يمر عالمنا حاليا بحقبة تشبه إلى حد كبير أخرى تصاعدت فيها النزعات الفاشية والقومية قبل أن ينتصف القرن العشرين، يتربع على رأس تلك الحالة المعاصرة صعود دونالد ترامب صاحب الآراء المعادية للعلم إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، أضف لذلك ذروة الهجوم ما بعد الحداثي بتياراته اللاعقلانية ضد الحداثة عموما والعلم خصوصا، دعنا نسمي تلك التوجهات المعاصرة المتطرفة – جميعها – باسم «هجوم ترامب»، كيف يمكن للعلم أن يواجه حالة كتلك؟ هل نملك أي خطط معدة مسبقا تعاملت مع أزمات مشابهة من قبل؟

الإجابة القصيرة: نعم، لا شك أن السؤال عن مجتمع العلماء، عن قناعاته، إجماعه على صحة شيء ما دون غيره، وطرائق بحثه عن الحقائق، يتخذ حاليا من فلسفة توماس كون ركيزة انطلاق أساسية لسبر أغوار ذلك العالم بآليات البحث الاجتماعي وبشكل منفصل عن الدراسات الفلسفية أو التاريخية للعلم. ففي النهاية – كما يوضح توماس كون في الفصل الأول من كتاب «بنية الثورات العلمية» – يتعلق البحث في بنية/طبيعة العلم بالسيكولوجيا الاجتماعية الخاصة بهذا المجتمع.

لكن قبل توماس كون، كان اهتمام روبرت ميرتون Robert K. Merton، عالم الاجتماع الأمريكي، بالعلم مرتبطا بالوضع العالمي قبل نشره سنة 1942 لمقاله الأشهر «الهيكل المعياري للعلم The Normative Structure Of Science»، فيقول إنه «ليس قبل وقت طويل كان إيمان المجتمع الغربي بالعلم لا تحده حدود»، لكن للأسف يتحول الأمر بعد ذلك إلى أن «العدوى المحلية من حالة مكافحة العلم قد تصبح وبائية». بالطبع يتحدث ميرتون عن روسيا الستالينية وتصاعد النزعات القومية والتوجهات اللاعقلانية التي عادت العلم في تلك الفترة، ليقول إن تلك هي فرصة للعلم لكي يعيد اكتشاف ذاته «فالأزمات تدعونا من جديد لتقييم الذات». المطلوب من العلم هنا لكي يواجه هجوما كهذا من مؤسسات سياسية واجتماعية ترفضه هو أن يتذكر ما كان عليه، ويحدد قواعده من جديد، لكي يبرر ذاته.

هنا يعتبر روبرت ميرتون أن العلم اصطلاحا يشير إلى عدة مفاهيم أساسية، فهو ميثودولوجيا الحصول على – والتثبت من صحة – ما نحصّله من المعرفة، وهو الكيان الذي يحتوي على تلك المعرفة المتراكمة، وهو القيم التي تحكم النشاط العلمي، ويهتم ميرتون بالمفهوم الأخير، بالهيكلة الثقافية للعلم، فيقول إن «قيم العلم تنبع من أهدافه ومنهجيته»، فهدف العلم هو مد أفق المعرفة الموثقة الصحيحة، ومنهجيته تتم عبر عبارات مختبرة تجريبيا ومتسقة منطقيًا.

تساعد تلك المعايير التي تبحث بطبيعتها عن «الصواب» أو «الشيء الجيد»، ليس فقط على رفع كفاءة وفاعلية العملية العلمية، ولكنها تُلزم المشروع العلمي أيضا بالتعبير عن جانب أخلاقي يمثلها، سوسيولوجيا العلم عند روبرت ميرتون إذن هي توجه معياري، يطلب إلى العلماء أن يتسقوا مع فكرة العلم ذاته عن ذاته، عن منهجيته وأهدافه، فيصبحوا أكثر قدرة على مواجهة الهجوم السالف ذكره.

لذلك، يحدد روبرت ميرتون أربع مجموعات من الضرورات أو المعايير المؤسسية التي تعبر روح العلم الحديث، وهي شيوع المعرفة Communalism، عدم الاهتمام Disinterestedness، العالمية أو الكونية Universalism، والشك المنظم Organized skepticism، وتصب جميعها في صالح فكرة ميرتون عن العلم كهيكل معياري يصف ما يجب أن يفعله العلماء بداخل مجتمعهم.

