كما أن في عالم الأحياء، الحجم لا يرتبط بالضرورة بمقدار القوة، فإن الأمر كذلك في عالم الدول. فليست كل دولة «كبرى» دولة عظمى، وليست كل دولة «عظمى» كبيرة المساحة.

دعونا أولًا نتعرف على التعبيرين في ضوء علم التاريخ: الدولة الكُبرى هي تلك التي تقوم على التمدد والاتساع، كما تضم -غالبًا- فئات بشرية متنوعة سواء من النواحي القبلية أو العرقية أو الثقافية أو الدينية أو غيرها. أما الدولة العُظمى فهي تلك التي تمارس مد نفوذها فيما وراء حدودها الرسمية ومساحتها الفعلية ويمتد أثرها في قوم لا يحملون جنسيتها ولا يعيشون على أراضيها.


في البدء كانت الدولة الكبرى

بدايةً، فإن المتأمل في النشأة الأولى للمجتمعات البشرية يدرك أن نموذج الدولة الكُبرى قد سبق نموذج تلك العُظمى، للوجود. وهذا أولًا لأن تلك المجتمعات قامت على التمدد والاتساع والاندماج، من الأسرة البسيطة لتلك المركّبة ثم العشيرة فالقبيلة فالقرية فالمدينة فالدولة، وصولًا إلى اندماج بعض الدول مع بعضها الآخر لتشمل الإقليم كله، كما كان في النموذج المصري القديم. في ذلك الوقت كانت أدوات التمدد مختصرة إما في منفعة متبادلة دافعة للاندماج في جسم أكبر (تمدد الدولة سلمًا) أو في فرض السطوة بقوة السلاح (تمددها حربًا). بالتالي كانت قوة الدولة تعتمد على كونها «كُبرى» من حيث مساحتها وتنوع الشعوب التي تدين لسلطاتها بالولاء والطاعة.

في ذلك الوقت كانت أدوات التمدد مختصرة إما في منفعة متبادلة دافعة للاندماج في جسم أكبر (تمدد الدولة سلمًا) أو في فرض السطوة بقوة السلاح (تمددها حربًا).

بقي هذا الوضع يمثل «قانون العالم» حيث إن لم تَغزُ غيرك غزاك غيرك؛ تلك السياسة التي أدركها الملك المصري زوسر والذي استحدث سياسة غزو الحدود المجاورة وتحويلها لنطاقات آمنة تأمينًا للحدود الداخلية، ثم بلغت أقصى تطبيقها خلال فترة ما بعد طرد أحمس للهكسوس من مصر بتتبعهم خلف الحدود إلى بلاد الشام، ثم قيام تحتمس الثالث بعمليات توسع صريح ومنظَّم لضم الشام وشمال الجزيرة إلى المملكة المصرية، وهو ما يُسَمّى بـ «عصر الإمبراطورية».

ورِث الآشوريون في العراق تلك السياسة فتوسعوا حتى بلغوا مصر والشام وشمال جزيرة العرب، ثم ورَّثوها بدورهم للفُرس الذين تمددوا من مجرد قبائل آرية مهاجرة تعيش في هضاب إيران إلى دولة قوية استطاعت أن تصل بجيوشها في عهود كورش وقمبيز وداريوش وأخشويرش إلى مناطق شديدة الوعورة كأفغانستان أو بعيدة المسافة مثل مصر وبلاد الإغريق، فأصبحت الدولة الفارسية هي القوة الحاكمة للمنطقة، حتى جاء دور الإغريق لحمل تلك الراية بفتوحات فيليب المقدوني ثم ابنه الإسكندر الأكبر الذي استطاع في سنوات قليلة -بمقاييس أعمار الدول-أن يؤسس لدولة تعد النموذج الأقوى للدولة الكُبرى في التاريخ القديم، حتى أن تفككها بعد موته تمخض عن دولتين كبيرتين هما الدولة السلوقية في الشام وآسيا الصغرى، والدولة البطلمية في مصر والتي امتدت غربًا إلى برقة بينما تذبذبت حدودها شرقًا بين ضم جنوب الشام أو فقده سجالًا في منافسة على ذلك مع السلوقيين.

في ذلك الوقت الذي كان نفوذ الدول فيه يقوم على السلاح، كان نموذج «الدولة العُظمى» يستعد للإعلان عن نفسه.


روما: النموذج الأول للدولة العظمى

البحث عن سبل لفرض النفوذ دون الاضطرار للخيار العسكري هو ما أدَّى إلى المبدأ الاستعماري الشهير Divide et impera أو «فرِّق تَسُد».

