في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 حرر البنك المركزي المصري سعر الصرف في إطار اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي في ذلك الوقت، والذي شمل عدداً من الإجراءات الأخرى، منها رفع أسعار الطاقة، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وكذلك طرح عدد من شركات القطاع العام في البورصة المصرية.

وفقاً للصندوق فمن شأن الطرح بالبورصة توسيع قاعدة الملكية وتنويعها، ومن ثم تعزيز الكفاءة والشفافية والمسائلة، بالإضافة إلى تعزيز الإنتاجية وتغذية خزينة الدولة المصرية، كما يأمل الصندوق أن يؤدي الطرح إلى تنشيط سوق المال المصرية (البورصة) ورفع معدلات التداول بها، وانتشالها من الركود الذي يخيم عليها منذ 2008 تقريباً.

ولكن، وعلى عكس جميع التدابير المالية والنقدية المتفق عليها، لم تنجز مصر وعودها مع الصندوق بخصوص برنامج الطروحات الحكومية، حيث لم تطرح مصر سوى شركة واحدة فقط وهي «الشرقية للدخان» من أصل 24 شركة متفق عليها.

ويتوقع الصندوق أن يتم طرح ست شركات أخرى قبل يوليو/ تموز 2020 وفقاً للمراجعة الخامسة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الصادرة عن الصندوق في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

طرح الشرقية للدخان: مفاجآت وشبهات فساد

طرحت مصر 4.5% فقط من أسهم الشرقية للدخان في أواخر فبراير/ شباط 2019، كفرس رهان للحكومة المصرية، حاولت من خلاله البرهنة على قدرتها على إتمام طرح باقي الشركات بنجاح، خاصة وأن الشرقية للدخان هي ثاني أكبر شركة عامة من حيث حجم الإيرادات التي تضخها في الموازنة العامة، بعد قناة السويس.

كان المتوقع أن تمثل ملاءة الشركة المالية عنصر جذب مهم للمستثمرين أفراداً كانوا أم مؤسسات، وقد كان رهاناً رابحاً بالفعل فقد تمت تغطية الطرح بنجاح بقيمة بلغت 1.7 مليار جنيه تقريباً.

إلا أن ملابسات الطرح نافت مبادئ الشفافية والمساءلة التي أشار إليها الصندوق، فمن ناحية فوجئ الجميع بقرار طرح الشرقية للدخان بين عشية وضحاها، دون إصدار نشرة الاكتتاب قبل الطرح بفترة كافية لتوضيح قواعد التداول لجميع العاملين بالسوق.

من ناحية أخرى لم يتم طرح سوى 5.1 مليون سهم فقط في اكتتاب عام، بينما تم طرح 96.2 مليون سهم في اكتتاب خاص لمؤسسات وأفراد بعينهم، أشهرهم الإماراتي محمد العبار، عضو المجلس التنفيذي لحكومة دبي، بالإضافة إلى عدد آخر من المستثمرين السعوديين، في جو يسوده الغموض وعدم وضوح قواعد التخصيص لهؤلاء بالتحديد، وما إذا كانت الحكومة المصرية غلبت اعتبارات السياسة على مصالح المصريين نظراً لطبيعة العلاقات بين النظام المصري وكل من نظيريه الإماراتي والسعودي.

تعزز هذه المخاوف ثلاثة أمور؛ أولاً، أن الحكومة لم تعلن وقتها عن المؤسسات والصناديق التي فازت بالطرح الخاص وكأننا بصدد معلومات عسكرية بالغة السرية، ليصرح لاحقاً أحد مسئولي شركات الوساطة المالية بأن العبار وحده حصل على 95% من أسهم الشركة المطروحة!

وإذا ما وضعنا هذه النسبة جنباً إلى جنب مع توقيع الشركة الشرقية للدخان عقود تصدير مع دول الخليج بواقع 200 طن سنوياً لمدة ثلاث سنوات قبل الطرح بـ24 ساعة فقط، يمكننا تخمين سبب الطرح العاجل غير المتوقع للشركة.

أما الثاني، فهو ما إذا كان قد تم تقييم السهم بسعره العادل لا السوقي، الذي لا يشترط بالضرورة أن يعكس قيمة السهم الحقيقية، خاصة في ظل محدودية الأسهم المطروحة للاكتتاب العام من ناحية، وضعف التداول بالبورصة المصرية من ناحية أخرى.

ثالثاً اختيار شركة هيرميس مستشاراً للطرح، بالرغم من فشلها في إدارة عدة طروحات سابقة، أهمها «إعمار مصر»، «مجموعة طلعت مصطفى»، «دومتي»، التي شهدت جمعيها تراجعات حادة في سعر الأسهم أثناء جلسات التداول.

تثير هذه المسائل الشكوك حول وجود فساد وعمليات تربح لصالح عدد محدود من المستثمرين، على حساب جموع الشعب المصري مالك هذه الشركات بالأساس، خاصة وأن تقديرات السعر العادل للسهم تتراوح بين 19 و21 جنيهاً أي 20 جنيهاً في المتوسط، في حين تم طرح أسهم الشرقية للدخان بسعر 17 جنيهاً للسهم الواحد، أي أن هناك شبهة إهدار للمال العام في حدود 300 مليون جنيه مصري.

برنامج الخصخصة المصري: تاريخ من الفساد

لا يبشر تاريخ المصريين مع الخصخصة بخير، وقد ارتبطت الكلمة في أذهانهم بتسريح آلاف العمال وفساد جمال مبارك، الذي استولى من خلال إي في جي– هيرميس أكبر بنك استثماري في مصر، على العديد من شركات القطاع العام التي تم طرحها في البورصة المصرية إبان 1991.