لا أهمية لمدى سلطة أو شهرة الشخص حين يقوم بادعاء بل يقارن بمعايير غير مشخصنة محددة سلفا وتحدد صلاحيته بدون تدخل شخصي ولا يهم إن كنت رئيس دولة حتى.

تبدأ العالمية بفكرة أنه لا أهمية لحجم أو مدى سلطة أو شهرة الأشخاص في العلم، حينما تقوم بادعاء ما فإن ما تفعله هو مقارنة نتائجك بمعايير «غير مشخصنة، محددة سلفا»، وتحدد صلاحيته بدون أي تدخل شخصي. لا يهم إن كنت رئيس دولة ما، حزب ما، جماعة ما، وتعتقد – مثلًا – أن الأرض مسطحة، ما يهم فقط هو الفكرة الرئيسية للعلم. كل ادعاء يجب أن يتسق مع الرصد، التجربة، والمعرفة المؤكدة، وبالتالي فالأرض كروية رغمًا عن الجميع، «فالموضوعية تحول دون تحقق المصلحة الخاصة».

في تلك النقطة يضيف ميرتون أن العديد من الثقافات التي تمارس أنواعا من الهيمنة تتعلق بمركزية عرق ما، جنس ما، أو ذات العلاقة بالصراعات والحروب بين الدول، أو بالقومية، تُجبر المؤسسات العلمية ألا تعتبر ادعاءات شخص ما بسبب جنسه، عرقه، أو الدولة التي ينتمي إليها. وقد كان ذلك واضحًا على مدى تاريخ العلم، وبذلك تُستبعد جهود محتملة كان يمكن أن تساعد المعارف العلمية على النمو. هنا يؤكد ميرتون أن هناك اتساقا قويا بين العلم، بخاصيته العالمية، والديمقراطية كنظام سياسي، ويتضح ذلك في حديثه الدائم العلم في نظام ديمقراطي.

المفهوم الآخر من أعمدة ميرتون الأربعة هو شيوع المعرفة، ويقصد به أن المعرفة/الكشوف العلمية هي ملكية عامة لكل مجتمع العلماء، وعلى الجميع أن يتشارك اكتشافاته مع الجميع ويطرحها للنقاش العام في المجتمع العلمي. بالطبع لا نجد ذلك واضحا في الوسط العلمي حاليا فالأمور تندفع بقوة نحو المزيد من خصخصة المعرفة وإخفاء الكشوف والرفع من قسوة شروط حقوق الملكية. لكننا سوف ندلف لنقاش تلك النقطة بعد قليل. دعنا الآن نتأمل أفكار روبرت ميرتون عن تلك القيمة العلمية.

تبني تلك الفكرة نفسها على سابقتها، لتقول إنه إذا كانت الموضوعية تحول دون المصلحة الخاصة، فمن الواجب الذي يفرضه الأساس المنطقي للأخلاقيات العلمية ألا يمتلك العلماء الأفكار، لكنهم يحققون من خلالها شيئا آخر يمكن امتلاكه، وهو السمعة ذات الأثر في الوسط العلمي عبر ابتكار أفكار لامعة. هنا يسميها ميرتون حالة من «التعاون التنافسي Competitive Cooperation» فيتنافس الباحثون لامتلاك المكانة الأعلى في الوسط العلمي لكن نتائج أعمالهم تتعاون معا لدعم المعرفة العلمية ككل دون قيود، وفي مجتمع منفتح بالكامل. ثم يبرر فكرته باقتباس نيوتن الشهير أن ما حققه كان فقط لأنه وقف على أكتاف عمالقة سابقين «فالنتائج الموضوعية للعلم هي نتاج للتعاون الاجتماعي»لأن ابتكارك هو نتيجة لمعارف أخرى امتلكت حق الوصول المجاني لها من سابقيك من العلماء، لذلك «يتم تعيينها للمجتمع، وهي تشكل تراثا مشتركا تكون فيه حقوق المنتجين الفرديين محدودة للغاية».

