لم تزل دعاوى إصلاح المؤسسة الدينية وتطوير التعليم بها التي ظهرت للمرة الأولى في القرن التاسع عشر تتردد أصداؤها في العالم الإسلامي اليوم، وأول من رفع لواءها نفر من علماء الشريعة عاينوا الخلل الحاصل وآمنوا بضرورة الإصلاح، قبيل أن تفطن إليه الدولة وتتخذه مطلبًا رسميًّا لا تنفك تطالب المؤسسة القيام به وتتهمها بالتقاعس عن أدائه.

في السطور التالية أتناول ماهية النظام التعليمي الديني التقليدي (مكوناته، آلياته، علاقاته)، وكيفية انتقال عملية المعرفة، وأناقش مقاربات الإصلاح الباكرة منذ القرن التاسع عشر، ولدينا مقاربتان في هذا الصدد؛ الأولى مقاربة إصلاحية داخلية انطلقت من بنية النظام استنادًا إلى آليات التطوير الذاتي التي يتضمنها، والثانية مقاربة حداثية خارجية تبنتها الدولة التي آمنت بأن التحديث هو السبيل الأوحد للإصلاح.

أبتغي من وراء هذه السطور البحث في: قابليات التعليم الديني للتطور والإصلاح الذاتي، ودواعي إخفاق عمليات التحديث التي شهدها، وأناقش هذا عبر دراسة المؤسسة الأزهرية بحسبانها نموذجًا تمثيليًّا لمؤسسات التعليم الإسلامي التي تتوحد فيها طرائق نقل المعرفة ولا تكاد تعرف اختلافًا إلا في النذر اليسير.

بنية المنظومة التعليمية الأزهرية وخصائصها

تتألف المنظومة التعليمية الأزهرية من ثلاث مكونات رئيسة، هي: الأستاذ، والطالب، والمنهج الدراسي.

أ. الأستاذ

في ظل منظومات التعليم التقليدية القائمة على التلقي المباشر يُعدُّ الأستاذ الحلقة الأهم؛ لأنه العنصر الوسيط الذي يقوم بنقل المعرفة من أمهات الكتب إلى الطلاب، وهو يتمتع بحرية واسعة في انتقاء التخصص المعرفي والمنهج (الكتاب الذي يتم تدريسه) دون أي إكراه من داخل المنظومة أو خارجها، فبعضهم ربما اختار كتابًا لم يُدرَّس من قبل أو مضى زمن طويل على انقطاع تدريسه[1]، ولم تكن هناك جهة ما قائمة بأمر ترشيح الأساتذة واختيارهم، ولم تكن هناك شروط محددة لمن يتصدى للتدريس.

رغم ذلك، فالتقاليد العلمية اللامدونة كانت تقضي ألا يتصدى للتدريس إلا من تلقى العلوم المتداولة بالأزهر من أفواه المشايخ وصار متأهلًا للتصدر من الناحية العلمية، بحيث لم يكن يحتاج لاستئذان المشايخ إلا على سبيل الأدب والبركة، وما كان عليه إلا إخبار بعض المشايخ والطلبة برغبته فيحضرون درسه، فإن بدا لهم مقدرته العلمية أجابوه إلى رغبته، وإن لم يُبدِ لهم منعوه، فإن أبى إلا التدريس تصدوا له وربما ضربوه وأقاموه.

ويبدو أن هذه الشروط لم تعد مطبقة بذات الصرامة؛ فمع انتصاف القرن التاسع عشر وُجِد من يتصدى للتدريس وهو غير أهل له حتى كان شيوخ الأروقة وشيخ الجامع يتصدون لبعض الجالسين للتدريس وليس فيهم أهلية ولم يكتمل تكوينهم العلمي[2].

ولكل شيخ من الشيوخ المتصدرين للتدريس عمود مخصوص يجلس إليه في الدرس، وقد يتبادل شيخان العمود الواحد لازدحام المسجد، ويتصدر الشيخ حلقة درسه جالسًا على كرسي من الجريد أو الخشب، ويتحلق الطلاب حوله على شكل دائرة، ولكل طالب مكانه المخصوص، ويجلس أمهر الطلاب قريبًا من الأستاذ بحيث يكون همزة وصل بين الأستاذ والطلاب، وبخاصة إذا كان الشيخ خفيض الصوت أو طاعنًا في السن.

