في عام 1933م، عُرض في السينمات المصرية فيلم «الوردة البيضاء» بطولة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. حقق الفيلم نجاحًا ساحقًا فور عرضه في السينمات المصرية، وحصد أرباحًا فاقت ربع مليون جنيه، وهو ما كان رقمًا قياسيًّا وقتها

من أجل تصوير «الوردة البيضاء» سافر صنَّاع الفيلم إلى باريس للاستعانة بالخبرة الفرنسية في صناعة الأفلام. في هذا الوقت كانت فرنسا – وربما أوروبا بأسرها – تعيش كابوسًا مرعبًا بعد صعود النازيين إلى الحُكم.

في العالم العربي لم نكن نعلم شيئًا عن هذه التغيرات السياسية الدرامية إلا بعد اندلاع الحرب، لكن ظل في تاريخ السينما أنه بينما كان فيلم «الوردة البيضاء» يُعرض على الشاشات المصرية، كان هتلر يُعيَّن مستشارًا لألمانيا.

في الحقيقة، لم تكن هذه أشهر حالة اقترن فيها اسم هتلر بمصطلح «الوردة البيضاء».

وإنما الحالة الأكثر شيوعًا هي أشهر جماعة طلابية تبنَّت فكرًا مُعارضًا لسياسات هتلر حملت اسم «الوردة البيضاء»، وبذلت جهودًا لمحاربة النازيين من لحظة وجودهم الأولى في السلطة.

هذه الجماعة كانت نشازًا على التأييد الجارف الذي ناله النازيون في جميع أنحاء ألمانيا. وهو التأييد الذي حافظوا عليه بأي ثمن، ولو بالتخلص من جميع حركات المعارضة.

وهو المصير الذي لاقاه جميع أعضاء «الوردة البيضاء»، وعلى رأسهم عضوتها الرئيسية صوفيا شول، التي بات يُنظر لها الآن كأيقونة لمواجهة الطغيان والديكتاتورية، ويُحتفل بجهودها ونضالها في جميع أنحاء العالم.

النشأة والميلاد

وُلدت صوفيا ماجدالينا شول في 9 مايو/ آيار 1921م، وهي ابنة روبرت شول، عمدة مدينة فورشتنبرغ. 

قبل وصول النازيين إلى السلطة اتبع والدها خططًا تقدمية خلال توليه السلطة، تضمنت مد خط السكة الحديد إلى المدينة وبناء مركز رياضي، رغم ذلك جرت إقالته من منصبه عام 1930م.

بعدها بعامين انتقل روبرت إلى مدينة أولم حيث افتتح مكتبًا خاصًّا للعمل كمستشار ضرائب لأصحاب الأعمال التجارية.

انتقلت الأسرة المكونة من 5 أبناء (إنجي، هانز، إليزابيث، فيرنر، تيلدا، صوفي) إلى مدينة ميونيخ حيث التحقت صوفي بمدرسة ثانوية للبنات.

تزامَن قدوم أسرة «شول» إلى برلين مع صعود النازية إلى السلطة (وصلوا عام 1933م). في سن الـ 12 التحقت صوفيا برابطة الفتيات الألمانيات، إحدى منظمات المجتمع التي استعان بها النازيون لتربية الفتيات وهن في سنٍّ صغيرة على المبادئ النازية.

التحقت الطفلة الصغيرة بهذه الرابطة بحماس متأثرة بالدعاية الجارفة التي اجتاحت ألمانيا حينها بشأن المُجد المقبل على أيدي النازيين. 

اعترض الأب  الذي عُرف بتمسكه بأصوله المسيحية (عاداها النازيون بضراوة) بالإضافة إلى قناعات ليبرالية حديثة، على الحماس الذي أبداه أبناؤه لهتلر عند وصوله إلى السلطة. فيما بعد قالت الشقيقة إليزابيث شول: «لقد رفضنا آراءه في هذا الوقت، واعتبرنا أنه كبير ولا يفهم ويمتلك قناعة سلمية دائمًا، لكن معارضته المستمرة لآرائنا أثَّرت علينا بالتأكيد في تغيير قناعاتنا لاحقًا».

بمرور الوقت قل حماس صوفيا لمنظمة الفتيات الهتلرية، بعدما اطلعت على الآراء المعارضة لسياسات هتلر التي أبداها بعض معلميها (اعتُقل أي معلم في مدرستها رفض الترويج للنازية)، وعدد من أصدقائها ووالدها، كما أصبحت تضيق بأساليب معاملة قادة منظمة «شباب هتلر» للأعضاء، وسعيهم لغرس الولاء لهتلر فقط داخل نفوسهم، حتى إنهم طلبوا منهم التجسس على أحاديث الوالدين وكتابة تقارير عنها لقادة المنظمة.

