في عام 2014م تمكّن فريق أثري (سعودي/ فرنسي) من تحقيق اكشاف أثري كبير، هو عبارة عن نقشٍ عربي طويل على صخرة مستطيلة تحكي عن الملك اليمني «يوسف» الذي اصطحب 25 ألفًا من رجاله إلى رحلة شمالي اليمن؛ لحماية مملكته من هجوم الإثيوبيين عليه، لكنه فشل في ذلك.

قدّر الفريق الأثري أن هذه الكلمات حُفرت في الصخر ما بين عامي 469م و470م، ومثّل هذا الاكتشاف الذي وُصف بأنه «أقدم نقش بالأبجدية العربية في التاريخ» الفصل الأخير من أول وآخر مملكة يهودية نشأت في الجزيرة العربية وحكمت مناطق شاسعة من اليمن والسعودية، وهي مملكة حِمير.

ليسوا كمثلهم من اليهود

في القرن الثاني الميلادي تقريبًا تأسَّست مملكة حمير جنوبي اليمن على أيدي قبائل سبئية الأصل، انتشرت في مناطق ريمة وتعز وإب وذمار وأجزاء من صنعاء ومأرب، واتّخذت من «ظفار Zafar» عاصمة لها.

وقبل هذا التأسيس بنحو مائة عام تقريبًا بدأت الجزيرة العربية في استقبال يهود فلسطين الفارين من البطش الروماني، وتحديدًا بعد ما أقدم الإمبراطور «تيتوس – Titus» على هدم الهيكل عام 70م، ومن وقتها شهدت بلاد الحجاز موجات هجرة يهودية متتابعة انتشرت في يثرب وخيبر والبحرين وعددٍ آخر من بقاع الجزيرة العربية.

ولم يكن هذا الاختبار عبثيًا، فاليهود يعرفون بلاد الحجاز واليمن جيدًا بفِعل حبائل الاتصال التي أمّنتها قوافل التجارة البرّية والبحرية من بلاد العرب إلى بلاد الشام، بل وربما لعبت رغبة اليهود في الإقامة على ضفاف طُرق التجارة العالمية دورًا أساسيًا في انتقاء هذه الأماكن تحديدًا دون غيرها للجوء إليها.

تحكي الدكتورة إيمان شمخي والباحثة سلامة حسين في أطروحتهما «أثر الديانة اليهودية والنصرانية في سقوط دولة حمير»، أن هذه الجماعات اختارت اليمن؛ لاستغلال موقعه الجغرافي في ممارسة التجارة مع شعوب العالم، وبعدها بدأ اليهود في التوغل شيئًا فشيئًا، ودونًا عن باقي الجزيرة العربية ظهر التهود في اليمن ظهورًا واضحًا.

ويتابع الدكتور حسن الباشا في كتابه «المشكلة اليهودية»، إن دخول اليهود إلى اليمن يتّصل اتصالاً وثيقًا بالتجارة العالمية، وبرغبتهم في السيطرة على التبادل التجاري بين الشرق والغرب، فلقد كانت دولة كسبأ مركز وسط بين دول الحضارات القديمة في الهند ومصر ووادي دجلة والشام وبلاد اليونان والرومان، فكانت تُشرف على طرق التجارة العالمية سواء البحرية المارة بالبحر الأحمر والخليج الفارسي والمحيط الهندي أو طرق القوافل الممتدة عبر الصحاري العربية، كما كانت تُنتج البخور الذي كان أحد أهم السلع العالمية بسبب استخدامه كثيرًا في طقوس عبادة الآلة داخل المعابد.

وبسبب هذه الموارد الاقتصادية والموقع المميز لم يكن ليغفل اليهود عن هذا المكان، واختاروه وطنًا جديدًا لهم.

الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمملكة حمير

ويُضيف جواد علي في كتابه الموسوعي «المفصل» سببًا آخر لانتشار اليهودية في اليمن، عن طريق رواية مغامرة مَن اعتبره أول شخص أدخل اليهودية إلى اليمن، وهو يُدعى «تبع» كان في حرب بالشمال، وخلال مروره على مدينة يثرب التقى باثنين من أحبار يهود بني قريظة أثّرا عليه ونقل عنهما الديانة إلى أهل اليمن.