في الحقيقة تستحق تلك النقطة بعض التأمل، وقد تعمق ميرتون فيها بشكل أكبر في مقالات لاحقة، وأرفقها جميعا مع معاييره الأربعة في كتابه الشهير «سوسيولوجيا العلم» المنشور سنة ١٩٧٣. حيث يضيف ميرتون أن أفضل مقابل ممكن للعالِم ليس النقود، وإنما موقعه في مجتمع العلماء، واستشهادهم بأعماله. كلما بنى مجتمع العلماء على إسهاماتك بشكل أكبر، كانت تلك هي المكافأة الحقيقية. يسميها ميرتون «نظام المكافأة Reward system». خذ مثلًا جائزة نوبل، لا يهتم أحد بذكر قيمتها النقدية، لكن يهتمون بمقدار ما تحققه من مكانةٍ غاية في العظمة للحاصل عليها في الوسط العلمي. ويضرب ميرتون مثالا بأن الجدل حول اكتشاف التطور بالانتخاب الطبيعي (داروين/والاس)، أو التفاضل والتكامل (نيوتن/لايبنتز)، ليس إلا دليلًا على أهمية ما تعنيه المكانة في مجتمع العلماء.

يطور ميرتون فكرته ليناقش مدى تأثير تلك المكانة في تراكم المصادر والمواهب والتقدير حول العلماء الأكثر مكانة، حتى إن كان إنجازهم مساويًا لآخرين غير مشهورين في الوسط العلمي. حيث يؤكد في الورقة البحثية (تأثير ماثيو في العلم Matthew effect in science) أن الفكرة القائلة أن الغني يزداد غنىً، والفقير يزداد فقرًا – تأثير ماثيو – قائمة في صورة المكانة العلمية في الوسط العلمي، فهي تؤثر ليس فقط في نطاق سُمعة العالم، وإنما توجه نظم التواصل في المجتمع العلمي ككل نحو نقاط مركزيةِ مكانة علماء بعينهم. وهنا سوف يختلف تأثير نفس الورقة العلمية المكتوبة بيد عالم مغمور وآخر شهير، وتلك مشكلة كبيرة يعبر عنها ستيفن ستيجلر في قانون شهير: «لا يوجد كشف علمي يسمى بأسماء مكتشفيه الحقيقيين»

في نفس السياق يتعلق المعيار الميرتوني الثالث «عدم الاهتمام» بهدف العلماء كوحدات هذا المجتمع، والذي من المفترض أن يكون إنكار ذواتهم من أجل البحث وراء الحقائق، والحقائق فقط، وليس للحصول على عوائد مادية أو معنوية، أو تلفيق النتائج لتجنب التشهير أو خسارة ما عملوا عليه لفترة من الزمن بسبب مخالفة نتائج التجارب لأفكارهم. يوضح ميرتون هنا أن العلماء ليسوا آلهة لا تخطئ، لذلك فالدفع بذلك الاتجاه لا يُقصد به أن ينبع من العلماء أنفسهم، ولكن من الهيكل المؤسسي العلمي، لكنه رغم ذلك يُلقي بادعاء ثقيل للغاية حينما يقول إن «الغياب الفعلي للغش في السجلات العلمية، والذي يبدو استثنائيا بالمقارنة مع سجل مجالات النشاط المعرفي الأخرى، يعزى في بعض الأحيان إلى الصفات الشخصية للعلماء».

درجات الغش في النتائج العلمية تقل لأن الباحث يعرف أنه في النهاية سوف يقدم نتائجه لمجتمع من الخبراء القادرين على عمل تدقيق صارم لتلك الأبحاث.

يربط ميرتون هذا المعيار بالثلاثة السابقة ليقول إن درجات الغش في النتائج العلمية تقل لأن الباحث يعرف أنه في النهاية سوف يقدم نتائجه لمجتمع من الخبراء القادرين على عمل تدقيق صارم لتلك الأبحاث، وهو بذلك يشير إلى ما نعرفه باسم «مراجعة الأقران Peer Review»، رغم ذلك يقع الجدل الاجتماعي حاليا حول مدى قدرة مراجعة الأقران على تجنب أنواع الغش المختلفة في الوسط العلمي.

يتبقى لنا مفهوم أخير في رباعية ميرتون، وهو «التشكك المنظم»، وهو مفهوم في إطار بحث العلماء الدائم وراء عبارات سليمة منطقيا ومؤكدة تجريبيا. حينما أقول لك إنني قد حللت مشكلة مفارقة المعلومات في الثقب الأسود فلن تصدقني حتى ترى تلك الأفكار مرفقة ببرهان/دليل دامغ على صحة الادعاء. يحتاج العلماء دائما للتحقق من كل الحقائق، الاحتمالات المطروحة، الآليات المستخدمة، الأدوات التجريبية. «فالمحقق العلمي لا يحافظ على الانقسام بين المقدس والمدنس، وبين ذلك الذي يتطلب الاحترام غير النقدي والذي يمكن تحليله موضوعيا»، كل شيء يجب أن يخضع للتحقق.