«الحاجة أم الاختراع»، هذا ما انطبق على تجربة الدولة الرومانية التي كانت تعاني قلة عدد سكانها قياسًا بتطلعاتها التوسعية خاصة فيما يتعلق بحوض البحر المتوسط. كان الحل إذن هو البحث عن سبل لفرض النفوذ دون الاضطرار للخيار العسكري إلا في المراحل النهائية من الخطة. من هنا نشأ المبدأ الاستعماري الشهير Divide et impera أو «فرِّق تَسُد» وبدأ تطبيقه بدقة، فخلال الصراع مع دولة «قرطاج» استغل الرومان الصراع بين جناحي السلطة العسكريين والسياسيين/رجال الأعمال ليضربوا الطرف الأول بالطرف الثاني من خلال جذب العسكريين لمعارك حربية وفي نفس الوقت إبرام اتفاقات سرية مع السياسيين القرطاجيين لتكون بمثابة خنجر في ظهر الجيش القرطاجي. وعلى المستوى الخارجي استطاع الرومان أن يغيروا ولاء المدن المحيطة بقرطاج ومستعمراتها في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا بحيث يتخلوا عن التحالف مع المدينة التونسية مقابل أن يشاركوا روما ميراث قرطاج بعد سقوطها. وأخيرًا جاء دور العمل العسكري الروماني عندما قامت الفيالق الرومانية بقيادة سكيبيو الأفريقي بغزو قرطاج وتدميرها وتهجير شعبها.

وعلى الجبهات المصرية والشامية والأوروبية، بدأ الرومان في التدخُل في صراعات الحكم داخل البيت الحاكم الواحد من جهة، وبين الدول المتجاورة من جهة أخرى، عارضين على كل طرف التحالف معه ضد الآخر، وتاركين لكل طرف مهمة تصفية خصمه، ليتدخلوا فقط في المشهد الأخير بقواتهم التي تبقى طوال الصراع منتظرة سقوط الطرف قبل الأخير لتنقض على خلفه الذي أنهكته المعركة. هكذا سقطت سوريا السلوقية، مصر البطلمية، مملكة بني إسرائيل، ومدن اليونان، لتتسع الدولة الرومانية على حساب أنظمة تلك الدول دون بذل جهد مادي كبير قياسًا بالنتيجة المبهرة. كما عقدت تحالفات مع دول مثل الأنباط في الأردن، تدمر في سوريا، تراقيا في البلقان، تكون فيها روما -بطبيعة الحال- هي الطرف الأقوى؛ أي أنها مارست النموذج الأول لنفوذ الدولة العُظمى لتصبح دولة كبرى.


السلام الروماني والدول الوظيفية

وما جعل روما تتمسك بشكل أكبر بفكرة فك الارتباط بين المساحة الفعلية للدولة ونفوذها الحقيقي كان تجربة قاسية تعرضت لها القوات الرومانية عندما أراد أغسطس قيصر ضم جزيرة العرب، وبالذات جنوبها -اليمن- الذي وصفه اليونانيون بتعبير Felix Arabia أي «البلاد العربية السعيدة» (وهو سر تسمية «اليمن السعيد») فكلّف واليه على مصر أوليوس جالوس بذلك.

أوليوس جالوس أدرك أنه ليخترق العمق العربي فإن عليه أن يضم مملكة الأنباط الواقعة في الأردن (عاصمتها البتراء حاليًا)، ولكن تحقيق ذلك الغرض كان متعذِّرًا لشدة تحصين المملكة الواقعة عمليًا في وديان صخرية وعرة؛ لذلك لم يكن من سبيل أمامه إلا جذب الحكومة النبطية لتحالف معه من خلال الترغيب في فوائد محالفة «السادة الجدد» للمنطقة، والترهيب من نتائج غضب روما لرفض طلبها. وبالفعل سمح الأنباط للرومان بالمرور من جوارهم وأمدُّوهم بدليل، هو الوزير الأول «صالح» -تعرفه المصادر الرومانية باسم سيلاوس- والذي وجَّه الجيش إلى عمق الجزيرة حيث عانى الجنود من العطش والمرض ومتاعب الصحراء، ثم عادت الحملة فاشلة في تحقيق هدفها ليتضح أن صالحًا المذكور كان يرمي فقط لاستخدام الرومان في ضرب المدن المنافسة للبتراء ثم إضاعتهم في الصحراء كيلا يطمعوا في ضم بلاده بعد ذلك. طبعًا انتقم الرومان بقتل صالح ولكنهم أبقوا على حلفهم مع مملكة الأنباط وإن أدركوا أن الأجدى لهم هو عدم المخاطرة بعد ذلك بقواتهم إلا للضرورة وتكليف الدول «الحليفة/التابعة» بالقيام بالمهام الخادمة لروما.