وحتى وإن صحّت هذه الرواية، فإننا لا يمكننا الاعتماد عليها في تبرير «تهوّد اليمن» من مجرد لقاء عابر بين ثلاثة أشخاص أحدهما حمل عاتق الرسالة اليهودية على كتفيه في بلاد شاسعة وعرة التضاريس كاليمن، فالأمم لا تُغيِّر عقائدها الدينية بهذا الشكل السريع ودون حزمة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدفع جماعة السُكان نحو هذا الاتجاه.

لكننا على الأقل، نستطيع أن نخرج من هذه الرواية بالتأكد من أن اليهود نجحوا في غرس وجودهم في الجزيرة، وعاشوا في أجواء سمِحة دينيًا لم تكفل لهم ممارسة طقوسهم كما يُريدون فقط، بل والترويج لمذهبهم هنا وهناك.

وهو ما يُفسِّر نجاحهم في إقامة شبكة علاقات بين اليهود المُشتّتين في البقاع عن طريق الاتصالات الحثيثة بين اليهود جنوبًا (اليمن) وشمالاً (الشام) في المنتصف (نواحي الحجاز) دون أن يعترضهم أحد، ويحكي محمد إبراهيم الفيومي في كتابه «تاريخ الفكر الديني الجاهلي»، أن أحبارًا من فلسطين كانوا يزورون إخوانهم في اليمن وسكنوا معهم.

وهكذا نالت اليمن نصيبها من اليهودية كغيرها من مناطق الجزيرة، لكن هؤلاء القادمون من بلاد الشام لم يكونوا السبب الرئيسي في تحوّل حمير إلى مملكة يهودية، فهذه الهجرات مهما زاد عددها لم تكن لتؤمِّن أبدًا أغلبية على أهل البلاد، وإنما ما ميّز الحالة الحميرية هو أن نخبة أهل البلاد اختاروا الانضمام إلى اليهودية، وهو حدث نادر بحقِّ ديانة منغلقة على نفسها ولا تُرحِّب كثيرًا بدخول الناس فيها أفواجًا.

يقول الباحث إسرائيل ولفنسون في رسالته للدكتوراه «تاريخ اليهود في بلاد العرب»، التي أشرف على إجازتها عميد الأدب العربي طه حسين عام 1927م، إن الديانة اليهودية في بلاد اليمن لم تعتمد على العصبية اليهودية، كما كان شأنها في بلاد الحجاز؛ لأن الأغلبية المُطلقة التي كوّنت أنصار هذا الدين الجديد في اليمن كانت من سكان البلاد الأصليين.

ولم تلعب العواطف الدينية دورًا كبيرًا وراء هذه الخطوة، فحُكّام حِمير لم ينضموا إلى اليهودية لدوافع مذهبية تتعلّق بالرغبة في اتّباع الدين الحق أو عبادة الله بطريقة صحيحة، وإنما شابتها بعض الظروف السياسية والصراعات العالمية بين القوى الكبرى التي تنازعت السيطرة على اليمن، وحتّم الظرف التاريخي في تلك اللحظة إقدام ملوك حمير على هذه الخطوة للحفاظ على عروشهم.

فالأعداء الأقربون هُم «نصارى الحبشة»، ومن خلفهم الدولة البيزنطية (الروم) التي نصّبت نفسها حامية للكنيسة الشرقية والمسيحيين في بلاد العرب، ما يُبرِّر لجوء ملوك حِمير إلى اليهودية كسلاح يحفظون به وجودهم في مناصبهم، واعتقدوا أنهم بهذا يقاومون دينًا توحيديًا بدين آخر.

وأضاف إسرائيل: أصاب ملوك حمير كل الإصابة في هذه الخطوة؛ لأن اعتناقهم اليهودية قضى على أي حجة كان ملوك بيزنطة يعتمدون عليها في التأثير على عقول أهالي اليمن بدعوى ضمهم إلى التوحيد والإيمان بالله بدلاً من عبادة الأصنام والآلهة الوثنية.

