قبل نحو ألف عام، توفي ثلث سكان مصر جوعًا، ومن بقي منهم عانى ويلات مجاعة كبرى . فقد تفاقمت الأسعار، وبيع رغيف الخبز في المزادات مثلما تُباع التحف، وما إن انتهى الدقيق والخبز، حتى أكل الناس الكلاب والقطط. كان الكلب يدخل البيت فيأكله الأطفال، ولا يستطيع أحد منعهم من شدة الجوع. اتجه الناس أيضًا إلى أكل لحوم البشر، فكان المارة بالطرقات يتربصون ببعضهم، من يستطيع هزيمة الآخر يذبحه ويأكله، ومن لم يستطع يجلس فوق أسقف البيوت يصنع الخطاطيف لاصطياد المارة وذبحهم. بلغ الأمر أن جاء الوزير يومًا على بغلة للتحقيق بحادثة، فأكلها العامة، وعاد الوزير دون بغلته.

عرفت هذه المجاعة بـ«الشدة المستنصرية»، لكنها لم تكن الأولى أو الأخيرة، فالعديد من دول العالم شهدت مجاعات ضخمة لقي خلالها الملايين حتفهم جوعًا، واضطر آخرون إلى أكل لحوم ذويهم. وبينما حدثت تلك المجاعات نتيجة ظروف وكوارث طبيعية في بعض الأوقات، فهناك أوقات أخرى عمد خلالها البشر إلى إحداث المجاعات كما هو الحال اليوم.


نظرة عامة

على مدى قرون مضت كانت المجاعات عاملًا متكررًا في تاريخ البشرية. دمرت المدن، وحصدت الأرواح، وتسببت بنزوح الملايين من البشر . وعلى الرغم من صعوبة إيجاد بيانات كافية ومحددة بشأن الأرواح التي حصدتها تلك المجاعات، فإن الإحصاءات المتاحة تشير إلى أنه بداية من 1870 وحتى 1980 توفي أكثر من 100 مليون شخص جوعًا.

تباينت مراكز هذه المجاعات من حقبة إلى أخرى، ففي فالفترة من الحرب العالمية الأولى إلى الثانية كان مركز المجاعات في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وروسيا وأوكرانيا. وبعد الحرب العالمية الثانية، ارتبطت المجاعات بآسيا والصين بشكل أكبر.

وكما اختلفت مراكزها، اختلفت أيضا حدتها من دولة إلى أخرى، فنجدها تحصد ما يقرب من 50% من الوفيات في الصين، ونحو 25% منها كان في أوروبا والاتحاد السوفيتي. أما أفريقيا (مركز المجاعات اليوم) فلم تحصد بها ذلك الحين سوى 10%.

وقد تعددت العوامل وراء هذه المجاعات، ما بين العوامل الطبيعية كموجات الفيضان والجفاف والأوبئة المختلفة، والعوامل البشرية كالحروب والصراعات، وتلك السياسات الخاطئة التي عمدت إلى اتباعها بعض الأنظمة، كما كان الحال روسيا في عهد جوزيف ستالين والصين في عهد ماوتسي تونغ، حيث حاولت تلك الأنظمة فرض التغيير إجبارًا وبما يتوافق مع رؤيتها واستراتيجيتها، مما كان له آثار عكسية، وبدلًا من تحسين الأوضاع ببلادها تسببت بمجاعات أودت بحياة شعوبها.

نتجت المجاعات كذلك عن سياسات انتهازية استعمارية، كما حدث في البنغال، حينما تجاهلت شركة الهند الشرقية المملوكة لبريطانيا التقارير عن الجفاف ونقص المحاصيل، وأجبرت المزارعين على زراعة الأفيون بدلًا من الأرز الرخيص، في محاولة منها لتعظيم أرباحها، مما أثّر على الاحتياطي الغذائي تدريجيًا، وانتهى الأمر بمجاعة تسبّبت بموت 10 ملايين من البنغاليين.