يفتتح الشيخ درسه عادة بالبسملة والصلاة على الرسول، وأحيانًا يقرأ الفاتحة ثم يشرع في إلقاء درسه محاولًا تفسير ما غمض من عبارات الكتب وما أُشكل فهمه على الطلاب الذي يتابعون ما يلقيه الأستاذ ويطابقونه على ما بأيديهم من الكتب، وينبغي أن يكون سلوكهم أثناء الدرس «على غاية من الأدب ونهاية من حضور القلب وجمع الفكر»، وما إن ينتهي الأستاذ من درسه حتى يبادر المجاورون إلى إبداء مظاهر التوقير للشيخ من تقبيل يديه وإفساح الطريق له[3]، ولا غرابة في ذلك، فحق الشيخ على المجاور «أعظم من حق الوالد على الولد»، حسب قول الشيخ مصطفى العروسي.

وليس هناك ما يمكن أن نستشف منه مقدرة الأستاذ المعرفية، لكن اتساع حلقة الدرس وحضور عدد كبير من الطلاب فيها، وتدريسه لعدد من الطلاب الذين أصبحوا مشايخ ذوي أعمدة مخصوصة أو ذاع صيتهم يعدان مؤشرين على اقتدار الأستاذ وغزارة علمه، أما التصنيف فيصعب أن نعده مؤشرًا دالًّا، فلو كان كذلك لحرص جميع الأشياخ على وضع مؤلفات خاصة، وهذا خلاف الواقع لأن بعضهم لم يُخلف أي مؤلفات كالشيخ محمد الأشموني، ولم يكن هذا مجالاً للتشكيك أو الطعن في كفاءتهم العلمية من أقرانه ومعاصريه.

ب. الطالب

أما المكون الثاني من مكونات المنظومة التعليمية فهو الطالب، ويُعرف الطالب الأزهري بِاسم «المـُجاور»، وهي اسم فاعل من «جاوَر» وتعني لازم المسجد وأقام فيه طلبًا للعلم، والمجاورون إما مصريون وإما غيرهم، ولكلٍّ أروقته التي يتوزعون عليها، حسب المنطقة الجغرافية التي وفدوا منها.

ومما ذكرته المصادر نستنتج أن أغلب المجاورين المصريين كانوا من الفقراء القادمين من خارج القاهرة، وكانوا يقيمون بأروقة الجامع المجانية المزدحمة حتى إنه كان ينبغي على المجاور أن يقدم أولًا طلب انتساب لشيخ الرواق يبين فيه الجهة التي قدم منها والكتب التي يدرسها، وأنه لا حرفة له إلا طلب العلم، وأنه يرغب في الالتحاق بالرواق، أما مستورو الحال فكانوا يستأجرون البيوت والوكالات القريبة من الجامع.

ويأتي المجاورون المصريون إلى الجامع في سنٍّ صغيرة نسبيًّا، بينما يفد الأجانب وهم على أعتاب مرحلة الشباب، وما إن يصل المجاور إلى الأزهر حتى يندرج في حلقات المبتدئين التي تدرس الكتب الأولية الصغيرة، فإن آنس من نفسه جواز الانتقال إلى ما هو أرقى منها اتجه إلى حضور كتب المستوى الثاني المتوسطة، ثم الثالث الأكثر تخصصية وعمقًا إلى أن يُتم حضور معظم الكتب المعتمدة والمشتهرة[4].

وفيما نلحظ فإنَّ تقسيم الأدوار بين الأستاذ والمجاور لم يكن حاسمًا، فالمجاورون المتميزون كانوا يقومون بدور تدريسي، فيشرحون لزملائهم الدرس قبيل إلقاء الأستاذ له، وربما جمع بعض النابهين بين تلقي العلم على يد المشايخ وبين إقراء الطلبة بعض الكتب الأولية في حلقات علمية، ولم يكن ذلك السلوك في حدِّ ذاته يلقى استهجانًا من شيوخ الجامع بسبب غياب المعايير التي تحدد من يجلس للتدريس[5].