أيضًا، أُحبطت صوفي في النازية بعدما علمت أن جميع رؤيتها للنساء لن تزيد عن السياسة التي جرى ترديدها مرارًا في مؤتمرات النازية، والتي تهيِّئ النساء لوظائف ثلاث لا رابع لها: الأطفال والمطبخ والكنيسة. لا رغبة في تحرير المرأة هنا أو تعليمها وتثقيفها، فقط إعدادها لدورها الخلفي في الحرب.

في عام 1937م، اعتُقل إخوتها وبعض أصدقائها بسبب انضمامهم إلى «حركة الشباب الألماني». هذه الحركة الشبابية المدنية رحبت بصعود النازيين إلى السلطة، إلا أن النازيين رفضوا وجودهم فور وصولهم إلى السلطة، مثلهم مثل غيرهم من الحركات الشبابية التي لا تتبع حركة «شباب هتلر» (البديل الذكوري لرباطة الفتيات الألمانيات).

أُفرج عن إخوتها وأصدقائها، لكن ضيقها من تصرفات هتلر ونظامه أصبح يتزايد يومًا بعد يوم.

صوفي تُخطط لقتل هتلر

وفي عام 1940م خاضت صوفي حوارًا يائسًا مع أختها إنجي قالت لها فيه: «أصبحنا نعيش في مجتمع صار فيه الاستبداد والكذب والكراهية هي الأوضاع الطبيعية، كل يوم لم تدخل فيه السجن هو بمثابة هدية، لم يعد أحد في مأمن، البعض اختفى للأبد، هناك آذان خفية تستمع إلى كل ما يُقال في ألمانيا».

تزامَن هذا العام مع اكتساح النازيين السريع لأوروبا واحتلال كل جيرانها من النرويج وحتى فرنسا، وباتت العاصمة باريس في قبضة هتلر.

وفي خطابٍ أرسلته إلى صديقها فريتز هارتناجل الضابط في الجيش الألماني: «بالنسبة لي فإن العلاقة بين جندي وشعبه تشبه إلى حد كبير علاقة الابن الذي يقسم على الوقوف إلى جانب والده وعائلته في السراء والضراء. إذا تبين أن الأب يضر بالأسرة، هل يجب أن يظل الابن متمسكًا به؟ لا يمكنني قبول ذلك. العدل أهم من الولاء العاطفي».

في عام 1942م، انضمت إلى جامعة ميونيخ لدراسة الأحياء والفلسفة، حيث التحقت بشقيقها هانز (كان يدرس الطب)، وقدَّمها إلى أصدقائه ألكسندر شموريل وويل جراف وكريستوف بروبست.

وفي هذه السنة كانت كفة الحرب تميل لصالح الحلفاء بعد الهزائم الألمانية المتلاحقة على الجبهة الروسية.

خلال هذا التوقيت، كوَّنت صوفي قناعتها الخاصة المعارضة لهتلر بشدة، حتى إنها تمنت قتله بيديها. وقالت لصديقة لها: «لو قابلتُ هتلر فسأطلق عليه الرصاص، فما دام الرجال لم يفعلوا ذلك، فعلى امرأة أن تفعل».

بداية تنظيم الوردة البيضاء

في الجامعة اعتاد الأصدقاء الأربعة الاجتماع وخوض نقاشات مستفيضة حول قضايا الاهتمام المشترك كالفن والموسيقى والأدب، وسريعًا تطرقت هذه المناقشات إلى السياسة والحرب المشتعلة مع الجيران الأوروبيين، والتي كان الشعب الألماني يجهل الكثير عنها بفضل سياسة التعتيم الكبيرة التي فرضتها الدعاية النازية على الشعب.

امتلك هانز (شقيق سارة) الكثير مما يُمكن قوله في هذا المجال بعدما عمل مُسعفًا لمدة عامين في الجيش، ورأى بعينيه حجم المآسي التي تجري على جبهتي الاتحاد السوفيتي وبولندا.

في مذكراته، كتب هانز: «إن تشاؤمي يزداد سوءًا كل يوم، الشك بات يُسمِّم روحي».

شكَّك الأصدقاء الأربعة في جدوى هذه الحرب وفي السياسات النازية واتفقوا على ضرورة مقاومتها وتوعية الشعب الألماني بأخطارها. اختاروا أن يقاوموا النازيين بشكلٍ سلمي عبر توزيع منشورات تُطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتفضح نقائص النازيين التي لا تذكرها وسائل الإعلام الرسمية.

