لم تكن الأمور في فرنسا سهلة كما يظن البعض، اضطررت أن أدخل في الكثير من التعقيدات والروتين مع المسئولين الفرنسيين، لأستطيع الدخول إلى إسبانيا، خاصةً وأن الحرب قد دخلت مراحل خطيرة، وكان حظّي أن تكون برشلونة هي بوابة دخولي إلى إسبانيا. بمجرد أن وصلت كأنني وصلت إلى مدينة البهجة، مدينة لا تمت بصلة إلى تلك المعارك الدائرة في مدريد، الألوان الزاهرة المبهجة تملاً الشوارع، والطرق غير ممتلئة بالطين كما هو الحال في مدن الحرب، وحينما ركبت سيارة أجرة نحو المركز الرئيسي للمدينة من محطة القطار، رفض السائق أن يأخذ مني أي أموال، وقال لي «إنه مجاني» والبسمة تعلو محياه، وشعرت حينها أن الرفاهة في برشلونة قد جعلت كل شيء مجاني.

هكذا وصفت الصحافية والروائية الأمريكية «مارثا جيلهورن» رحلتها إلى إسبانيا خلال الحرب الأهلية في صيف عام 1936، في كتابها «The Face of War». وكانت حينئذ مراسلة حربية في فرنسا، تقوم بتغطية التحركات النازية في أوروبا، وبما أن الحرب في إسبانيا كانت جزءًا من تلك الدائرة الكبيرة، قررت مارثا أنه لا شيء يستدعي البقاء في فرنسا، وأن ما يحدث إسبانيا لا يمكن تجاهله.


برشلونة: البعيدة، الثرية، المنيعة

هكذا كانت تُصنف دائمًا رغم حكم التبعية المفروض عليها طوال الوقت، مدينة برشلونة أو إقليم كتالونيا بالكامل، تلك النقطة الهادئة التي تقع في آخر الخريطة الإسبانية المُشتتة، على الحدود مع فرنسا، والتي مرت بسنوات طويلة من الصراعات المختلفة مع العاصمة الإسبانية مدريد.

حتى القرن الحادي عشر لم تكن كتالونيا جزءًا من إسبانيا، بل كانت مجرد إقليم مستقل بذاته، مجاور لمملكة أراغون القوطية الأصل، ولم تدخل كتالونيا ضمن النطاق الإسباني إلا بحلول القرن الخامس عشر، حيث كان الاتحاد بين الملك فرديناند والملكة إيزابيلا، لكنها ظلت -ولأنها النقطة الأبعد عن العاصمة- معتزة بتاريخها وبلغتها الخاصة وعاداتها الخاصة التي اختلفت كثيرًا عن جيرانها الإسبان.

وبدخول الحرب الأهلية الإسبانية نقطة الاستقطاب والمواجهة الفعلية، وذلك بعدما تحرك الجنرال فرانكو بقواته من الريف الإسباني ومن النقاط الحدودية المغربية، والتي كانت وقتها نقطة مناسبة لبعدها عن العاصمة مدريد، كانت كتالونيا على الناحية الأخرى تمامًا، من البعد ذاته عن مدريد وعن نقاط الصراع الفعلية.

لذلك بإمكاننا القول إن الحرب قد وصلت متأخرة بعض الشيء إلى كتالونيا، وهو ما أعطى فرصة للسكان لتنظيم صفوفهم وتجهيز ما يمكن تجهيزه من عتاد وسلاح لمواجهة المد الفاشي بقيادة فرانكو، ودفاعًا عن الجمهورية الجديدة بكل ما يمكن ذكره من أخطاء.


العمال كلمة السر

في 17 يوليو/تموز 1936، صارت الحرب الأهلية الإسبانية حدثًا وليس مجرد تكهنات. بدا الانقسام بوضوح في عموم المدن الإسبانية، فهناك مدن انقسمت على نفسها ما بين دعم الفاشية وما بين تأييد الجمهورية الجديدة، حتى أن الانقسام وصل إلى داخل صفوف الجيش الإسباني والشرطة. لكن كتالونيا بإقليميها الكبار «برشلونة وفالنسيا» قد أعلنت موقفًا موحدًا واضحًا، وهو الوقوف في صف الجمهورية، وقد عنى ذلك الكثير بالنسبة لتوازنات الصراع.