إضافة إلى أن تعاليم اليهودية ومبادئها أقرب إلى عقلية العرب من الديان المسيحية التي كانت تستمد، حينها، بعض تعاليمها من الفلسفة اليونانية.

كما أنهم بهذه الخطوة لم يخشوا أن تتسلط عليهم دولة ذات سلطان كبير وتعتبرهم جزءًا من أتباعها، فلم يكن لليهودية في ذلك دولة سياسية مثلما كان الحال مع النصرانية التي لطالما دعّمتها دولة الروم.

علاوة على أن ملوك حِمير لن يكونوا مرفوضين من القوة العظمى الأخرى المناوئة للمسيحيين وهي الدولة الساسانية (الفُرس)، التي حاولوا إقامة علاقات ودية معها أظهرتها أخبار الوفود الدبلوماسية الحميرية التي كانت تُرسل إلى المُدن الساسانية الملكية على نهر دجلة.

ولهذا يصف عبدالعزيز رمضان في أطروحته «شهداء نجران» هذا الإجراء بأنه «أيديولوجي بحت» مضاد للخصم التقليدي الأكسوميون (الأحباش)، ولوقف التأثير المتزايد للإمبراطورية البيزنطية في المنطقة.

وفي المجمل، فإن هذا الصراع اتّخذ من الدين شكلاً ظاهريًّا لكنه كان في واقعه صراعًا اقتصاديًّا بين أكبر قوتين عالميتين للسيطرة على اليمن والتحكم في طرق التجارة العالمية، ولم ينتهِ هذا العراك على الأراضي اليمنية حتى بعد سقوط الدولة الحِميرية، ولم نعرف له نهاية إلا بِانضمام اليمن إلى دولة الإسلام.

عُملة حميرية يعود زمنها إلى القرن الأول الميلادي تقريبًا
 

على أي حال، فإنه بداية من عام 380م تحوَّل قادة حِمير ونخبتها الحاكمة إلى اليهودية، وشجّعت شعبها على اعتناقها حتى دان بها نسبة كبيرة من السكان، وهو الحدث الذي احتفى به المؤرخ جرين بوبيرسوك في مقالته «الصعود والهبوط لمملكة اليهود في بلاد العرب»، معتبرًا أن أمة بأكملها من العرب تحولت إلى اليهودية، وفرضته كديانة رسمية للدولة.

ولم يكد القرن الرابع الميلادي ينتهي حتى باتت حِمير قوة إقليمية كبيرة بعد سيطرتها على المناطق المجاورة لها بما فيها مملكة سبأ الشهيرة.

ويضيف «رمضان»، بدءًا من القرن الرابع الميلادي أصبح الملك الحميري «شمريهرعش» حاكم اليمن، وتُظهر نقوش هذه الفترة أن كلمات المديح لم تعُد تُكال للآلهة المحلية مثل «المقاح  Almaqah» (إله القمر)  و«أثتار Athtar»، بل توجّه الحميرون بدعائهم إلى إلهٍ واحد عُرف بـ«رب السماء» أو «رحمن»، ما اعتبره كثيرٌ من الباحثين لا يُعبِّر عن نهج توحيدي فقط، وإنما يشمل تأثرًا كبيرًا باليهودية التي استعملت لفظ «رحمن» كمرادف لكلمة «الله».

كما يُخبرنا نقش على أحد مباني العاصمة ظفار، أن الملك الحميري قبض على قسٍّ حاول نشر المسيحية في نجران، ومن خلال استعراض بقية أحداث هذه القصة نستشفُّ أن بلاط الملك احتوى على عددٍ كبيرٍ من علماء اليهود.

ويتابع عبدالوهاب العقاب في كتابه «دور اليمن في العهد الإسلامي الأول»، أن ملك حمير أعلن حربًا اقتصادية على المسيحيين، فاستهدف القوافل التجارية النصرانية الذين كانوا يسافرون من بيزنطة إلى الحبشة مرورًا باليمن، ومنعهم من السير في أراضيه وصادر بضاعتهم.

