تتكرر المفاضلة في الأمثال الشعبية بين الاتساع والتعمق في تعلم شيء ما؛ فإذا ركزنا على القيام بفعل واحد طوال حياتنا، وطورنا مهاراتنا فيه، مثل السباحة أو العزف على آلة موسيقية منذ الطفولة، فبالتأكيد سنقوم بها بشكل جيد؛ أمّا إذا كنا نسعى للقيام بالعديد من الأشياء، فسنتذوق متعة تجربة الكثير من المهارات البشرية؛ ولكن سينتهي بنا الأمر دون إتقان مهارة واحدة بشكل جيد، وسنظل هواة.

قد تلعب التقاليد الثقافية دوراً في فشلنا على هذا النحو؛ ومع فحص هذه الفرضية يمكننا اكتشاف خطئها، وأن النجاح في التخصص المبكر استثناء، وليس قاعدة؛ فغالبًا ما يجد العموميون طريقهم متأخرًا؛ لكنهم يصلون له وهم يجمعون بين أكثر من مهارة، بدلًا من التركيز على واحدة فقط؛ كما أنهم عادة ما يكونون أكثر إبداعًا، ومرونة، وقدرة على الوصل بين قدراتهم.

وهناك حالات متطرفة في التناقض مثل فنسنت فان جوخ؛ الذي تنقل بين مهنة القس، والمعلم، وبائع الكتب، حتى قبل وفاته بسنوات قليلة، وهو في سن السابعة والثلاثين، ليكتشف شغفه الحقيقي بالفن. وذلك مقابل موتسارت، الذي كانت حياته قصيرة بالمثل؛ لكنه كان محظوظًا للغاية بوالده الذي دربه على الكلافير (هي التسمية الألمانية لمختلف الآلات الموسيقية ذات المفاتيح، مثل البيانو والهاربسيكورد) منذ أن كان في الثالثة من عمره.

وقتنا المحدود على الأرض لنتعلم

سعى الكثير من المؤلفين للكتابة حول السبب الحقيقي وراء نجاح بعض الأشخاص المشهورين في مجالهم؛ ولكن معظمها جاء بلا منطق، أو قدرة على الإقناع؛ فهي تركز بشكل خادع على العديد من الحكايات والدراسات الانتقائية بحد كبير، وتعتمد على الفرضيات والاقتراح والتلميح والكثير مما يجب أن يُقال إن الموهبة وحدها لا تكفي، ولضمان النجاح يلزم العمل الجاد، وظهرت هنا نظرية 10 آلاف ساعة من العمل؛ فما يحتاجه الفرد لتعلم مهارة وتحقيق إنجاز فيها لا يقل عن 10 آلاف ساعة من الممارسة المتعمدة، وهي ممارسة مركزة بحيث يتعرف على المهارة، ويمارسها، ويخطئ ويتعلم، ثم يسعى لتحسين أدائه، ثم الاحتراف.

يطلق علماء الاجتماع على التخصص في مجال واحد مصطلح «تقييد النطاق». وفي كتابه الأكثر مبيعًا، «النطاق: لماذا ينتصر العموميون في عالم متخصص؟» يقدم «ديفيد إبشتاين» دليل البقاء في العصر الحديث، والخروج عن الأطر لكل طفل مُجبر على حضور دروس الكمان وهو يحب الرسم، وأي مبرمج يحلم سرًا بأن يصبح عالم نفس، ولكل من يريد أن يتقدم في عصر مليء بالمفاجآت، وكل أب يريد إعداد ابنه لهذا العصر. ويهاجم ديفيد بشدة ما يراه اتجاهًا ثقافيًا حديثًا نحو هوس التدريب والتخصص الذي يدفع الآباء أبناءهم نحوه؛ ويفسر به أسباب فشل السياسيين والاقتصاديين في حل المشكلات التي قد لا تحتاج لخبراء في مجالهم، ولكن مفكرين متمكنين في استنباط صلات غير عادية بين الأشياء، وتمييز طرق للحل يصعب رؤيتها في العادة.

وإبشتاين هو صحافي استقصائي يغطي أكثر من مجال مثل الرياضة، والعلوم، والطب، وجمع بينها في تحقيقاته، وأشهرهم قصة «المنشطات في لعبة البيسبول»، و«الموت المفاجئ لدى الرياضيين الشباب»، وألّف كتاب «جين الرياضات»، وأثبت فيه أن الرياضة جين يولد به الرياضيين، وشرح فيه كيف تتفاعل بيولوجيا الفرد مع سلوكياته (التدريب) وبيئته وثقافته على نطاق واسع.

ولكن ما الدليل على صحة هذا التخمين المريح والمبشر؟

يعرض ديفيد في كتابه قصصاً مثيرة لمجموعة واسعة من أبطال اهتماماته، المثيرة للإعجاب: الفن، والموسيقى الكلاسيكية، والجاز، والعلوم، والتكنولوجيا، والرياضة. واستخدم ديفيد بيانات لإثبات نظريته، ولكن بشكل ممتع ولافت للنظر بسلاسة وقدرة على الإقناع بحشد الأدلة التي كشفت غموض نجاح الأبطال في مجالاتهم.