فقد كانت الانقسامات التي تحدث بين سكان المدن وبين أصحاب المناصب والقوى، تشكل عامل دعم هام بالنسبة لفرانكو ورجاله، فهي ببساطة تعني أن ثمة ذراعًا في هذه المدينة، أو في تلك الهيئة، أما كتالونيا فقد شكّلت حجرًا صلبًا لا يمكن النفاذ من خلاله.

خرج العمال إلى الشوارع، رفقة عناصر حركة CNT الإناركية، استعدادًا لنشوب الصراع داخل مدن كتالونيا في أي وقت، وعلى الرغم من أن الثورة في كتالونيا لم تكن منظمة في البداية، وشابها الكثير من التشتت وعدم القدرة على تكوين حالة موحدة تحت لواء بعينه، إلا أنها ظلت عائقًا خطرًا في طريق فرانكو.

في بدايات القرن التاسع عشر، وحيث تزايدت وتيرة الاضطرابات الاجتماعية في برشلونة، تأسس اتحاد العمال الوطنيين، أو ما نُطق اختصارًا بالإسبانية CNT، معلنين أنهم حركة خرجت من رحم اليسار، برفض كامل لمنطق السلطة والحكم، والإيمان باللا دولة. وعلى الرغم من أن الحركة ظلت ذات انتشار ضئيل بعض الشيء، وخفوت واضح على مدار سنوات التأسيس، إلا أن الحرب الأهلية كانت بمثابة تربة خصبة للاتحاد، لينمو ويصبح محور الأحداث.

بدا الشق المجتمعي واضحًا بقوة في الأيام الأولى للانتفاضة، فبدأ أصحاب المتاجر والمخابز ومالكي مستودعات الطعام في فتحها ليتناول الجميع الطعام بالمجان، دون أن يظهر أي شكل من أشكال الاستغلال أو ما اشتهر تسميته عبر التاريخ بـ «أثرياء الحرب».

ثم وبمرور الوقت، بدأ الأمر يتخذ شكلاً أكثر تنظيمًا، حيث ظهرت تجمعات للمهنيين تضم تحتها كل أصحاب الأعمال من فئة محددة (نجارين، خبازين، سائقي سيارات، حدادين)، وذلك للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي، حتى لا تظهر الحاجة للخروج من الإقليم أو الخضوع تحت وطأة الحصار، وبالفعل بدأت عمليات الإنتاج بشكل منتظم ومكثف، لتوفير ما يكفي المدن بشكل عام، وتوزيعه بطريقة الحصص، مما بدا وكأنه صورة من صور «الحكم الذاتي»، وقد شمل ذلك كل الأقاليم الواقعة داخل كتالونيا بما في ذلك «أراجون والمدن الأندلسية وفالنسيا».

حتى أن مالكي الأراضي الزراعية والفلاحين أبوا ألا يكونوا جزءًا من تكتلات الاكتفاء الذاتي الجديدة، وقد خلق كل ذلك حالة فريدة من المقاومة، سجّلها تاريخ كتالونيا طويلاً.

بالخروج قليلاً من بؤرة الأحداث المركزية في برشلونة، يمكن القول إن المقاطعات الأندلسية لم تكن مجرد عنصر مساعد في الحالة الكتالونية الفريدة، بل كانت في الحقيقة واحدة من الملاحم العنيفة، والتي ترتب عليها الكثير من الأحداث، بالتحديد في إشبيلية، حيث اندلعت ثورة «رودو ديل ريو».


إشبيلية وبرشلونة: الأناركية تُشعل الحرب

اتفقت كل المقاطعات الأندلسية على تكوين لجان حماية شعبية، تقف في وجه أي تدخل عسكري من قبل اليمين، لكن إشبيلية على وجه التحديد كان لها دور فارق عن الكثير من المقاطعات، وكان بمثابة سلاح ذي حدين بالنسبة لأهالي المقاطعة، فقد أُلقي القبض على كل من اُشبته في انتمائه لليمين[1]، وزُج بهم في سجن المقاطعة المحلي، على الرغم من أن فئة كبيرة من المقبوض عليهم كانوا مجرد أهالي لا يربطهم باليمين سوى الاقتناع وحسب، لكن الكراهية والاستقطاب بين الفئات المتصارعة كان أكبر من كل شيء.