وقد تمتع المجاور بحرية كاملة في انتقاء الأستاذ المحاضر والمنهج الدراسي (الكتاب)، إلا أنه كان ملتزمًا بحضور الكتب الأساسية كـ “السعد” و”جمع الجوامع” وغيرهما، ولم يكن الأستاذ كذلك مكترثًا بعدد متابعيه أو متابعة التقدم العلمي الذي يحرزونه أو مواظبتهم أو تقصيرهم لأنهم «مُخيرون في كل أفعالهم، وإنما السائق لهم الرغبة الذاتية»[6].

 ومثلما غاب عن النظام المعايير التي تحدد مستوى الأساتذة غابت كذلك المعايير التي تقيم مستوى المجاور في ظل عدم وجود امتحان، ورغم ذلك فقد اعتمد أبناء هذا النظام على معيارين للتقييم، هما: عدد السنين التي أمضاها المجاور في طلب العلم، والكتب التي حضرها، واعتبروا أنهما كافيان لقياس التقدم الذي أحرزه، فإن استشعر أحدهم أنه أمضى فترة كافية في التلقي وحضر مجالس شرح معظم الكتب المشهورة وآنس الاستيعاب والفهم طلب من المشايخ «إجازة» مكتوبة وممهورة بأختامهم تشهد بأنه من أهل التحصيل والإفادة، وأنه أصبح مؤهلًا للتدريس والإفتاء، وقد يبين له المشايخ اتصال سنده أو بعضه.

ج. المنهج

أما المنهج الدراسي، وهو ثالث أضلاع المنظومة التعليمية الأزهرية، فكان بدوره منهجًا مفتوحًا نسبيًّا، بمعنى أنه كان بإمكان الأستاذ استحداث مادة أو اختيار كتاب جديد للتدريس، وبصفة عامة استقر علماء الأزهر خلال القرن التاسع عشر على تدريس إحدى عشرة مادة دراسية، وهي علوم مقاصد وتشمل: التفسير، والحديث، والأصول، والتوحيد، والفقه، وعلوم وسائل وهي: النحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع، والمنطق، ثم أضيفت لها أواخر القرن العروض والحساب.

أما العلوم الحديثة فإنهم «لا يشتغلون بها لعدم رغبة الطلبة في ذلك» كما ورد في أحد خطابات شيخ الجامع إلى الدولة، وكان أغلب الاهتمام منصبًّا على النحو ثم الفقه ثم البيان ثم المعاني ثم التفسير، وهو ما يمكن تفسيره برغبة المجاورين في الاشتغال بالتدريس في المكاتب الأهلية أو الانخراط في سلك القضاء والإفتاء، وبعبارة أخرى كانت اهتمامات الدارسين ذات ارتباط بواقع الحياة العملية ولم تكن مجرد اهتمامات نظرية، ورغم الطبيعة المفتوحة للمنهج كانت بعض المواد الدراسية تلقى استهجانًا من أهل الأزهر كالفلسفة والعلوم الحكمية، ولذا ندر من يجلس لتدريسها[7].

التعليم الأزهري من منظور حداثي

ومن المنظور الحداثي تفتقد المنظومة الأزهرية التقليدية إلى الخصائص التالية:

أولًا: غياب «النسق» الذي يجمع أطراف المنظومة من: منهج ثابت يخضع له جميع الطلاب، وتوقيتات محددة يبدأ عندها التلقي وينتهي فيها، وفصول ووحدات دراسية مغلقة يتوزع عليها الطلاب، ونسيج طلابي متجانس عمريًّا وعرقيًّا، وما إلى ذلك من خصائص تسم العملية التعليمية الحديثة.

ثانيًا: غياب «السلطة المعرفية» وتتمثل في عدم خضوع المدرسين لسلطة إدارة الجامع في العملية التعليمية، وعدم وجود سلطة يمارسها المدرس على الطالب الذي يتمتع بحق اختيار المنهج والمدرس والمرحلة التعليمية التي يود الالتحاق بها.

ثالثًا: غياب المعايير الملموسة للتقييم والتي تتمثل في نظام الامتحانات والدرجات الذي يحدد مستوى من يريد الجلوس للتدريس، أو من يود الانتقال إلى المستوى المعرفي التالي.

وأخيرًا: غياب القوانين والإجراءات الردعية المقننة التي يُمكنها حفظ النظام العام وبإمكانها إنزال العقوبة على المخالفين داخل المنظومة.