أبرز المجاعات عبر التاريخ

على هذا النحو انتشرت المجاعات حول العالم، اختلفت أسبابها لكن توافقت نتائجها، حيث ملايين من البشر ينزحون قسرًا، وملايين يموتون جوعًا. وفي هذا الصدد يمكن إيجاز بعض أمثلة لهذه المجاعات:

1. المجاعة العظمى بأيرلندا

حدثت في الفترة من 1845 إلى 1849 نتيجة لجوء المزارعين إلى الاعتماد على زراعة نوع واحد من المحاصيل (البطاطس). فبعد أن وجد المزارعون أن زراعتهم محاصيل الحبوب لم تكن ذات عائد حقيقي وبالكاد تسمح بالعيش على حد الكفاف، لجؤوا إلى زراعة البطاطس ،حيث إنها محصول قوي ومن السهل نسبيًا نموها في التربة الأيرلندية.

وبحلول أوائل الأربعينيات من القرن الـ19 أصبح نصف السكان الأيرلنديين تقريباً يعتمدون بشكل شبه حصري على البطاطس في نظامهم الغذائي، وقد أدى الاعتماد على نوع واحد من المحاصيل إلى تقليل التنوع الوراثي.

وفي عام 1845 وصلت سلالة من البطاطس بطريق الخطأ من أمريكا الشمالية، وفي نفس العام كانت أيرلندا تتمتع بطقس رطب غير معتاد، فازدهرت فيها الآفة. مما أفسد كميات كبيرة من المحصول. ورغم أن بداية مرض المحصول كانت في 1845 فإنه استمر بعد ذلك مما تسبب بحدوث مجاعات استمرت حتى عام 1849. أسفر الأمر عن هجرة جماعية، حيث فرّ ما يزيد على مليوني شخص من البلاد ، كما قُتل 1.5 مليون آيرلندي، وانخفض عدد السكان بنحو 25%.

2. مجاعة الصين 1907

كان السبب الرئيسي لهذه المجاعة وقوع عاصفة ضخمة ، مما أدى إلى إغراق الأراضي الزراعية الخصبة، وتدمير كل المحاصيل الزراعية. وبالتزامن مع المجاعة، قامت أحداث شغب يومياً بسبب الجوع، وكان التصدي لها باستخدام القوة المميت. وتشير الأرقام إلى وفاة نحو 25 مليون شخص خلال تلك المجاعة.

3. المجاعة الروسية 1921

كانت فترة أوائل القرن العشرين مليئة بالاضطرابات بالنسبة لروسيا، حيث فقدوا الملايين في الحرب العالمية الأولى، وشهدوا ثورة عنيفة عام 1917 (الثورة البلشفية)، وعانوا حروبًا أهلية متعددة، وأخيرًا مجاعة.

حدثت المجاعة عام 1921 واستمرت لمدة عام. فطوال فترة الحرب كان الجنود يقومون بأعمال النهب والسرقة للمحاصيل التي يمتلكها الفلاحون ويجبرونهم على التضحية بها مقابل القليل. دفع هذا العديد من الفلاحين إلى التوقف عن الزراعة، لأنهم يدركون أنهم لن ينالوا ما زرعوه، ولن يحصلوا ولو على القليل منه، وفاقم الجفاف ذلك العام من الوضع العام، حيث أنتج نقصاً شديداً في المواد الغذائية، مما أدى إلى وفاة 6.5 مليون روسي، في منطقة نهر الفولجا و الأورال بشكل رئيسي.

نتيجة لذلك ظهرت السوق السوداء وتجارة لحوم البشر، حيث جرائم القتل المتبوعة بالولائم، وبيع كميات من اللحوم بالأسواق، بعضها بشري بطبيعة الحال. كما انتشر أيضًا البحث عن الجثث المدفونة لتناولها، حتى إن إحدى النساء رفضت تسليم جثة زوجها لأنها كانت تستخدمه كطعام.

4. مجاعة الاتحاد السوفيتي 1932

كان السبب وراء تلك المجاعة سياسة العمل الجماعي التي فرضها جوزيف ستالين على الفلاحين. حيث أراد تغيير نظام الدولة من زراعي إلى صناعي، وعندما رفض الفلاحون تنفيذ قراراته قام بتدمير المزارع والمحاصيل، وأخذ الأراضي بالقوة من المزارعين، كما أتلف كل المحاصيل المخبأة في بيوت الفلاحين، وأحرق البذور.