خفت صوت الحكومة تمامًا في كتالونيا، ففي الوقت التي خرجت فيه جحافل العمال ومؤيدي CNT والأهالي إلى الشارع، بدا من الصعب أن يدخل قوات الجيش والشرطة آنذاك في مواجهة مع كل هذه الفئات، فكانت قوات الجيش شبه محاصرة وفي انتظار الدعم من مدريد، أما الشرطة كانوا في معسكر الثورة والجمهورية، وقد تفاجأت الفئات التي خرجت إلى الشارع بأنها في نفس المعسكر مع أحد طرفي الحكومة.

بدأت بعض الأصوات داخل الجيش تفكر في التحرك وفرض السيطرة على برشلونة، بعد تأخر الاستجابة من مدريد، لكن الطرف الآخر من المعادلة كان مستعدًا لذلك وبدأ في التحرك فعلاً لتوجيه الضربة الأولى لمعسكر فرانكو.

بدأت حركة CNT الممثل الأكبر للأناركيين، والذين وصل حجم مؤيديهم حينئذ إلى ما يزيد عن النصف مليون شخص حول إسبانيا، في التحرك نحو فرض السيطرة بشكل كامل على برشلونة، باعتبارها المدينة الأهم في كتالونيا، والمفتاح الرئيسي للسيطرة عليها.

صبيحة السابع عشر من يوليو/تموز 1936، وبعد توارد الأنباء عن قرب تحرك عسكري للجيش، انقطعت موجات الراديو عن البث بشكل مفاجئ، وصدرت أوامر لجميع الصحف بإغلاق مقارها وتوقف العمل بصورة نهائية، وقد كان ذلك بمثابة إعلان رسمي للحرب.

بدأت قوات الثوار في وضع المتاريس الرملية والحواجز في الشوارع، وتجمع المقاتلون بالأسلحة التي يمتلكونها، ثم اتجه ما يقارب الـ 400 مقاتل نحو المقار الخاضعة لسيطرة الجيش، ومحاصرتها من بعيد.

فسدت كل الخطط التي رسمها الجيش، ولم يستطع التحرك، خاصةً وأن قوات الشرطة ستقف ضده بتنظيمها جوار المقاتلين في الشارع، وبدأت معركة النفس الطويل، والتي انتهت في 11 أغسطس/آب 1936، بإعلان قائد قوات الجيش في كتالونيا بتسليم نفسه للقوات الشعبية، بعد مجموعة من المناوشات، لم ترقَ لتصبح معارك كاملة، وأُذيع بعدها خبر سقوط كتالونيا في أيدي الثوار عبر المدن الإسبانية قاطبة.

اختفى كل ما يمكن أن يصنف تحت مسمى السلطة في برشلونة، فالأناركيون أنفسهم لم يقبلوا أن يصبحوا قادة وأصحاب سلطة، لكن برشلونة وجدت أعداءها بالداخل، وقد كانت الكنيسة على رأس أولئك الأعداء، فمنذ سقوط الملكية وحتى وصول إسبانيا إلى ما أطلق عليه مؤرخو ذلك العصر «الدولة الملحدة» كانت الكنيسة عدوًا لدودًا لتلك الثورة، وقد دفعت الكثير من الأثمان في تلك المواجهة، فقد وصل الغضب الشعبي حينها إلى قتل أكثر من 6000 كاهن حول إسبانيا، بالإضافة إلى الهجمات التي حدثت على قبور الرهبان والراهبات ونبشها وإخراج هياكل الموتى ووضعها في العراء في برشلونة.

كل ذلك في خضم الشهور الخمسة التالية لوقوع الانقلاب في يوليو/تموز 1936، حتى أصبحت برشلونة نقطة الخطر التي تؤرق نفس اليمين الفاشي بأسره، فبسقوط سلطة الكنيسة لم يعد ما يؤرق الكتالونيين.


بداية النهاية

كانت تلك ضربة قاصمة للجنرال فرانكو ولليمين بشكل عام، فقد استولى سكان برشلونة على الأسلحة والمعدات التي كانت تحت سيطرة الجيش، وصار السكان للمرة الأولى مُسلحين بشكل كامل، وانتشر السكان المسلحون في الشوارع ولم يعد الأمر مقتصرًا على العمال والأناركيين وحدهم، وأصبحت الحكومة في برشلونة عاجزة تمامًا عن وقف أي تحركات شعبية وتوارت في الظل تدريجيًا، حتى حينما وصلت قوات الحرس المدني من مدريد نحو برشلونة، لم تستطع مواجهة الحشود وتقهقرت.

