محتوى مترجم
المصدر
Psychology Now
التاريخ
2016/12/01
الكاتب
Zoran Vukadinovic

كان باروخ سبينوزا فيلسوف هولندي، من فلاسفه القرن 17، من أصل يهودي برتغالي، وكانت حرفته هي صنع العدسات الطبية. وعلى الرغم من استقامه أخلاقه، إلا أنه كان منبوذًا ومطرودًا من قبل مجتمعه بسبب «بدعه الفظيعة». ومن أهم الكتب التي ألّفها كتابه «الأخلاق» الذي ألّفه سنه 1677، ويهتم فيه بتقديم الآثار المترتبة على طبيعة الله في سعادة البشرية. وقد تكون مفاجأة إذا قلت أن هذا العمل له علاقه وطيدة بعصرنا، وأنه أيضًا قد يساعدنا في فهم بعض المواضيع المعقدة في العلم المعاصر، وهذا تحديدًا ما سأناقشه في هذه المقالة.

على وجه التحديد، سوف أحاول أن أبيّن أن الميتافيزيقا [علم الوجود الأشمل من الطبيعة المادية – إض] عند سبينوزا، فضلا عن كونها نظامًا جيدًا يمكن من خلاله فهم سلوك الجسيمات الأولية كما وصفتها ميكانيكا الكم، ستسمح لنا بإزالة الغموض عن مشكلة العقل والجسم mind-body problem [هل للإنسان عقل سوى المخ الذي هو عضو من أعضاء الجسد؟ – إض] في العلوم المعرفية cognitive science [العلوم التي تدرس عملية المعرفة في العقل البشري – إض].


وجهتا النظر الميتافيزيقيتين المعاصرتين

ليس من السهل تحديد فرع من فروع الفلسفة المعروفة بالميتافيزيقا، ولكن عموما نستطيع أن نقول أنها معنية بالأفكار والفئات الأساسية التي يقوم عليها الواقع. فهي – على سبيل المثال – تتعاطى مع المواد والعلاقة السببية، والهوية والظهور، وتعتمد على قدرتنا على معرفة الأسباب حول الأشياء التي لايمكن ملاحظتها مباشرة أو قياسها.

في العلم الحديث، هناك تركيز كبير على عمليات الملاحظة والقياس التي -للأسف – تميل لحجب أهمية النظريات في العلوم. ومن الممكن أن يساعدنا علم الميتافيزيقا على أن يكون لدينا نظرة أكثر شمولا من خلال دمج رؤى العلم في فهمنا الشامل للواقع الذي لايمكن الاعتماد في معرفته على الملاحظة وحدها.

هنالك وجهتا نظر ميتافيزيقيتان معاصرتان لهما تأثير، إحداهما الردّية العلمية scientific reductionism، وهي في جوهرها موقف مادي، والأخرى هي المثالية الرياضية mathematical idealism التي ترى أن أساس المكان والزمان ليس الجسيمات دون الذرية بل بعض الحقائق الرياضية. ويُستمد كلا الموقفين من تقاليد عريقة في الفكر الغربي، ولكل مزاياه.

يستمد الاختزال العلمي قوته من النجاحات التي حققها العلم الحديثة الذي هو إلى حد كبير بنية كبيرة من الاختزال – بمعنى أنه يميل إلى شرح العالم المعقد عن طريق رده عبر طبقات إلى مكونات أساسية. أما المثالية الرياضية فهي مستوحاة على وجه الخصوص من نجاحات علوم الكمبيوتر في توليد عوالم من النماذج الرياضية؛ وهي ناجحة جدا بالفعل إلى درجة أن الفكرة القائلة بأن الكون في حد ذاته هو محاكاة حاسوبية أنتجتها حضارة أكثر تقدما، قد دخلت التيار السائد في الفلسفة (انظر: Are You Living In A Computer Simulation?,Philosophical Quarterly, 53 (211), Nick Bostrom, 2003).