استمر ستالين في تصدير الحبوب بدلاً عن إعطائها للفلاحين، اقتناعاً منه بأن الفلاحين يخبئون الكثير من الحبوب، وقد أدت كل تلك الأعمال التخريبية إلى تجويع الشعب لمدة عامٍ كامل. كما تسبب في موت نحو 10 ملايين شخص.

5. المجاعة الصينية الكبرى 1958

مثلها مثل المجاعة السوفييتية، كان المجاعة الصينية نتيجة سياسات الحزب الشيوعي بقيادة الزعيم ماوتسي تونغ الذي حاول فرض التغيير على السكان غير الراغبين.

كجزء من سياسة «القفزة الكبرى إلى الأمام»، تم حظر امتلاك الأراضي الخاصة عام 1958، وتم إخراج الملايين العمال الزراعيين بالقوة من حقولهم وإرسالهم إلى المصانع لإنتاج المعادن. وبالإضافة إلى هذه الأخطاء، طبق المسئولون الصينيون أساليب جديدة للزراعة لزيادة الإنتاج لكنها فشلت.

أثرت هذه السياسات الفاشلة، التي اندمجت مع فيضان عام 1959 وجفاف عام 1960، على كامل الصين، وفي الوقت الذي انتهت فيه القفزة الكبرى إلى الأمام في عام 1962، كان قد توفي نحو 43 مليوناً من المجاعة.

6. المجاعة الكورية الشمالية

في الثمانينيات من القرن الماضي،شرعت حكومة كوريا الشمالية في سياسة الاكتفاء الذاتي المعروفة باسم «جوتشي»، اعتقدت أنها قادرة على فعل كل شيء بنفسها، ورفضت الاعتماد على الخارج أو استيراد الغذاء، على الرغم من أن الأراضي الزراعية والظروف الجوية بها لم تكن بيئة مناسبة لإنتاج الغذاء. أدت هذه السياسة إلى تضاءل إنتاج الأسمدة، وتراجع إنتاج الأراضي الزراعية، فبدأت الحكومة حملة تحث المواطنين على استهلاك كميات أقل تحت شعار:

مع بداية 1994 بدأت الدولة المنعزلة تعاني ويلات مجاعة استمرت حتى عام 1998، إذ تسببت الأمطار الغزيرة بها بحدوث فيضانات كبيرة في المناطق الزراعية، مما تسبّب بغرق نحو 15% من هذه الأراضي،وتدمر حوالي 1.5 مليون طن من الحبوب والمحاصيل. وقد فاقم من حدة الوضع اتباع كيم جونغ إيل سياسة «الجيش أولًا»، التي وضعت احتياجات الجيش فوق احتياجات الناس.

عانت الدولة من اقتصاد راكد، وحتى حينما حصلت على مساعدات من المجتمع الدولي، تمت سرقتها وأُعيد توزيع الكثير منها بين النخبة في البلاد بدلاً من تحويلها إلى الكوريين الجياع. ونتيجة لذلك ارتفع معدل وفيات الأطفال إلى 93 من كل 1000 طفل، وهلك ما يُقدَّر بـ2.5 إلى 3 ملايين شخص جوعًا.


المجاعة اليوم: العالم في أرقام

على الرغم من هذا الانتشار الكبير للمجاعات واتجاهها التصاعدي، فإنه مع بداية القرن الحالي بدأ هذا الاتجاه يأخذ منحى تنازليًا، حيث تم القضاء تقريبًا على مثل تلك المجاعات. وفي هذا الصدد يشير «أليكس دي وال»، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمية ومؤلف كتاب «الجوع الجماعي: التاريخ والمستقبل للمجاعة»، إلى أن مستوى المجاعات حاليًا لا يزيد على 5% من المستويات التاريخية. ومع ذلك فهو يحذر من أن اتجاه المجاعات بدأ يتسلل إلى الأعلى من جديد.