من الجائز أن تتفق الروايات التاريخية في بعض التفاصيل، لكن من الصعب أن تتفق التفسيرات البشرية بشأن الأحداث، وقد كان ذلك حاضرًا فيما بعد أحداث إسبانيا المريرة، فلو تابعت ما كتبته «مارثا جيلهورن» أثناء تنقلها بين الضواحي المدمرة على أطراف مدريد، مُتفقدةً المنازل التي تدمر سقفها والتي بقي أهلها في العراء، ستجدها تتحدث عن أن الإسبانيين قد فعلوا ذلك:

من أجلنا… ومن أجل الديمقراطية والحرية التي تُنادي بها الولايات المتحدة، وأن ضحايا تلك المعارك مؤمنون بذلك وغير نادمين.

لكن الحرب في الحقيقة كانت تدور في فلك أكبر من تلك التصورات المثالية التي آمنت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها في مواجهة المد الفاشي النازي، وكانت المجازر الجماعية التي شهدتها المدن الإسبانية بشكل عام شاهدة على أن الحرب خرجت عن نطاق المواجهات الأيديولوجية إلى ما هو أبعد من ذلك.

أصاب الاستياء فرانكو وحليفه القوي هتلر، فالصمود في برشلونة كان بمثابة حائط لا يمكن النفاذ منه عبر المواجهات الميدانية، كما أن حدود برشلونة تقع بالتوازي مع فرنسا الواقعة في معسكر حلفاء الولايات المتحدة وبريطانيا، لذلك لم يكن هناك طريق يمكن النفاذ من خلاله داخل ذلك الحجر الصلد، لذلك كان خيار الاستعانة بالحليف الأقرب جغرافيًا من إسبانيا هو أكثر الخيارات المناسبة، فكان تدخل إيطاليا تحت قيادة موسوليني هو السطر الأول في مشهد النهاية.

في أوائل مارس/آذار عام 1938،بدأت المساعدات في الدخول إلى برشلونة عبر الحدود الفرنسية. وردًا على ذلك، تحركت الطائرات الإيطالية صبيحة الـ 16 من مارس/آذار باتجاه برشلونة، لتوجه أولى ضرباتها الجوية نحو المدينة، مع التنويه على أن ذلك النوع من الهجمات لم يكن معتادًا في الحرب على برشلونة.

استمرت الغارات الجوية لما يقارب الـ 3 أيام، حتى الـ 18 من مارس/ آذار. وعلى الرغم من قِصر المدة الزمنية التي استغرقتها الغارات، إلا أن نتائجها كانت أبشع مما يمكن تخيله، فقد وصلت أعداد الضحايا إلى 1300 قتيل، وزاد عدد الجرحى عن 2000 مصاب.

كانت الغارات بمثابة مفاجأة لسكان برشلونة، فالتحصينات الميدانية والمواجهات المعتادة لن تفلح في ذلك النوع من الهجمات.

سقطت أحياء بالكامل جراء الغارات، وبدأت موجات النزوح عن المدينة لأول مرة منذ اندلاع الحرب، وقد كانت الأساليب العلاجية المتاحة في ذلك الوقت أضعف من أن تواجه ذلك النوع من الإصابات البشعة. وحينئذ، بدأت آفاق إعلان السيطرة الكاملة من قِبل فرانكو وحلفائه في الظهور بشكل كامل دوليًا ومحليًا، فها هو الثغر الأخير قد سقط بالكامل.

وفي مساء 18 مارس/ آذار -اليوم الثالث من القصف- توجهت الطائرات الإيطالية، ناحية الأهداف العسكرية في برشلونة، وقصفتها بما يقارب الـ 44 طنًا من المتفجرات الثقيلة، مما تسبب في دمار شامل لتلك الأهداف، وقتل ما يزيد عن الـ 1000 مدني.

وقد وثق الصحفي «روبرت كابا» في كتابه عن الحرب عمليات النزوح عن المدينة باتجاه فرنسا باعتبارها الملجأ الأخير المتاح للنجاة. ولم يطل الوقت حتى خرج الجنرال فرانكو في بيانه الإذاعي الشهير معلنًا نجاح قواته في معركتها الطويلة وفرض سيطرتها الكاملة على عموم الدولة الإسبانية، لتُغلَق واحدة من الصفحات الطويلة في تاريخ كتالونيا العنيدة.

المراجع
  1. Conspiracy, coup d’état and civil war in Seville (1936-1939) – London School of Economics for the degree of Doctor of Philosophy, London, November 2012