مثل هذه الأفعال لم تكن لتمرِّ دون حساب أبدًا، وتقرّر في النهاية ألا يُسمح لـ«المملكة اليهودية» بأن تستمر أكثر من ذلك، فسرعان ما ألَّب البيزنطيون ذراعهم العسكرية في الحبشة، مملكة الأحباش التي اتخذت من مدينة «أكسوم Aksum» الإثيوبية عاصمةً لها وامتدَّ سلطانها على إثيوبيا وإريتريا والصومال، ووصف ملكها نفسه بأنه «خادم المسيح» وطبع رموزًا مسيحية على عملاته النقدية.

واستجابةً للتوجيه الإمبراطوري تحرّكت قوات الأكسوميين إلى اليمن لإسقاط دولة حِمير اليهودية عام 340م، وتثبيت قادة مؤيدين للبيزنطيين.

اليمن.. أرض الميعاد؟

مؤخرًا، ظهرت بعض الأطروحات الفريدة التي قدّمها عددٌ من الباحثين، اعتبروا فيها أنها أرض الميعاد الحقيقية التي عاش فيها بنو إسرائيل، وأنهم أنشأوا هيكلهم في مدينة السراة اليمنية وليس في فلسطين، وحتى القدس فهي مدينة لا تقع في الشام بل في اليمن، معتبرين أن إسقاط المرويات التوراتية على بلاد فلسطين هي قراءة خطأ للتوراة، وأن مُدن اليمن وجبالها ومعابدها مقصودة بكل حرفٍ منها.

كان كمال الصليبي هو أول مَن قدّم هذه الرؤية شديد الاختلاف في كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، واعتبر فيه أن السبب الرئيسي لهذه الأخطاء هو أن التوراة كُتبت أصلاً بأحرف أبجدية خالية من الحركات والضوابط، أبجدية لم تعد مستخدمة ولا نعرف تحديدًا كيف كانت تُلفظ لدى الشعب الذي كان يتكلمها، ما أوقع النسخ التوراتية التي نعرفها في أخطاء كثيرة تتعلّق بالتهجئة والصرف والنحو.

ومن منطلق هذا الفهم، حاوَل الصليبي أن يُعيد قراءة التوراة بإعادة قراءة ألفاظه، وهو ما فتح الباب أمامه لاكتشاف أن كافة أسماء الأماكن التوراتية تنطبق على اليمن وليس على فلسطين.

ومن بعده جاء فاضل الربيعي وسار على نفس الدرب في عمله الضخم «فلسطين المتخيلة»، واختار الباحث السوري فراس السوّاح أن يرد على أطروحات الصليبي ويُفنّدها في كتابه «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم».

وعلى الرغم من أن هذه الآراء الثورية لم تُحقّق إجماعًا من المؤرخين، وتتجاهل ركامًا هائلًا من الجهود الأثرية والتاريخية في تمحيص سجلات كافة حضارات المنطقة في مصر والعراق والشام وتنسيق شذراتها معًا على امتدادٍ واحدٍ، إلا أنها حملت مؤشرًا عميقًا عن مدى تجذر اليهودية والثقافة التوراتية في اليمن.

نهاية اليهود بسبب «صاحب الأخدود»

السعي إلى استئصال شأفة اليهود في أركان الجزيرة بدأ من قرار انتقامي متهور اتّخذه أشهر ملك حِميري رفع راية التمرد بحقِّ الأحباش ومن خلفهم البيزنطيون.

ولنتعرّف على قصة هذا الرجل سيكون علينا أن نعود من حيث بدأنا.

فهو الرجل الذي حكت عنه النقوش التي اكتشفها العلماء الفرنسيون، والذي يُدعى «يوسف اليهودي»، تخبرنا كتب التاريخ أن اسمه كاملاً هو «يوسف أثأر يثأر»، عرفته مرويات التاريخ العربي بلقب «ذو نواس»، قاد هذا الرجل تمردًا حِميريًا على عامل النجاشي على اليمن.