في هذه المنشورات أطلق الأصدقاء (انضمت إليهم لاحقًا إنجي (شقيقة هانز وصوفي) وأستاذ الفلسفة كورت هوبر) على أنفسهم اسم «الوردة البيضاء»، وكتبوا منشورات تكشف جوانب من فظائع الحرب التي طالعها هانز، مثل الإبادات الجماعية لليهود المُسالمين.

تأثر طلبة الوردة البيضاء بشدة بمحاضرات أستاذهم كورت هوبر حول الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي ارتكزت فلسفته على أن البشر جميعًا يجب أن يتمتعوا بالقُدرة على ممارسة التفكير، وعدم قبول أوامر السلطة إلا لو التزمت بالأخلاق. اشتهر كانط بمعارضته جميع أشكال الطاعة العمياء.

آلام أعضاء الوردة البيضاء تزداد

في أغسطس/آب 1942م، هاجم الوالد روبرت شول هتلر بعنف وقال في جلسة خاصة: «لقد خسرنا الحرب بالفعل، هتلر هذا بلاء على البشرية، الروس سيجلسون في برلين قريبًا»، على الفور تسرب الخبر وقُبض عليه وحُكم عليه بالسجن 4 أشهر.

بعدها عرف الإخوة شول أنه جرى القبض على 12 شيوعيًّا وأعدموا في الحال، وهو ما كان القشة التي قسمت ظهر البعير، فقرروا تكثيف جهودهم للتوعية بمخاطر الحُكم الهتلري.

خلال الفترة بين يونيو 1942م وفبرير 1943م كتب أعضاء «الوردة الييضاء» ستة منشورات، حثوا فيها الشعب الألماني على مقاومة النازيين. 

نفَّذ هانز شول وألكسندر شموريل بعض العمليات الجريئة، فرسموا عبارة «يسقط هتلر» على واجهة مبنى مستشارية ولاية بافاريا، كما كتبوا عبارة «هتلر قاتل جماعي» أو «الحرية» على عددٍ من الجدران بلغت 20 مكانًا على الأقل. 

لكتابة هذه المنشورات استعانوا بآلة نسخ بدائية أنتجت من منشورهم الخامس ما بين 6 و9 آلاف منشور، وزعوها على الناس عبر البريد السريع.

ظهرت النسخ في نواحٍ متفرقة من ألمانيا: شتوتغارت، كولونيا، فيينا، فرايبورغ، كيمنتس، هامبورغ، برلين. 

كُتب في أحدها: «لن تُكمم أفواهنا. نحن صوت الضمير، والوردة البيضاء لن تترككم في سلام».

حذرت المنشورات من أن هتلر يقود ألمانيا إلى الهاوية، وأكدت أن الحلفاء يوجهون هزائم كبرى للجيش الألماني لكنها تُخفى عنهم، وأكدت جماعة «الوردة البيضاء» أن هتلر لا يُمكن أن ينتصر في هذه الحرب.

وفي الختام كانا يحثُّون الألمان على النضال من أجل حرية الكلام، وحرية الدين، وحماية المواطنين من تعسف الدولة الدكتاتورية المجرمة.

أحدثت هذه المنشورات ضجَّة كبرى، وبدأ الجستابو في إجراء تحقيقات واسعة النطاق ليتعرَّف على أصحاب هذه الكلمات المتمردة.

النهاية: إعدام وخلود

في 13 يناير/ كانون الثاني 1943م، خطب زعيم الطلاب النازيين بول جيزلر في طلاب جامعة ميونيخ طالبًا منهم الانصياع التام لأوامر هتلر، كما أكد على القناعة النازية بأن المكان الطبيعي للمرأة ليس الجامعة، وإنما مع أسرتها بجانب زوجها، وعندما اعترضت بعض الفتيات على هذه الكلمات وقعت اشتباكات بين الطلبة وبين أفراد الأمن المصاحبين لجيزلر.

اعتقد فريق الوردة البيضاء أن هناك صلة مباشرة بين منشوراتهم وبين هذه الاحتجاجات، وأن كلماتهم ترفع موجة الوعي المُعارِض لهتلر بين الطلبة.

هنا قرَّروا أن تكون ضربتهم المقبلة والأخيرة هو التوجه بمنشوراتهم إلى الطلبة مباشرة عبر توزيعها عليهم داخل أروقة الجامعة.

قبل القبض عليها بيومٍ واحد (يوم 17 تحديدًا)، كتبت صوفي إلى ليزا أنها قضت يومها في الاستماع إلى مقطوعة للموسيقار شوبرت، وحكت لها أن موسيقاه جعلتها تشعر بنسيم الهواء وبالروائح وبصراخ الطيور، وكأن الطبيعة كلها في سعادة، ثم علَّقت على هذا الشعور قائلة: «هذا محض سحر».