في هذا الصدد تشير تقارير حقوقية إلى أن الحكومة قد أعلنت عن بيع 412 شركة فقط، بإجمالي 320 مليار جنيه خلال الفترة 1991 – 2008، في حين يبلغ عدد الشركات الفعلي الذي تم بيعه 623 شركة، بإجمالي 23 مليار جنيه فقط لا غير، وهو ما أثاره البرلمان في 2006 عندما أبدى تساؤلاته بخصوص غياب مليارات الجنيهات من حصيلة الخصخصة.

ولنضرب هنا مثالاً واحداً فقط، وهو خصخصة الشركة المصرية لخدمات التليفون المحمول (موبينيل) وبيعها بالأمر المباشر لنجيب ساويرس بسعر 9 جنيهات للسهم الواحد وضغط نجيب ساويرس في تلك الفترة لشراء حصة كل من: البنك الأهلي ومصر وهيئة التأمينات الاجتماعية بنفس السعر.

على إثر ذلك قام ساويرس بقيد الشركة بالبورصة، بالمخالفة لجميع قواعد القيد التي تشترط مرور عامين على إنشاء الشركة ونشر ميزانيتين، وفي اليوم الثاني للتداول مباشرة قفز سعر السهم من 10 جنيهات إلى 26 جنيهاً، هذا بالضبط ما يسمي بـ«المضاربة» والتي تعني في هذه الحالة «الضرب بحقوق المصريين عرض الحائط»، بعد شهور معدودة ارتفع سعر السهم إلى 80 جنيهاً ثم إلى 180 جنيهاً عام 2000.

في هذه الفترة كان قد تم فتح الباب أمام الحصول على رخصة ثانية للمحمول في مصر، وفاز بها رجل الأعمال المصري محمد نصير بقيمة مليار و700 مليون جنيه، إلا أن الحكومة ألغت العرض واستدعت ساويرس ومنحته ليس مجرد رخصة ولكن شبكة حكومية كاملة بأبراجها وأجهزتها ومبانيها ومشتركيها، شبكة تعمل وتحقق أرباحاً بالفعل وبنفس سعر الرخصة تقريباً!

خصخصة 2019: الضبابية تسود الموقف

بالرغم من التاريخ المشبوه للخصخصة المصرية وحالة الضبابية التي تسود الموقف في الوقت الحالي، فإن صندوق النقد الدولي أكد في مراجعته الخامسة أن الحكومة المصرية عازمة على المضي قدماً في تنفيذ برنامج الطرح دون تردد.

بيد أن الوضع الراهن لا يسوده سوى التردد، فقد كان من المقرر أن تبدأ الحكومة بطرح شركة «انبي للبترول» وفقاً لأول قائمة أعلنتها وزارة المالية، إلا أن ذلك لم يحدث.

تم تعديل خطة الطرح ليعلن وزير قطاع الأعمال أن أولى الشركات التي سيتم طرحها هي «شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير»، ثم «الإسكندرية للزيوت المعدنية»، ثم «الإسكندرية لتداول الحاويات» في نوفمبر 2018، في ذلك الوقت لم تكن شركة الشرقية للدخان على الجدول الزمني للوزارة بعد.

في الشهور التالية عدلت الوزارة قائمة الشركات المخطط طرحها أكثر من مرة، لتدخل شركة وتخرج أخرى، ويختفي البرنامج برمته عن الأضواء شهور طويلة، ثم يعاود الظهور مرة أخرى ليتم تحديد مواعيد طرح شركات بعينها، دون الالتزام بالتنفيذ، ودون الإفصاح عن أسباب هذه التعديلات المستمرة.

قد يعود التأجيل إلى عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية العالمية، في ظل أزمة الأسواق الناشئة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي أثرت جميعها سلباً على أداء البورصة المصرية خلال الفترة الأخيرة، ناهيك عن تظاهرات 20 سبتمبر التي أدت إلى تراجع أداء البورصة المصرية بوضوح في اليوم التالي مباشرة.

إلا أن ذلك التبرير غير مقنع بدرجة كبيرة، لأن الحكومة تعلم بالفعل ضعف البورصة المصرية وتذبذب أدائها منذ 2008، وكان أحد أهداف برنامج الطروحات هو تنشيط البورصة المصرية، ولأن طرح الشرقية للدخان تم بالفعل في هذه الأجواء.

في المقابل أشار العديد من المحللين إلى أن التأجيل مرده تراجع الأداء المالي للعديد من الشركات المزمع طرحها، وأن عدداً منها قد تراجعت أرباحه بشكل واضح خلال الفترة الأخيرة، وأشار آخرون إلى تضارب الرؤى بين كل من: وزارة المالية والاستثمار ووزارة الأعمال حول الهدف من برنامج الطرح.

في أكتوبر 2019 أفاد وزير الأعمال، هشام توفيق، بأن كل من شركتي «أبو قير للأسمدة» و«الإسكندرية لتداول الحاويات» جاهزتان للطرح، ولكنه قرر التأجيل لحين الانتهاء من طرح شركة أرامكو السعودية والذي من شأنه جذب رءوس الأموال من السوق المصري إلى السوق السعودي كونه أكبر طرح في تاريخ أسواق المال حتى الآن.

لكن قبل شهر واحد فقط أي في أغسطس 2019، كان توفيق قد صرح بأن هناك «مشكلة إدارية بسيطة جارٍ العمل على حلها لاستكمال إجراءات الطرح» وأنه فور الانتهاء منها «سيكون هناك شركتان جاهزتان للطرح ببورصة مصر»، فماذا يا ترى تكون هذه المشاكل الإدارية؟ هل هي مباحثات مع رجال أعمال رئيسيين لترسية العطاء على أحدهم كما تم مع العبار والشركة المصرية للدخان؟