مع ذلك، فكلا الموقفين في نهاية المطاف غير مرضيين. على سبيل المثال، ليس من الواضح أن طبيعة تجاربنا يمكن أن تختزل أو يعبّر عنها عن طريق أشياء مادية. وإذا كان العالم يتكون من حقائق رياضية، فإن السؤال المطروح هو كيف يمكن أن يكون لدينا علم بهذه الحقائق علمًا بأنها تعتبر خارج نطاق المكان والزمان؟

وعلاوة على ذلك، إذا إفترضنا أن هذه الكائنات الرياضية هي عقلية بطبيعتها، فمن الممكن أن ننتهي بجدلية مفرغة: إذا كان من الممكن اختزال العقل إلى العمليات العقلية – كما يفترض الاختزاليون – والعمليات العقلية إلى التفاعلات بين الخلايا العصبية، وتلك العمليات الحيوية إلى تفاعلات بين الجزيئات، والجزيئات إلى ذرات، والذرات إلى جسيمات دون ذرية، والجسيمات دون الذرية إلى نقاط مكانية-زمانية، وتلك النقاط بدورها إلى أرقام، وأخيرا مجموعات الأرقام إلى قوانين رياضية تربطهم – التي سيجادل البعض أن لها كينونة عقلية بالأساس – فذلك سيرجعنا إلى حيث بدأنا (انظر: الواقع: مقدمة قصيرة جدا، يان ويسترهوف، 2011).


الميتافيزيقا عند سبينوزا: مخطط تفصيلي

لكن قبل أن نترك موضوع الميتافيزيقا ونذهب للرأي المتشكك بأن ما يكمن وراء العالم الذي نختبره هو مجهول في الأساس (أو – ما هو أسوأ من ذلك – تافه)، دعونا نضع في الاعتبار معتقدات سبينوزا التي – كما سترون – تتوافق بشكل مدهش مع العلم الحديث.

اعتقد سبينوزا أن الطبيعة – التي ساواها مع الله – مثاليه بشكل مطلق، عازمه، لا نهائيه ولا نهاية لها. هذه الطبيعة (أو الله) الغير محدودة تشمل الجميع . ونحن جميعا جزء منها وليس هناك شئ خارجها. ونحن البشر لدينا منفذ على إثنين من سمات هذا الكيان اللانهائي – الإمتداد والفكر- وكلاهما تعبير عن جوهرها الذي لا حصر له ، وهما ينسجمان مع بعضهما البعض ، لأنهما تعبير عن الواقع نفسه. إلى جانب الامتداد والفكر هناك عدد لا نهائي من سمات أخرى لهذا الكيان الغير منتهي، والتي لا منفذ لنا عليها، ولكنها تظل مع ذلك تعبيرا عن نفس الكيانن، الذي هو – علاوه على ذلك – غير مقيد بالزمن.

لكي نُقَدّر كيف كان هذا التفكير جديدا، فمن الجدير بالذكر أنه في أيام سبينوزا كان الرأي السائد عن الكون في أوروبا لا يزال نفس فكرة القرون الوسطى الموروثة من أرسطو وبطليموس بأن الكون محدود. وكما يشير جوزيف راتنر في «فلسفة سبينوزا» (2014)، فإن رؤية سبينوزا للكون لم تتفوق فقط على فكرة الكون في العصور الوسطى، ولكن أيضًا وجهة النظر المعاصرة السائدة عن الكون كنظام مادي بحت. لذا اسمحوا لي أن أوضح قليلا الميتافيزيقا عند سبينوزا، وأقدّم بعض الأمثلة التي توضح لماذا قد تكون ملهمة لأي شخص هو في حيرة من علاقته بهذا الكون.


الواحدية (وحدة الوجود) عند سبينوزا

«الأخلاق» لسبينوزا هو كتاب ينقسم إلى خمسة أجزاء: الأول والثاني يتعلق بالميتافيزيقا، ومناقشة الله، والعلاقة بين العقل والجسم على التوالي. في الجزء الأول، يعادل سبينوزا الله مع جوهر لانهائي وفريد من نوعه يرتكز عليه كل الواقع. يرجى ملاحظة أن المقصود بالمصطلح الفلسفي «الجوهر» هنا هو كل متكامل لا يمكن اختباره مباشرة عن طريقنا.