http://gty.im/1657587

ولكن لكي يتحقق ذلك كان ينبغي أن يسود بين هؤلاء الحلفاء بعضهم بعضًا السلام والتفاهُم من ناحية، وأن يكون هذا التفاهُم محدودًا فقط بما يخدم روما من ناحية أخرى، كيلا يتحد هؤلاء الحلفاء ويشقوا عصا الطاعة> من هنا نشأت سياسة جديدة ميزت أداء الدول العظمى هي PaxRomana أو «السلام الروماني» وهو أن تقوم دولة قوية بفرض رؤيتها الخاصة للسلام في منطقة، لا بما يخدم السلام من حيث المبدأ بل بما يخدم مصالحها.

نشأت سياسة جديدة ميزت أداء الدول العظمى هي PaxRomana أو «السلام الروماني» وهو أن تقوم دولة قوية بفرض رؤيتها الخاصة للسلام في منطقة.

ولأن طاعة الحليف لا تدوم بالضرورة، فقد تمخضت القرون التالية-تحديدًا بعد أفول نجم روما وقيام بيزنطة في الشرق كمنافس للدولة الفارسية، عن ابتكار ثالث خادم للدولة العظمى وهو «الدولة الوظيفية». ويعني ببساطة أن تعطي الدولة العظمى إقليمًا من ممتلكاتها استقلالًا شكليًا، وتقيم عليه حكومة تختارها بنفسها من سكانه، تتصرف في مواجهة الدول الأخرى كدولة مستقلة بينما هي في حقيقة الأمر مجرد تابع ينفذ سياسات الدولة الأم.

من هذا المنطلق أقام الروم دولة الغساسنة العربية بالشام، وأسس الفُرس دولة الحيرة العربية بالعراق، لتكون كل منهما بمثابة مخلب قط للدولة الراعية لها في مواجهة منافستها، و«رجل شرطة» المنطقة لتأديب القبائل الخارجة عن الطاعة.

ومن هنا أصبح لنموذج «الدولة العُظمى» أبعاده وشكله الذي جرى توارثه بعد ذلك.


الدولة العربية الإسلامية

رغم أن الدولة العربية الإسلامية قد ورثت ممتلكات أكثر من دولة على رأسها بيزنطة وفارس، وامتدت مساحتها إلى شمال أفريقيا والبرتغال وأجزاء من فرنسا إلا أنها استمرت -في مجملها-في طور «الدولة الكبرى» حتى قيام دولة المماليك سنة 1250م.

نستطيع أن نقول أن الصراعات داخل الدولة العربية الإسلامية قد «عطّلت عجلة التاريخ».

فعلى الصعيد الشرقي كانت الدولة تعيش طور التمدد والتوسع منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وحتى عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك، ورغم ذلك كانت الاضطرابات الداخلية منذ اغتيال الخليفة عمر تحول دون ممارسة الدولة لسياسات «الدولة العظمى» بالشكل السائد آنذاك، وإن استطاعت تحجيم قيام البيزنطيين بذلك خاصة مع بداية سك العملة العربية في عهد عبدالملك بن مروان وإيقاف استخدام العملة البيزنطية عربيًا. بقيت الدولة في تلك الحالة من الاضطراب، سواء في عهد الأمويين أو ورثتهم العباسيين، وإن استطاعت أن تمارس النفوذ الخارجي حتى نهاية عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد. ثم وقعت الحرب الأهلية بين ابنيه الأمين والمأمون، وجاء عهد المعتصم كنهاية لعهد الخلفاء الأقوياء ليتسلط من بعده على الحكم عناصر من العسكريين الترك. من هنا بدأت الدولة تتفكك إلى دويلات متفرقة يربطها ولاء اسمي للخليفة في بغداد بينما تتقاتل فيما بينها. نستطيع أن نقول أن هذا الصراع قد «عطّل عجلة التاريخ».

