من المعلومات والخبرة ما يجعله جديرًا بأن يُطاع، وأنه لن يُحدث أذى أو ضررًا بأي أحد، وينحّي المبحوثون في التجربة شكوكهم الأخلاقية المتصلة باحتمال أن يكون هناك أذى أو شر أو مصيبة ستحدث، ليس بسبب طاعتهم العمياء، وإنما بسبب أن الأساس الذي بُنيت عليه شكوكهم ليس صحيحًا.

حين أعيدت تجربة ملليجرام وظهر من بين المبحوثين من رفض أوامر مصدر السلطة، وهو المشرف على التجربة، بالاستمرار في إطلاق الصدمات الخطيرة؛ فإن أغلب المبحوثين تحدوه ورفضوا الاستمرار في طاعة ما يأمرهم به.

كانت الأحكام الأخلاقية للمبحوثين هي مصدر الرفض، وليس المعلومات أو الإشارات التي تقول بطاعة مصدر السلطة لأنه موضع للثقة، وأوامره يجب أن تنفذ.


المناعة الأخلاقية للمجتمع تجاه الشر

الإبادة الجماعية في رواندا بين قبائل الهوتو التي كانت تمثل الأغلبية وقبائل التوتسي التي كانت تشكل الأقلية، والتي حدثت عام 1994 وقُتل خلال مائة يوم ما يقارب ٨٠٠ ألف شخص، وحدثت انتهاكات مروعة. حيث يشهد أحد المشاركين في هذه الجرائم قائلًا: «عندما تتلقى أمرًا جديدًا فإنك تتردد ولكنك تطيع، وعندما تكون مهيأ من خلال الإذاعة والنصيحة الرسمية فإنك تطيع بشكل أسهل، حتى لو كان الأمر هو أن تقتل جارك»، ويقول آخر ممن شاركوا في المذابح الجماعية: «كان القتل في مبدأ الأمر إجباريًّا، وبعد ذلك اعتدنا عليه، فقد أصبحنا وحشيين وكأنه طبع فينا، ولم نعد نحتاج إلى تشجيع أو إيعاز بالقتل».

واحد فقط هو من يطلق قنبلة الشر ويجر المجتمع كله خلفه ليصبح الجميع أشرارًا. فحماية المجتمعات من الشر والأشرار والتدهور إلى الطاعة المطلقة العمياء لمن يملك السلطة أو من يمثلها؛ يكون بإطلاق القوة الأخلاقية للخير في أفراد المجتمع لتقف حاجزًا دون الاستلاب لشخص مهما كان أو لجماعة أو لهيئة أو لمؤسسة.

من هنا كان الإسلام ينظر للإنسان باعتباره فاعلًا ومسئولًا كفرد فيقول الله تعالى: «وكلهم آتيه يوم القيامة فردا »، وهو مسئول باعتباره حاملًا للأمانة التي ثقلت على السموات والأرض والجبال: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان »، ويقول تعالى عن جواب الشيطان عن غوايته للخلق: «فلا تلوموني ولوموا أنفسكم».

الإنسان الحر ذو الضمير الأخلاقي الواعي الذي يطيع في الخير والحق والمعروف بمسئولية فردية مستقلة؛ هو الذي يحمي مجتمعه ووطنه من الانجراف نحو حالة استقطاب جماعي شاملة تجعلهم يقدمون أوامر السلطة وطاعتها على ما يمليه عليهم ضميرهم الأخلاقي الفطري والسليم وحسهم الإنساني المسئول، ويمكن من خلال ذلك تلافي مآزق الانزلاق الجماعي للشر بإيقاظ الحس الأخلاقي والوعي بالمسئولية الإنسانية التي لا يجدي معها الاحتجاج بالاستتباع للأقوياء، يقول تعالى: «وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا». ويقول تعالى: «فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا». إن الاحتجاج باتباع الأقوياء من جانب المستضعفين هو إدانة للمستضعفين الذين لم يرتقوا إلى مستوى الحرية التي أرادها الله لهم بأن يكونوا عبادًا له وحده.