بعض المعاصرين لسبينوزا والقريبين من المعاصرين اجتمعوا على أن هنالك العديد من الجواهر. أشهرهم رينيه ديكارت (1596-1650) الذي جادل بأن هناك نوعين من الجوهر: العقل والمادة، لديهما الصفات المميزة للفكر والامتداد على التوالي. وادّعى كذلك أن كل فرد بطريقة أو بأخرى هو اتحاد التفاعل بين هاتين المادتين. في المقابل، اعتقد سبينوزا أن هناك جوهرًا واحدًا فقط ، لأنه لانهائي ويشمل الجميع. ولأنه ليس فقط لا حصر له ويشمل الجميع ولكن أيضًا إبداعي، فهو أن تتساوى مع الله.

وفي باقي كتاب «الأخلاق»، كشف سبينوزا الآثار المترتبة على هذا الرأي لفهم العلاقة بين العقل والجسم، ومن ثمّ فهمنا للعواطف والمعرفة والأخلاق. واحد من الأهداف التي حددها سبينوزا في الصفحات الأولى من الأخلاق أن يقدم تفسيرًا لوجود الأشياء. على سبيل المثال، قد يتساءل المرء ما إذا كان سبب من وجود الموجودات داخلها أو خارجها.

يبدأ سبينوزا في الإجابة على هذا السؤال بالقول أن تعريفات الكيانات عادة لا تشمل عددًا محددًا من الأفراد الموجودين من هذا النوع. على سبيل المثال، لا يوجد شيء في الطبيعة البشرية أو في تعريف «الإنسان» يحدد أنه يجب أن يكون هناك سبعة مليارات منا. وهذا يشير إلى أن تعريف «الإنسان»، وكذلك جوهرنا ، لا يحدد كم البشر الذي سيكون موجودًا، لذلك وجودنا ككيانات فردية يتم تحديده من قبل كيان أكبر منا.

ثم يعمم سبينوزا هذه الملاحظة ليفترض أنه إذا وُجِدَ عدة أفراد لنوع ما، إذن فسبب وجودها لا يمكن أن يكون في داخلها، وبالتالي فإن جوهرها لا ينطوي على وجودها. وبعبارة أخرى، فعمومًا ضرورة وجود الموجودات ليست جزءًا من كيانها أو تعريفها. هنا يظهر السؤال: ما هو السبب المطلق في كل هذا التنوع والتعقيد الذي نختبره في الطبيعه إذا لم تكن تلك الأشياء نفسها؟

يرد سبينوزا بأن المصدر المطلق لجميع الأشياء الموجودة – والذي يحتوي على جميع الأشيلء الأخرى الموجودة، والتي بدونه لا وجود لها – يجب أن يكون شيئًا ينطوي جوهره على الوجود. ولأن تعريف هذا الكيان ينطوي على وجود ضروري (لأن من جوهره الوجود)، فهو ليس فقط موجودًا بالضرورة، بل أيضًا لا يمكن أن يتضمن أي انتفاء للوجود. وهنا يعِنّ أن هذا الكيان غير مقيد وشامل ولانهائي وأبدي. هذه هي الخصائص المميزة لسبب كل ما هو موجود.

هذا يقود إلى تعريف الجوهر عند سبينوزا بأنه «الموجود في ذاته المفهوم بذاته» (الأخلاق، الجزء 1، تعريف 3). وبعبارة أخرى، الجوهر هو ذلك الجزء أو الجانب من جوانب الطبيعة ذاتي الخلق (سبينوزا، ستيورت هامبشر، 2005). وهو جوهر الطبيعة النشطة – استخداما لمصطلحات سبينوزا – وهو ما يعادل الله. وعلاوة على ذلك، يشمل تعريفه ضرورة الوجود، فلا يمكننا أن ننكر وجود هذا الكيان، ولأنه لانهائي وشامل، لا يمكن أن يكون هناك سوى جوهر واحد.