هنا يوضح ميرتون أن تلك الفكرة تحديدًا قد تولّد نوعا من التوتر تجاه حدود العلم، هل يمكن أن يتدخل بتلك الفكرة عن «التشكك المنظم» للبحث في أي نطاقات ثقافية أخرى؟ في الدين؟ في الاقتصاد؟ في السلطة؟ لمحاولة التساؤل عن مدى صحة/دقة ادعاء ما، هنا يوضح ميرتون أن هذا هو مصدر الثورة ضد ما يسمى بـ «تدخل العلم في مجالات أخرى».

يضيف ميرتون أن تلك المقاومة للعلم من جانب الدين أصبحت أقل أهمية بالمقارنة مع مقاومة الجماعات الاقتصادية والسياسية له. وأن المعارضة للعلم قد تولد بعيدا عن قدرة بعض الاكتشافات العلمية على إبطال عقائد معينة في الدين، الاقتصاد، أو السلطة السياسية، بل «هو اعتقاد منتشر، وغامض في كثير من الأحيان، بأن التشكك يهدد التوزيع الحالي للسلطة». وتزداد حدة النزاع كلما توسعت الأبحاث العلمية لتشمل أراضي جديدة توجد بالفعل فيها مواقف مؤسسات أخرى غير علمية بآراء مختلفة أو عندما تحاول مؤسسات أخرى أن تسيطر على العلم.

تجد أفكار ميرتون درجة عالية القبول في وسط العلماء، لكن مشكلتهم تكمن في تصورهم عن الوسط العلمي نفسه، في سنة 2007 وفي دراسة مشهورة [1] قام بها ماثيو سميس أندرسون عن «التنافر المعياري في العلوم»، عبر استفتاء شمل 3247 عالما في نطاق الولايات المتحدة الأمريكية، جاءت نتائج إجابات المشاركين عن أسئلة تتعلق بـ «كيف يرى كل منهم معايير ميرتون؟» و«ما مدى قرب عملهم البحثي من تلك المعايير؟» و«ما مدى اقتراب زملائهم بالعمل البحثي من معايير ميرتون؟» كالتالي:

90% من الباحثين يؤمنون بأهمية معايير ميرتون، لكن 70% فقط منهم يقول إنه ينفذها، لكن 10% فقط منهم يقول إن الآخرين من زملائهم في العمل البحثي قريبون منها، هنا يتضح أن هناك قبولا بمعايير ميرتون لكن الباحثين لا يعتقدون أن مجتمع العلماء يعيش بمقتضاها، ويشير ذلك إلى انفصال واضح عنها في مجتمع العلماء.

يعمل ميرتون إذن على مشروع يحاول من خلاله أن يمنع عملية التحكم في العلم من قبل الأنظمة الشمولية، القومية، والتوجهات اللاعقلانية والإقصائية المتطرفة بكل أنواعها. يحاول أن يخلق نوعا من اليوتوبيا التي تبدو للوهلة الأولى كفانتازيا روايات الخيال العلمي والأفلام التي ينتصر فيها البطل حامل شعلة الخير في النهاية، لكن رغم ذلك، يصر ميرتون أن العمل بتلك المعايير الأربعة داخل مجتمع العلماء هو فقط ما يمكن أن يجنبهم درجات واسعة من التحكم في نشاطهم وتوجيهه لخدمة أغراض أخرى، وبالتالي فقدان العلم لما تعنيه كلمة «علم» في الأساس.

لا نجد في الأفق بريق أمل واضح يؤكد ذلك، لكن تبقى أمنياتنا بأن يتمكن العلم من تجاوز تلك التحديات المعاصرة قائمة، لعل وعسى.


* جميع الجمل الملونة هي اقتباسات من مقال روبرت ميرتون الشهير «الهيكل المعياري للعلم» والذي نشر تحت عنوان «العلم في نظام ديمقراطي».[1] Normative dissonance in science: results from a national survey of u.s. Scientists.[2] كانت محاضرات الدكتورة نيكول بيبيريل من جامعة RMIT الأسترالية في النظرية السياسية والاجتماعية داعما جيدا لي في قراءة مقال ميرتون وفهم جوانبه وسياقاته السياسية والاجتماعية.