الحديث عن النقوش التي حملت لنا سيرة هذا الرجل يقودنا إلى بعض التفاصيل غير العادية، فبخلاف كافة ملوك اليمن لم يمنح يوسف نفسه لقبًا بالمناطق التي يُسيطر عليها، فكان الواحد منهم يُسمّى «ملك سبأ ومأرب» وهكذا، لم يفعل يوسف ذلك وإنما قدّم نفسه بِاعتباره «ملك جميع القبائل» إضافة إلى لقبٍ آخر ذي دلالة كُبرى حرص على إضافته لاسمه وهو «المنتقم».

أما عن لقب «يوسف» نفسه، فهو غير مألوف في جنوب الجزيرة العربية، ومُستعار من اللغة العبرية، ما يعطينا إشارات واضحة عن مدى تغلغل اليهودية في نفسه، وهو ما أكدته أيضًا مرويات التاريخ التي حكت عن كثافة الوجود اليهودي في بلاط «يوسف» وفي قادة جيشه وأركان حربه.

امتزج في نفس يوسف عداءٌ لأهل بلاده المسيحيين من ناحيتي التضاد المذهبي والوطني، علاوة على أنهم رفضوا معاونته خلال استعداداته لحربه على الحبشيين وأساؤوا معاملة اليهود خلال فترة تسلُّط الأحباش على البلاد، فجرّد حملة باطشة على معاقلهم الرئيسية؛ فتوجّه إلى ظفار وأحرق كنيستها وقتل قساوستها وحاميتها، ثم سار إلى سواحل تهامة حيث أحرق كنيسة بلدة «المخا» الساحلية، ثم توجّه بعدها إلى حصن مادبان، الذي اشتُق منه اسم مضيق باب المندب؛ لانتظار القوات الأكسومية التي كان يعرف أنها ستُهاجمه فور بلوغ ملكها نبأ استيلائه على اليمن.

وخلال ذلك كلّف أحد قادته وهو «شرحئيل يقبل» الذي اقتحم نجران ما بين عامي 522م و523م وقام بمذابح مروعة بحقِّ المسيحيين لمدة 13 شهرًا، يُمكننا اعتبارها «هولوكوست نصراني» تباين المؤرخون في تحديد عدد قتلاه ما بين ألفي قتيل وحتى 20 ألف ضحية، وفي إطار تنكيله بأهل نجران استعان «شرحئيل» بأخدود عميق أوقد فيه النار وألقى داخله أي مسيحي رفض الارتداد عن دينه.

أدان هذه الجرائم القرآن في سورة البروج بقوله «‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»، وفيما بعد ظل نصارى نجران على تشبثهم بدينهم حتى بعد انتشار الإسلام، فخاض وفدهم مناظرة دينية شهيرة مع النبي لم يصلا بعدها لنتيجة ولم يُؤمنا به فتصالح الطرفان على الجزية.

سمع الإمبراطور البيزنطي بهذه الواقعة فجن جنونه، ووفّر سُفنًا كبيرة أعادت جيوش الحبشة الجرّارة (70 ألف مقاتل وفقًا للمصادر العربية) إلى اليمن عام  525م، بقيادة أرياط (أرتياس) وتابِعه أبرهة (أبراميوس)، لم يتمكن الأمير اليهودي يوسف من مقاومتها، فآثر الانتحار بفرسه في البحر، لتقع اليمن في قبضتهم مرة ثانية ويسيطر الأحباش تمامًا على تجارة البحر الأحمر.

خلّد الإثيوبيون ذكرى هذا النصر في نقش طويلة على مسلة لا تزال موجودة حتى اليوم، سبق وأن أثارت جدلاً دبلوماسيًا مع إيطاليا، بعد ما تم الاستيلاء عليها في عهد موسوليني عام 1937م، وبعد انتهاء المعارك طالبت بها أديس أبابا مرارًا، وهو ما لم تستجب له روما سريعًا، ولم تُعِدها إلا عام 2008م.

النقش الإثيوبي

وتؤكد كتب التاريخ، أن اليمن بقيت «حبشية» 70 عامًا تقريبًا، كان أبرز أحداثها محاولة أبرهة الأشرم حاكم اليمن الحبشي هدم الكعبة عام 549م، وهي الحادثة الشهيرة في التاريخ الإسلامي بِاسم «عام الفيل».

ويعتبر شوقي ضيف، أنه خلال هذه الفترة تفرّق اليهود، ورحل كثيرٌ منهم عن اليمن.