فرضية وجود جانب ذاتي الخلق ليست بالغريبة على العقل الحديث المطّلع على نظريه الانفجار العظيم، وكما يمكننا القول: نظرية التطور. ومع ذلك، فإن القبول بأن هناك كيانًا واحدًا ذاتي الخلق (والذي بسبب تفرده يمكننا أن ندعوه الإله) هو أكثر صعوبة.

علاوة على ذلك، لأن هذا الكيان مثالي وفريد من نوعه؛ فإن استخدام تعبير «عملية process» لوصفه هو غير مناسب تمامًا. لأن هذا المصطلح يستتبع شيئا يتطور. لذلك « الجوهر» هو المصطلح الأكثر ملاءمه لوصف كيان لا يفتقر لأي شئ، وبالتالي فطبيعته لا تتغير.

العقل البشري يفهم الجوهر عند سبينوزا من خلال خاصيتي الامتداد والفكر. لذا يمكننا أن نقدر الماده إما عن طريق التأمل في الكون المادي الغير محدود، أو أخذا بعين الإعتبار لا نهائيه الأفكار الممكنه بداخله. الحقيقه عند سبينوزا هي كلاهما (نظام الأشياء ونظام الأفكار أو الصور).

البشر على سبيل المثال ، هناك هيئات تتألف من الأجزاء الماديه ولكن هي أيضا الصور التي تشكل عقول البشر . وكما ذكرت ، فإن الجوهر عند سبينوزا يتضمن عدد لاحصر له من السمات الأخرى التي لايمكن معرفتها بالإضافه إلى الإثنينن الذين يمكننا أن نعرف. بطريقه ما، هذه المحددات هي التي تجعل الأشياء حقيقيه، متميزه، فهي الوسيله التي يمكن من خلالها التمييز بين كيان محدد وآخر. وفي مصطلحات سبينوزا فإن كل فرد في الطبيعه هو شكل من مضمون (جوهر) واحد.

بالنسبه لسبينوزا ، الفكر والامتداد هما من الناحيه النظريه والسببيه مستقلان عن بعضهما البعض، ولكن في الوقت نفسه متوافقان مع بعضهما البعض. وهذه العلاقة بين المحددات النظريه والسببيه تعرف ب «التوازي»، وستكون مهمه عندما نأخذ في الإعتبار العلاقه بين العقل والجسم .

يرجى ملاحظة أن العقل ليس هو السبب للكون المادي بالنسبة لسبينوزا، ولا الكون المادي هو السبب في العقل. بدلا من ذلك، يرى سبينوزا أن القوة الكامنة وراء وجود طبيعة مادية ووراء أعمال العقل هو الجوهر الفريد والشامل نفسه، الذي لديه كل الصفات على حد سواء.


الجوهر والعلم

إذن فالإله هو كيان موجود بالضرورة، أو هو بالتعريف جانب من الطبيعة خُلِق ذاتيًا، وهو السبب لكل شيء موجود. والسؤال التالي: لماذا فكرة الإله/الله/الطبيعة – حسب تعريف سبينوزا – ذات أهمية بالنسبة لنا اليوم؟ والجواب هو أن هذه الفكرة تقدم رؤية للعالم تتفق مع العلوم المعاصرة التي لا تزال تفتقر إلى الميتافيزيقا التي يمكن أن تسع اكتشافاتها المحيرة.

المثال الأول من الإكتشافات المحيره هي ميكانيكا الكم . أصبح شيئا مبتذلا أن لا أحد يفهم السلوك الغريب للجسيمات الأوليه الموضحه في ميكانيكا الكم . على سبيل المثال ، كيف يمكن لإلكترون مخفي أن يكون في عدد لا حصر له من الأماكن في نفس الوقت ؟ أو كيف يمكن لجسيم من جسيمات الضوء – فوتون – «معاينة» كل الفضاء ومن ثم «يختار» المسار الأسرع بين نقطتين في الفضاء، كما يقول تفسير ريتشارد فانيمان في ميكانيكا الكم؟ أحد الموضوعات المشتركة في ميكانيكا الكم هو تحديدا هذا السلوك «غير المقيد» للجسيمات. وهذا يتفق مع الفكره القائله بأن هناك جانبا لا محدود أو لاحصر له في الطبيعه الكامنه وراء الواقع الذي نختبره، وهذا بالظبط هو وجهة نظر سبينوزا تجاه الجوهر.