صراع الهاوي والمتخصص

على الرغم من أن هذا الكتاب الذي تم إعداده جيدًا لا يدحض حجة الخبرة تمامًا، فإن إبشتاين يبيِّن أن أي شخص لم يصل إلى مرحلة 10.000 ساعة من التدريب لإتقان مهارة واحدة؛ لا يزال أمامه أمل حتى الآن.

طرح ديفيد قصصًا من عالم الرياضة، وقارن بينها لإثبات فرضيته، وكانت المقارنة الأهم بين طفلين من نفس العمر؛ الأول، طفل ذو 7 أشهر، أهداه والده مضرب جولف؛ ليصطحبه معه في كل مكان، يجره معه في عربته، حتى إذا أتمّ 10 أشهر، صار يتعثر ويتدحرج به في نادي الجولف؛ ونظرًا لأن الأب لا يمكنه التحدث مع طفله بعد، رسم له صورة ليوضح كيفية القبض على المضرب، والتسديد.

في الثانية من عمره كان الطفل طويلًا بما يكفي ليمسك بمضرب يصل إلى كتفه، ويدخل أول بطولة له، ويفوز بدوري الدرجة العاشرة. ولأن الحياة قصيرة جدًا؛ في الثالثة من عمره كان الطفل يتدرب على التسديد على أرضية خشنة، فالأب يعرف أن ابنه مخلوق للعب الجولف، ومن واجبه إرشاده، من أجل مستقبل مبهر في انتظاره، وعليه من هذه السن الصغيرة التعامل مع اهتمام وسائل الإعلام القادم لا محالة، ليلعب أمامه دور المراسل، ويعلمه الرد بشكل مثالي لبطل.

في العام التالي، تمكن الوالد من إقناع الأم بأن تصطحب طفلها لملعب الجولف في الساعة التاسعة صباحًا، ثم العودة بعد ثماني ساعات من التدريب لأخذه بشكل منتظم؛ ولكن في الثامنة من عمر الطفل كانت المرة الأولى التي يضرب فيها الابن والده، دون أن يعاقبه الأب. كان الأب متسامحًا لأن ابنه موهوب بشكل فريد، ومهما كانت مساعدته له ردها الإهانة، فسيظل معه؛ فالأب الرياضي كان الأسود الوحيد في فريق كليته للبيسبول، وواجه مصاعب هائلة بسبب ذلك، وهو أيضًا رائد في علم الاجتماع، ودرس استراتيجيات الحرب النفسية للضباط، وعمل ما بوسعه لتربية ثلاثة أطفال من زواج سابق؛ لكنه مُنح فرصة ثانية لتربية الطفل الرابع بشكل صحيح.

كان الفتى قد أصبح معروفًا بالفعل عندما التحق بجامعة ستانفورد، وظل والده يروج لأهميته، بأن تأثيره على مجتمعه سيكون أكبر من نيلسون مانديلا، وأهم من غاندي، وأعمق من بوذا، فهو «الجسر بين الشرق والغرب، وهو المختار» كما قال؛ لتصدق آمال الأب – وإن لم تكن لهذه الدرجة – ويصبح ابنه «تايجر وودز»؛ أنجح لاعب جولف في العالم، وأغنى الرياضيين في عام 2005.

في القصة الثانية، كانت أم الطفل مدربة التنس التي لم تدرب طفلها أبدًا، وفقط، كان يركل الكرة معها عندما تعلم المشي. لعب الطفل الأسكواش مع والده، وتدرب على السباحة، والتزلج، والمصارعة؛ وجرّب لعب كرة السلة، واليد، والتنس، وكرة الريشة، وكرة القدم مع فريق المدرسة.

لم يكن للوالدين تطلعات رياضية معينة بالنسبة لابنهما؛ فشجعوه على تجربة مجموعة واسعة من الألعاب الرياضية، وكان هو مستمتعًا بأي لعبة تتضمن كرة؛ ولكن رفضت الأم تمامًا تدريب ابنها على التنس؛ وبررت بأنه سيغضبها كلما ارتكب حماقة، ولن يكون تدريبه ممتعًا لها؛ ليحدث الأغرب بأن يبرع الفتى في التنس خاصة في فترة مراهقته.

في هذه الفترة أجرى الفتى أول حوار صحفي مع جريدة محلية، وقرر مدربو التنس نقله لمجموعة تضم اللاعبين الأكبر سنًا وخبرة؛ لكنه رفض حتى يتمكن من البقاء مع أصدقائه، ويبقى لديه وقت للاستمتاع بعزف الموسيقى، والمصارعة، ولعب كرة القدم بعد دروسه.