ويوضح إسرائيل، أنه كان لانكسار الدولة الحميرية رنة أسى شديدة في قلوب اليهود، فظهرت مع الزمن أقاصيص كثيرة وأساطير خرافية عن أبطال حمير، ومن ذلك ما قيل عن إن الجيوش الحميرية لم تُغلب على أمرها بل رجعت على أعقابها إلى داخل البلاد الرملية، وكونت في تلك الأرجاء دولة عظيمة يظهر بطشها في اليوم الذي يُؤذن لها فيه بخوض المعارك.

ويتابع: كانت هذه الأقاصيص سببًا في شروع جماعات من اليهود في القرون الوسطى بإرسال البعثات إلى بلاد العرب للبحث عن هذه الجيوش التي توارت عن العيون.

إلا أن حالة الإحباط هذه لم تمنع من بزوغ آخر قادة حِمير العِظام سيف بن ذي يزن الحميري الذي أعاد التلاعب بموازين القوى الدولية؛ فاستعان بالساسانيين (الفُرس) الذين أمدّوه بقوة طردت الأحباش وقلّدته عرش اليمن، وبعد وفاته اعتلوا بأنفسهم هذا العرش وحكموا جنوب الجزيرة حتى ظهرت دعوة الإسلام، وكان «باذان» هو آخر والٍ تابع للدولة الفارسية على اليمن، بعد ما خلع هذه التبعية ولبّى دعوة الرسول إليه واعتنق الإسلام سنة 628م.

لا يجتمع دينان في جزيرة العرب

في ظل الحكم الإسلامي، تحوّل اليهود من أصحاب دولة إلى أصحاب جزية، بعد ما أمر حاكم اليمن الجديد معاذ بن جبل بفرض جزية على كل مَن لم يدخل في الإسلام، كما أمره النبي، على أن يتمتّعوا بالحرية الدينية ولا يتكلّفون ما يطيقون.

وعاشت اليمن في وحدة سياسية طيلة دولة الإسلام تقريبًا، حتى بدت بذور الشقاق تظهر في عهد الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد على أيدي بعض الإمارات الصغيرة التي سعت لنيل حكم مستقل، وهما «آل زايد» في تهامة اليمن، و«آل يعز» في نجد اليمن وحضرموت، ورفعت هاتان البقعتان راية العصيان على الدولة العباسية حتى تغلب عليهما داعية فاطمي يُدعى علي بن الفضل نجح في توحيد اليمن مُجددًا تحت راية الفاطميين بعيدًا عن سُلطة بغداد.

أما عن يهود اليمن، فبالرغم من أن المرويات تحكي لنا أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أمر بإجلائهم خارج الجزيرة مصداقًا لقول النبي «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»، إلا أنه يبدو أن هذه العملية لم تتم على نطاق واسع أو اقتصرت، كما تروي لنا بعض الأخبار، على نجران فقط.

فبخلاف وجود نسبة من اليهود في اليمن حتى الآن، فإن كثيرًا من الأنباء وردت بحقِّهم بعد فترة خلافة عُمر، وجُلها كانت في نطاق سلبي اعتبرتهم سببًا رئيسيًا وراء كثيرٍ من الفتن التي عصفت بكيان الدولة الإسلامية على مدار عقودٍ طويلة.

ما دفع عبدالرازق البدر في كتابه «التحفة السنية» لوصفهم بأنهم «سلسلة ضلال، هُم أساس التعطيل وأساس الرافضة»؛ فمنهم خرج عبدالله بن سبأ الذي ألّب الجميع على الخليفة الثالث عثمان بن عفان وتسبّب في قتله على الرغم من كثرة اللغط التاريخي الدائر حول وجود هذه الشخصية من عدمها، ومنهم خرج أبان بن سمعان أول من نادى بخلق القرآن في الإسلام، ومنهم خرج أبو إسحق كعب الحميري المُلقب بـ«كعب الأحبار»، ووهب بن منه اللذان يُتّهمان بأنهما أكثر من أغرق كتب التاريخ الإسلامي بالإسرائيليات.