ومع افتقاد هذه العناصر يبدو ظاهريًّا أن المنظومة عانت من العشوائية في مقابلة النظام والإلزام اللذين يفرضهما التعليم الحديث، لكن هل العشوائية ترادف الفوضى بحيث يمكن الادعاء أنها حكمت المنظومة وأفضت بها إلى الإخفاق؟

يذهب تيموثي ميتشل في أطروحته حول التعليم التقليدي إلى أن التعليم الأزهري كان يماثل صورة المجتمع المصري في مرحلة ما قبل التحديث الذي كان يعاني عشوائية الحركة وعدم انضباطها بفعل غياب السلطة، ووجود مساحات كبيرة للفردية والذاتية، وعدم تنمط الأشخاص[8].

وبالإمكان أن نمد الخط إلى أبعد مما ذهب إليه ميتشل وندعي أن هذا النظام التعليمي كان يماثل التنظيمات والوحدات المجتمعية ويتماهى معها في انسجام، فهو يتشابه على سبيل المثال مع نظام طوائف الحرف في عدة أوجه؛ فسلطة شيخ الطائفة تشبه إلى حد بعيد سلطة شيخ عموم الجامع من حيث تمثيله للطائفة وامتلاكه سلطة التحدث باسمها لدى الدولة، وامتلاكه سلطة الحفاظ على النظام الداخلي وإيقاع العقوبات على من يهددونه، ونقيب الطائفة يماثل مفتي المذهب الذي يعد ممثل المذهب ومرجعيته الأولى، ودور المعلم يتشابه مع دور شيخ العمود فهما المسئولان عن العملية التعليمية، وتلقين الحرفة قائم على التلقي المباشر من المعلم إلى الصبي كما هو الحال بين الشيخ والمجاور، وليس هناك مدة زمنية محددة لانتهاء الطلب، وحين يُنهي الصبي التلقي يحصل من معلمه على شهادة/إجازة بممارسة المهنة في حفل يقيمه مثله مثل المجاور، ولا تكاد تنتهي التشابهات بين النظامين وكلاهما نتاج مجتمع لم يعرف الحداثة بعد، ومن ثم اختفيا في ذات التوقيت تقريبًا وتحت تأثير تمدد الحداثة.

من جهة ثانية فإن غياب صفتي الإلزامية والنظامية لا يعنيان تمدد الفوضى، إذ وجدت داخل المنظومة الأزهرية بعض عناصر الضبط الداخلي، وبعضها تم تقنينه وتدوينه، فوقفية رواق الشراقوة التي وضعها الشيخ عبد الله الشرقاوي عام 1805م ورد بها حرفيًّا أن من بدرت منه إساءة بحق زملائه أو شيخه يعاقب «بحسب إرادة شيخ الرواق بما يليق به من ضرب وزجر وقطع خبز»، وهكذا اتسمت العقوبات بالتقدير الذاتي، إذ غالبًا ما كانت موكولة إلى شيخ الرواق أو شيخ الجامع اللذين وضعاها موضع التطبيق وقت الحاجة.

أما بخصوص فشل المنظومة فهو ما لا يمكن التحقق منه حتى بالاستناد إلى المعطيات المادية التي تفيد لجوء الدولة إلى مخاطبة شيخ الأزهر لانتقاء بعض عناصر متميزة من شباب الأزهريين وضمها إلى بعثاتها العلمية إلى الخارج لدراسة الآداب والمعارف الغربية، وتفيد الإحصاءات من جهة أخرى على تزايد الإقبال على الأزهر مقارنة بالمدارس الحديثة.

فعلى سبيل المثال تفيد الإحصاءات الرسمية أن الأزهر قفز قفزة كبيرة خلال العقد السابع للقرن التاسع عشر على عكس المفترض من انكماش التعليم به مع تمدد الحداثة، وهو ما يمكن عزوه إلى أن طلاب الأزهر مُنحوا إعفاءً من الالتحاق بالجهادية (الجيش)، وأن المدارس الأميرية فرضت مبالغ «فوق طاقة الفقراء» للالتحاق بها كما يعتقد علي مبارك مدير المدارس آنذاك.