في الوقت الذي تخلى فيه عن الكثير للتركيز مع لعبة التنس، كان منْ في مثل عمره يتابعون مع خبراء التغذية، ويقطعون أشواطًا في التدريبات؛ ولكن ذلك لم يحبطه؛ لأنه في عصر تقاعد فيه كل لاعبي التنس الأسطوريين، بقي هو في الصدارة عالميًا، وأصبح روجر فيدرر؛ ضمن أفضل عشرة مصنفين على العالم بشكل مستمر منذ 2002 وحتى 2016.

حول مقومات النجاح في العصر الحديث

يتمكن ديفيد إبشتاين من أن يجعلك تستمتع تمامًا وهو يخبرك بأن كل شيء فكرت فيه حول النجاح كان خطأ؛ فالخبرة تنجح فقط مع المهام التي تتطلب أداء نفس الروتين مرارًا وتكرارًا، ورد الفعل السريع على طول الطريق؛ لنتوقع عملية متسقة وثابتة إلى حد ما بسبب الخبرة؛ لكن مع مشاكلنا الأكثر تعقيدًا، يختلف الأمر بالتأكيد؛ فإن تحقيق النجاح في الحياة ليس كلعبة جولف أو شطرنج؛ فتلك الألعاب التي تقام في ظروف مُهيئة، مع القليل من القواعد، وأهداف بسيطة، وتقدم سهل القياس، لا تتفق وصعوبة المنافسة في الحياة خارجها؛ حيث القواعد التي لا تُعد ولا تُحصى، والأهداف المتغيرة، فلا مقياس بسيط يمكنك قياس التقدم على أساسه.

بشكل خفي تدفع المتغيرات الاقتصادية ديفيد لفتح نقاش التخصص مقابل التعميم، بتشجيع البشر إلى أداء المهام الوظيفية المختلفة، في وقت ينعدم فيه الأمان الاقتصادي العالمي، وثبات الدخل، والاستقرار الوظيفي؛ ليخشى الملايين من تسريحهم، أو تسريح أطفالهم إذا لم يتم إعدادهم لهذا المعترك. فلا يزال الاقتصاد يشكل ضغطًا علينا، وتتغير معه بسرعة معايير ومعنى أن تكون منافسًا قويًا، والعديد من هذه النوعية من التغيرات التي تصطف مع حجة ديفيد حول ما يؤدي إلى النجاح.

فمن المثير أن نرى كيف أجبرت الانهيارات الاقتصادية العالمية المتتابعة، جمهور ديفيد، على الاعتقاد بأن أفكاره نحو الاستكشاف، واتباع الرغبة، وقبول الفشل، هي الأفضل وسط هذه التحولات العصيبة؛ خاصة مع ما أشار له تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، بأن 65% من الأطفال الذين التحقوا بالمدارس الابتدائية في عام 2017، سيحصلون على وظائف غير موجودة بعد، ولا يُمكن إعدادهم من الآن للمستقبل، بل فقط تنمية قدرتهم على التكيف والتنقل بين المجالات.

والآن لنفترض أن العلم هو مجال شغفك؛ فتشير الأدلة إلى أنه يجب أن تسعى جاهدًا لتحقيق التنوع طوال حياتك المهنية. فالطلاب الذين يحضرون مجموعة متعددة التخصصات من دورات العلوم يجيدون التفكير لكن بطريقة مماثلة؛ أما الباحثون ذوو المعرفة المتنوعة يصلون لنتائج مختلفة؛ ونتيجة لذلك فقد توصلت الدراسات إلى أن العلماء ذوي الاهتمامات المتنوعة خارج مجال عملهم وتخصصهم كانوا أكثر فوزاً بجائرة نوبل من زملائهم في نفس التخصص ونفس المعمل، بنسبة تصل إلى 22%.

وإذا نظرنا لأيقونات النجاح المعروفة لدينا مثل اختصاصيي الأورام المدربين على العلاج بجهاز واحد، وجراحي الأذن اليسرى؛ يقدم ديفيد حجة قوية، وبيانات أظهرت أنه عندما عزف معظم أخصائيو أمراض القلب في الولايات المتحدة، عن حضور تدريبهم السنوي، تراجع معدل الوفيات المبلغ عنها جراء الأزمات القلبية، ليتضح أن تدريبهم لا يجعلهم أفضل، وأنهم لا يحتاجون سوى للممارسة، وتطبيق نفس الحلول المدروسة جيدًا للمشكلات – المكررة – التي يواجهونها.

لذا إذا كانت أوساط العمل غير مستقرة، تضطر فيها للتنقل بين وظيفة وأخرى؛ فيجب أن تكون عموميًا، وتظل عموميًا؛ أما لو كان أرباب العمل يبحثون عمن لا ينجح فقط؛ بل يبدع في مهمته، فعليك أن تجمع بين أكثر من مهارة، ثم تتخصص عندما تجد ما يميزك؛ فربما لن يفاجئك أن أكثر التحديات التي تواجه البشر، أو الأعمال الفنية التي أحدثتها أجناسنا البشرية، تتطلب درجة معينة من الاقتراض من مختلف المجالات، فالعموميون هم صلات الكون الخفية.