موضوع آخر في ميكانيكا الكم هو أن الجواب المعطى من تجربة ما غالبا ما يعتمد على السؤال الذي تطرحه تلك التجربة. على سبيل المثال، يمكن رؤيه جسيمات الموجه الإبتدائيه تتصرف كموجات أو جسيمات إعتمادا على كيفيه إعداد التجربه. وعلاوه على ذلك، يبدو أنه لابد من الملاحظه لإعطاء وجود الكم شكل حاسم. وتلك الميزيتين لميكانيكا الكم تشيران إلى أن هناك علاقه وثيقه جدا بين الذكاء والطبيعه الماديه في الكون، تماما كما يفترض سبينوزا. ولروايتها بطريقته: العقل وأحداث الكم الماديه التي تلاحظ بالعقل لا ينفصلان لأنهم جانبين لنفس الجوهر الفريد من نوعه والذي لا حدود له.

المبدأ الأنثروبي في علم الكونيات يشير إلى ملاحظة ملفتة للنظر، هي أن الكون الذي نعيش فيه يبدو وكما لو كان على وجه التحديد مصمّم للسماح بوجود حياة. وهناك عدد من الحقائق عن الكون، مثل قدرة بعض القوى (على سبيل المثال، القوة النووية داخل نواة الذرة)، وكتل وشحنات بعض الجسيمات دون الذرية ذات القيم الدقيقة المطلوبة لتطوّر مراقبين أذكياء مثلنا. كما لخّصه الفيزيائي جون ويلر في عام 1986، يبدو أن: «هناك عامل واهب للحياة يكمن في وسط آلية وتصميم العالم» (انظر: Wheeler’s foreword inThe Anthropic Cosmological Principle by J.D. Barrow and F.J. Tipler, 1986). وهذا الوصف يمكن أن ينطبق بجدارة على تصور سبينوزا عن الطبيعة الراعية Natura naturans.

بإختصار، العلم الحديث يوفر الأساس لواحدية سبينوزا بالإشارة إلى أن هناك جانبًا غير محدود وإبداعيًا في الطبيعة، وأيضا أن العقل والجسد متلازمان ولا ينفصلان.


العلاقة بين العقل والجسد

بعد ذلك دعونا ننتقل إلى واحدة من أهم النتائج المنطقية لواحدية سبينوزا؛ ألا وهي العلاقة بين العقل والجسد.

في الفقرة الأولى من الجزء 2 من «الأخلاق»، التعامل مع العقل، يوضّح سبينوزا أن استنتاجاته حول العقل تنبع من وجهة نظره إلى الله: «أنتقل الآن إلى شرح تلك الأشياء التي تنبع بالضرورة من جوهر الله، أو الكيان الأبدي اللانهائي». كما رأينا، فالله أو الجوهر هو الجانب ذاتي الخلق من الطبيعة، لأنه موجود بالضرورة، ولا يمكن أن يكون محددًا بأي شيء، وهو لذلك لا حصر له.

بالنسبة لسبينوزا، الجسم البشري لديه سمة الامتداد، والعقل البشري لديه سمة الفكر، أو التمثيل. وعلاوة على ذلك، فإن العقل والجسد هما تجليات متوازية للواقع الأساسي، أو يمكن أن نقول أن العقل والجسد هما نفس الشيء (الجوهر) ضمن سمات مختلفة. وفي اللغه التي ورثها سبينوزا من ديكارت: الفكرة هي تعبير عن الشيء الذي هي جزء منه، وهذا يقود سبينوزا إلى استنتاجه الشهير أن «العقل البشري يساوي فكرة الجسم البشري».