لقد كان مظهر الإخفاق الوحيد للمنظومة الأزهرية -فيما نعتقد- يتمثل في عجزها عن الوفاء باحتياجات المؤسسات الحكومية الحداثية حيث اقتصرت على العلوم الشرعية واللغوية وأهملت الرياضيات والهندسة والجغرافيا وغيرها من العلوم الضرورية لهذه المؤسسات، ومن هنا تبنت الدولة فكرة تحديثه قسرًا، وهي المهمة التي بدأت عام 1872م بإصدار أول قانون للأزهر في ظل شياخة الشيخ محمد العباسي المهدي من دون استشارة العلماء والتباحث معهم، وتوالت بعد هذا التاريخ القوانين التي صدرت بغرض تحديث العملية التعليمية.

مقاربات مغايرة للإصلاح

غير أن المحاولات الدولتية لا ينبغي أن تصرف أنظارنا عن محاولات الإصلاح الداخلية التي شهدتها المؤسسة الأزهرية في مرحلة سابقة، فقد كانت مدة شياخة الشيخ مصطفى العروسي (1864-1870) فارقة في تاريخ الجامع، لأنه أول من انتبه إلى التراجع الواضح في العملية التعليمية، ورفع إلى الدولة لائحة تحمل مقترحاته للتطوير بعيد أشهر قلائل من توليه إدارة الجامع[9].

 وفي هذه اللائحة المؤلفة من 27 بندًا نتبين أن الشيخ العروسي شخَّص الأحوال العلمية للأزهر بدقة؛ فذكر أن بعض العلماء ربما قام بتدريس كتاب دون أن يكون مؤهلًا له، وعلى هذا يقترح ألا يقوم أحدهم بتدريس كتاب إلا بحسب استعداده واقتداره وبعد استئذان أهل التخصص، ويستثنى من ذلك أعيان العلماء (البند الرابع)، وعليهم متابعة حال الطلاب العلمية، فإذا حضر أحدهم قراءة كتاب وهو قاصر عن تلقيه والاشتغال به ينبغي عليه منعه من ذلك (البند الخامس)، وعليهم كذلك تقرير مسائل الكتب التي يقرؤونها بطريقة سهلة بعيدة عن التعقيد يفهم بها أقل الحاضرين فهمًا وأقصرهم ذهنًا (البند الخامس).

وأما الطلبة فهم «لا يطالعون دروسهم كما ينبغي، وإذا طالعوها فإنهم يكتفون بأدنى فهم دنيء، فترى الكثير منهم يمكث السنين العديدة ولا يتحصل على ثمرة كلية… ولا يتأهل للتدريس إلا قليل منهم بعد كثير من الأزمان»، وهو يعلل ذلك بغياب الحافز الذاتي لدى الطلاب، ويقترح علاجًا لهذه الحالة بعقد مجلس امتحان قبل البطالة السنوية (الإجازة)، يحضر فيه شيخ كل حلقة ليمتحن الطلاب الذين حضروا الكتاب ويعطى لمن أجاد إجازة (البند الخامس والعشرون).

وفي هذه اللائحة التي قوبلت بالتجاهل من الدولة، يستوقفنا أمران؛ الأول أن الشيخ العروسي وضعها قيامًا بالواجب لاستشعاره الخلل الذي اعترى المنظومة التعليمية، وهي بهذا المعنى بعيدة عن إكراهات السلطة والسياق الاجتماعي العام، والثاني أنه لم يشأ أن يجعل الدولة طرفًا في عملية الإصلاح وجعلها بيد العلماء، وربما كان ذلك أحد دواعي تجاهلها؛ لأن جوهر ما قدمه خلفه الشيخ المهدي العباسي -والذي اعتمد كأول قانون للأزهر- لا يبعد كثيرًا عن اقتراح العروسي وضع امتحان، لكنه أضاف إليه ضرورة إبلاغ نظارة الداخلية عقب كل امتحان بِاسم الممتحن والدرجة الممنوحة له لكي يتم تصديق الشهادة من مؤسسة الدولة ممثلة في الداخلية.

ولم تكن لائحة العروسي المحاولة الوحيدة للإصلاح من الداخل، بل تبعتها محاولة أخرى إبان الثورة العرابية، حيث اجتمع شيوخ المذاهب الأربعة ومدرسو الجامع وناقشوا مسألة التدريس، واستقر رأيهم على أن من يرغب في الجلوس للتدريس لا بد أن تتوافر فيه شروط أربعة:

1- أن يكون قد حضر جميع الكتب المتداول قراءتها معقولًا ومنقولًا بالجامع الأزهر على وجه معتبر.
2- أن يكون له ملكة يقتدر بها على فهم وتفهيم تلك الكتب.
3- أن يكون حسن السيرة.
4- أن يحضر شهادة مشمولة بأختام المشايخ تُفيد اتصافه بالشروط الثلاثة المتقدمة.