صبيحة اليوم التالي، في 18 فبراير 1943م، أقدم الأخوَان شول على خطوة جنونية، بعدما قرَّروا توزيع منشورهم السادس والأخير على الطلاب داخل جامعة لودفيج ماكسيميليان في ميونيخ، اقتضت الخطة أن يلقيا المنشورات في الممرات الفارغة خلال تلقي الطلبة الدروس ليجدوها أمامهم فور خروجهم. بعد توزيع 1700 منشور لم تكتفِ صوفي بذلك، وإنما صعدت إلى الطابق العلوي وألقت بكمية كبيرة من المنشورات فتناثرت في الصحن الرئيسي للجامعة.

جاء في هذا المنشور: «سيُدمر هتلر اسم ألمانيا إلى الأبد إذا لم ينهض الشباب الألماني وينتقم ويغير الوضع الحالي، ويسحق الطغاة وينشئ أوروبا روحانية جديدة».

على الفور استُدعيت الشرطة، وألقى الجستابو القبض عليهما، وبعد تحقيقات سريعة توصلوا إلى بقية أعضاء «الوردة البيضاء».

على المقصلة

حُوكم الأخوان شول سريعًا أمام القاضي رولاند فريزلر الذي اشتهر بانتمائه الشديد إلى النازيين وإسرافه في الحُكم بالإعدام على المعارضين، أظهرت صوفي شجاعة كبيرة في مواجهة القاضي النازي، وقالت له: «يجب على شخص ما أن يبدأ». معتبرة أن حركتها ستكون بداية النهاية للنازيين، فيما قال الأستاذ كيرت: «أُطالب بعودة الحرية إلى الشعب الألماني».

كالمتوقع أمر رولاند بإعدامهم جميعًا بالمقصلة، وفي 22 فبراير 1943م، نُفِّذ الحُكم بحق صوفي (حينها كانت في عُمر الـ 22 عامًا) وأخوها هانز وصديقهما كريستوف، وقُطعت رءوسهم بالمقصلة بعد 4 أيامٍ فقط من القبض عليهم.

بعد شهرين من هذا القرار، حُكم أيضًا على الأعضاء الثلاثة الآخرين في «الوردة البيضاء» بالإعدام، منهم أستاذ الفلسفة كورت هوبر (49 عامًا).

تم تهريب المنشور السادس من ألمانيا إلى إنجلترا، ولاحقًا ألقت قوات الحلفاء عدة ملايين من النسخ فوق ألمانيا في صيف وخريف عام 1943.

الاحتفاء الحالي بها

حتى الآن لا تزال صوفي يُنظر لها على أنها «رمز للشجاعة والمقاومة المدنية» السلمية للأنظمة الديكتاتورية.

وتقريبًا لا تخلو مدينة ألمانية من شارع أو مدرسة أو ساحة عامة تحمل اسم أحد أعضاء تلك الجماعة.

في عام 2005، صوتت دراسة استقصائية تلفزيونية ألمانية لهانز وصوفي على أنهما رابع أعظم ألمان في كل العصور، وفي نفس العام اختارت مجلة نسائية ألمانية صوفي شول كأعظم امرأة في القرن العشرين.

في عام 2012م، أطلق اسم «هانز شول» على قاعة المحاضرات الرئيسية في أكاديمية الطب الألماني في ميونيخ.

في نهاية عام 2019م، أطلق الجيش الألماني اسم «كريستوف بروبست» على إحدى الثكنات في مجمع هوشبروك العسكري. 

وفي أغسطس/آب من عام 2020م، أصدرت وزارة المالية عملة خاصة قيمتها 20 يورو، منقوشًا عليها صورة صوفي.

استعان الرئيس الألماني يواكيم غاوك (عمل رئيسًا من 2012 حتى 2017) بنشاط جماعة الوردة البيضاء للدلالة على وجود معارضة شرسة لهتلر خلال حُكمه، قال يواكيم في خطبة له: «أكدوا لنا (أفراد الوردة البيضاء) أن الألمان في هذا الوقت لم يكونوا صامتين أو جبناء».

ويستخدم الألمان اسمها للتعبير عن رفض القمع، وخلال مظاهرات جرت مؤخرًا احتجاجًا على سياسات الإغلاق التي فرضتها الحكومة بسبب فيروس كورونا قالت إحدى المتظاهرات: «أشعر وكأني صوفي شول»، في محاولة منها لتشبيه قيود الإغلاق الحكومية بالإجراءات الديكتاتورية النازية.

منذ أيام أصدرت ألمانيا طابع بريد يحتفي بها ويوثِّق عباراتها الأخيرة في الحياة: «إنه يوم مشمس ويجب أن أذهب، ما الذي يهم في موتي طالما حذرتُ الآلاف؟».