فقد تم الإعلان رسميًا عن المجاعة في أجزاء من جنوب السودان في فبراير/شباط 2017،حيث يواجه نحو 100 ألف شخص المجاعة، وهناك مليون شخص آخر يصنفون على أنهم على شفا مجاعة، أما نصف الشعب فيعاني نقصًا في الغذاء، وفي اليمن أيضًا يواجه أكثر من نصف السكان خطر المجاعة، أما سوريا فلم تختلف هي الأخرى، حيث تتوالى التحذيرات من وجود نحو 20 مليون سوري معرضون لخطر الموت جوعًا.

وطبقًا لتقرير نشرته الأمم المتحدة بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي، فعدد من يعانون المجاعة في العالم بلغ 108 ملايين شخص عام 2016، أي بزيادة نحو بـ35 % مقارنة بعدد الجائعين في عام 2015. كما تزايد هذا العدد نهاية عام 2017 إلى 124 مليوناً وفقًا لتقرير تقرير الاتحاد الأوروبي ومنظمة الفاو وبرنامج الأغذية العالمي التابعان للأمم المتحدة.

كذلك أشارت منظمة اليونيسيف إلى أن عدد الأطفال المعرضين للموت من بين هؤلاء الجوعى بلغ نحو 1.4 مليون طفل. وبشكل عام فهذه المجاعات تتركز في شمال شرقي نيجيريا والصومال واليمن وجنوب السودان، إلى جانب المناطق الممزقة بالنزاع في الكونغو وميانمار.


الجوع كسلاح

دعونا نتناول وجبتين فقط في اليوم.

بالنظر إلى أسباب تلك المجاعات اليوم نجدها تدور بالأساس حول عامل رئيسي وهو العامل السياسي. فأغلبها لم يحدث نتيجة نقص الغذاء، كمان كان الحال في تلك المجاعات التاريخية. ووفقًا لما أشار إليه «دان ماكسويل»، أستاذ الأمن الغذائي: لم تكن هناك حالة مجاعة كان سببها نقص الإنتاج الزراعي وحده، حيث إن «نقص الإنتاج الزراعي يُسبّب مجاعة فقط إذا سمح أحدهم له بأن يسبب مجاعة».

فالمجاعات لا تحدث إلا بدرجة ما من التواطؤ الإنساني، فهي بمثابة جرائم إما تم ارتكابها أو التغافل عنها. وتلك الأزمات الغذائية التي تواجه جنوب السودان والصومال واليمن وشمال نيجيريا، ليست فقط نتيجة للكوارث الطبيعية أو تغير المناخ. فالناس هناك يموتون جوعًا لأن من لديهم القدرة على منع هذه الوفيات يفشلون في التصرف، وأحيانًا يفتقرون إلى الإرادة السياسية.

فخلال الحرب العالمية الثانية،ضرب هتلر حصاراً قاسياً على مدينة سان بطرسبورغ، استمر من عام 1941 إلى عام 1945، طوّق خلالها كل المخارج للمدينة، ومنع دخول أي مساعدات غذائية، مما أدى إلى وفاة ما يقارب 600 ألف شخص، منهم من مات قصفاً بالنيران، وأكثرهم من مات جوعاً.

وفي عصرنا الحالي، في جنوب السودان،تبدو الحكومة مستعدة لاستخدام التجويع أسلوباً للحرب ضد معارضيها، حتى عندما توفر الوكالات الدولية مساعدات غذائية، تقوم بسرقتها لإطعام جنودها. وفي اليمن تم فرض الحصار دون مبالاة لما ترتب عليه من نتائج مدمرة على الشعب اليمني، صحيح أن هناك عدداً من المساعدات يتم السماح بدخولها، لكنها ما زالت قطرة صغيرة في محيط مقارنة بالحاجة الهائلة للشعب الجائع.

وفي سوريا، تعمّد النظام استخدام الجوع كسلاح للحرب، وحقق من خلاله ما لم يكن يستطيع تحقيقه بترسانته العسكرية، حيث استخدم سلاح التجويع منذ اندلاع الثورة في مارس/آذار 2011، عندما حاصر مدينة درعا وقطع عنها الماء والغذاء، وحينما قام بحصار أحياء حمص مدة عامين، ناهيك عن حصار الغوطة ومضايا وداريا، حتى خرجت فتاوى العلماء بتحليل أكل القطط والكلاب حال وُجدت.