بعدها يُعهد إليه بكتاب يقرؤه، ويتوجب على شيخ الأزهر أو من ينوب عنه أن يحضر الدرس الأول ويُقيِّم حال الطالب فإن أجاد مُنح الإذن بالتدريس وإلا منعوه.

ويلاحظ على هذا المقترح أنه جعل لإدارة الجامع «سلطة» انتقاء المدرسين وتقييم أدائهم العلمي والإشراف بالتالي على الجزء الأهم في العملية التعليمية، كما وضع «معايير» موضوعية وليست ذاتية للمدرسين، وهما مسألتان مهمتان على سبيل تطوير الدراسة وجعلها أكثر اقترابًا من النسق الحديث، ونستخلص منهما أن استعادة النسق القديم للدراسة بات متعذرًا إن لم نقل مستحيلًا مع استشعار الخلل في المنظومة، لكنه رغم ذلك أعاد سيطرة العلماء التامة على مجريات العملية التعليمية بالكفِّ عن إبلاغ الداخلية بمن يجلس للتدريس.

لاقى هذا المقترح مصير سابقه، إذ لم تكد الثورة العرابية تفشل حتى أوقفت الدولة العمل به، وانتهجت سياسة التحديث التي سبق أن انتهجتها في عدد من مؤسسات الدولة والقائمة على إدخال عناصر حداثية على المنظومات التقليدية، وقد ظهر التجلي الأول لهذه السياسة في قانون 1872 الذي أعده الشيخ المهدي، والمتضمن عقد امتحان وتوزيع الممتحنين على ثلاث درجات، وجاء قانون 1897 بإدخال بعض المواد الحديثة، وجعل قانون 1911 الدراسة على ثلاث مراحل ابتدائية وثانوية وعالية، وخصص مواد دراسية لكل مرحلة، وأدخل قانون 1930 اللغات الأجنبية ضمن مقررات التعليم العالي[10]، أما قانون 1961 فقد منح الدولة سيطرة كاملة على المؤسسة الأزهرية.

مما سبق نتبين وجود مقاربتين أو مشروعين لإصلاح منظومة التعليم الديني، الأول تبناه العلماء من داخل المؤسسة ورام إلى الإصلاح الجذري بالعمل على تطوير الضلعين الأساسيين في المنظومة وهما المدرس والطالب، والآخر مشروع دولتي عني بالقوانين وإعادة هيكلة المؤسسة وإقحام عناصر حداثية لكنه لم يستطع تحقيق الإصلاح المطلوب بسبب جمعه بين عناصر غير متجانسة حداثية وتقليدية في إطار منظومة واحدة، فضلًا عن طابعه الإكراهي السلطوي الذي تعطلت معه آليات الإصلاح والتطوير الذاتي التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى.

المراجع
  1. من أمثلته قيام حسن العطار بتدريس تفسير البيضاوي بعد أن توقف تدريسه بالأزهر لفترة طويلة، وقيام الأشياخ بتدريس رد المحتار لابن عابدين رغم أنه معاصر لهم تقريبا.
  2. علي مبارك، الخطط التوفيقية، القاهرة: المطبعة الكبرى الأميرية، 1306، ج4، ص26.
  3. سليمان رصد الزياتي الحنفي، كنز الجوهر في تاريخ الأزهر، القاهرة: 1902، ص199.
  4. علي عبد الواحد، لمحة في تاريخ الأزهر، القاهرة: مطبعة الفتوح، 1936، ص 49.
  5. سليمان رصد الزياتي الحنفي، المرجع السابق، ص 166-167.
  6. علي مبارك، المرجع السابق، ج4، ص30.
  7. علي مبارك، المرجع السابق، ج4، ص30.
  8. تيموثي ميتشل، استعمار مصر، القاهرة: مدارات للنشر، 2012، ص 149-151.
  9. أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في مصر، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011، ص 598.
  10. محمد خالد حسنين، التجديد في الأزهر، القاهرة: مطبعة المعارف ومكتبتها، 1940، ص5-8.