التوازي عند سبينوزا يعني أيضًا أن كل تغيير في جسم الإنسان يجب أن يرافقه تغيير في العقل البشري: «أيًا مما يحدث في موضوع الفكرة التي تشكل العقل البشري [الجسد – إض] فإنه يستقَبل من قبل العقل البشري … ذلك أنه، إذا كان موضوع الفكرة التي تشكل العقل البشري هو الجسد، فلا شيء يمكن أن يحدث في تلك الهيئة ولا يدركه العقل» (الجزء 2، المقترح 12).

هذا المعتقد عن العلاقة بين العقل والجسم ذو صلة بالعلوم المعرفية المعاصرة، حيث أن هنالك اعترافًا متزايدًا بأن هنالك ارتباطًا وثيقًا بين الإدراك والتجسيد. يمكننا القول أن فرضية سبينوزا، مصاغة بطريقة علم الأعصاب الحديث، تعني ضمنًا أن التمثيل الكلي [للواقع] الذي منه يتكون العقل البشري الفردي يعادل النشاط الكلي للنظام العصبي للفرد، وكل منهما يعمل بالتوازي مع الآخر. إذن، فالميتافيزيقا عند سبينوزا تبيّن كيف أن العقل والجهاز العصبي مرتبطين. وهذا النهج في معالحة مشكلة العقل والجسد جذّاب أيضا لأنه يدل على أن العقل ليس دخيلا على الطبيعة، ولكن هو جزء واحد من كل متكامل.

بالنسبه لسبينوزا ، فإن الطبيعة المزدوجة للأشياء (أي التوازي) تنطبق على كل شيء في الطبيعة، وبالتالي، فإن كل شيء في الطبيعة لديه عقل من نوع ما. البشر لا يحتلون مكانًا خاصًا غيبيًا إلا بقدر ما أن الجسم البشري هو الشيء الأكثر تعقيدًا فى الطبيعة، وبالتالي فالعقل البشري هو العقل الأكثر تطورًا في الطبيعه كلها، أو كما يقول سبينوزا: «يكون لدى البعض قدرة أكبر من الآخرين على فعل العديد من الأشياء في نفس الوقت بقدر ما يكون عقولهم أكثر قدرة على فهم الأشياء في نفس الوقت» (الجزء 2، افتراض 13). وبعباره أخرى، فإن تطور العقل البشري يتوافق مع الطابع المعقد لجسم الإنسان.


الخلاصة

وفقًا لتحليل عصري لنظريات سبينوزا التي حاولت توضيحها ها هنا، فإن جانب الطبيعة ذاتي الخلق الذي لاحصر له يكمن في (1) السلوك غير المقيد للجسيمات في ميكانيكا الكم، (2) وجود هذا العالم الذي يدعم الذكاء، (3) ظهور أشكال الحياة من خلال التطور.

وعلاوة على ذلك، كل هذه الظواهر التي تنبثق من جوهر واحد هي مترابطة: لا يوجد فهم بدون تجسيد، ولا يوجد تعقيد متزايد للتجسيد بدون تطور، ولا يوجد تطور بدون وجود ذلك الكون الفريد الذي يسمح للحياة بالظهور. وأخيرا، كما تعلمنا ميكانيكا الكم والمبدأ الأنثروبي، لا وجود لكون مادي مشهود من دون ذكاء يحيا داخله. فوجود الكون والذكاء في داخله هو في نهايه المطاف تعبير عن جوهر واحد.

لا يمكن اختزال سمات الفكر والامتداد أحدهما إلى آخر، لكنّ كليهما يشير إلى نفس الجوهر الذي لا حدود له، نفس القدرة غير المحدودة التي أعرب عنها الطابع المعقد لجسم الإنسان، تعبر عنها أيضا قوى العقل البشري. نفس السلطة التي تقف وراء السلوك غير المقيد للجسيمات في ميكانيكا الكم التي أعرب عنها الاتساع الهائل للكون، تكمن وراء التطور المستمر للمعرفة البشرية. لا يمكن أن يكون هناك أي شيء آخر مبشر أكثر من هذا. وهذا ما يجعل سبينوزا ذا صلة كبيرة بالفكر المعاصر.