أما على الصعيد الغربي -الأندلسي- فقد أسس عبدالرحمن الداخل دولة أموية قوية، استحقت بحق صفة الدولة العظمى، حيث تجاوز نفوذه حدود مملكته إلى الممالك الأوروبية، ومارس مع خلفائه -بالذات عبدالرحمن الناصر- سياسات «فرق تسد» و «السلام الروماني» بل وحتى دعم الأنظمة الوظيفية بين أمراء وملوك مقاطعات فرنسا وأيبيريا المتنافسين. ولم يقتصر الأمر على مجالات السياسة والحرب بل امتد للمجالات العلمية والثقافية بحيث غزا العرب أوروبا ثقافيًا وحضاريًا بشكل يعبر عنه بقوة استمرار الموروث الحضاري العربي في تلك المنطقة إلى يومنا هذا رغم أفول نجم العرب منها قبل قرون مضت. ورغم أن الحاجب محمد بن أبي عامر (المنصور) قد جعل الحكم الأموي للأندلس صوريًا إلا أنه واصل العمل بتلك السياسة، ولكن الدولة كلها سرعان ما انهارت بعد موته، لتغيب قوة الأندلس العظمى.


التجربة المملوكية

وعودة للجناح الشرقي، حيث أدّى التصاعد الدرامي للأحداث بدخول مرحلة التهديدات الفرنجية (الصليبية) وتلك المغولية مرحلة الخطر على الدولة إلى قيام دولة المماليك في مصر والشام. قامت هذه الدولة أولًا على التوسع ثم تطهير الشام من الجيوب الإفرنجية حتى فتح عكا في عهد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون؛ أي أنها كانت تسعى لأن تكون «دولة كبرى» ولكن بالتوازي مع ذلك كانت تضع لنفسها مكانها كدولة عظمى من خلال خطة تبدو للمتأمل في التاريخ منظمة جدًا.

– فأولًا استطاع المماليك بتحملهم مسئولية إنقاذ «بلاد الإسلام» من الفرنجة والمغول وإحيائهم الخلافة العباسية في القاهرة، أن يضعوا أنفسهم في مكان «حامي المناطق العربية والإسلامية» حتى وإن لم تصل إليها جيوشهم. حتى أن بعض من كانوا يعتنقون الإسلام من حُكَّام آسيا كانوا يُرسِلون للقاهرة لطلب عَلَم الخليفة كإعلان للولاء للدولة، وكانوا يَدْعون من فوق المنابر لكلٍ من الخليفة والسلطان.

– وثانيًا استغل المماليك سيطرتهم على أهم موانئ البحر المتوسط كالإسكندرية وعكا وبيروت ويافا، والبحر الأحمر كجدة وينبع وعيذاب، ليسيطروا على حركة التجارة العالمية حتى اكتشاف رأس الرجاء الصالح سنة 1498م.

– وأخيرًا فإن حركة هجرة العلماء والمفكرين والمبدعين للقاهرة خلال المحنة الإفرنجية المغولية قد أدت لتحولها إلى عاصمة للثقافة والفن والحضارة، ومنطلق للغزو الحضاري لمحيط الدولة.

كان يمكن لهذه التجربة أن تتطور وأن تستمر لولا أن أدرك الدولةَ الضعفُ، ووقعت المنطقة فريسة للدولة العثمانية التي كانت تعاني حالة دائمة من قصر النظر، حيث كانت تعتمد على القوة الغاشمة والتحرك العسكري المباشر أكثر مما تعتمد على القوى الناعمة والذكاء السياسي، وهو ما جعل المنطقة العربية فريسة سهلة بعد ذلك للتقسيم والتمزيق خلال الفترة الاستعمارية منذ نهاية القرن 18 وحتى ما بعد الحرب العالمية الأولى.


أوروبا.. من التخبط للاستعمار

بسقوط روما في يد القبائل الجرمانية وهروب أباطرتها إلى الجنوب وتفكك الجناح الغربي من الدولة وقيام الأسر الحاكمة، دخلت أوروبا فيما يمكن وصفه بـ «الرِدة»، حيث ارتدت عن وضع الدولة العظمى لما قبل الدولة أصلًا. ولم تعرف الاستقرار والوحدة والعودة كقوى عظمى حتى مع محاولات الباباوات في روما لإحياء ما يوصف بـ «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» من خلال اختيار أحد ملوك أوروبا ليصبح إمبراطورًا حاميًا للدولة والدين.

فشل تلك المحاولات جاء نتيجة عدة عوامل، فمن ناحية كان التنافس والصراع هما سيدا الموقف سواء على مستوى الدولة الواحدة أو بينها وبين دولة أوروبية أخرى أو أكثر. ومن ناحية ثانية، كانت البابوية طامعة لنفسها في دور القوى العظمى مما خلق صراعات -بعضها كان داميًا- بين البابوية من ناحية والأقوياء من الملوك من ناحية أخرى، استخدم فيها البابا سطوته الدينية وتهديدات الحرمان الكنسي واستخدم فيها الملوك جيوشهم وأسلحتهم. ومن ناحية ثالثة فإن فقدان أوروبا السطوة على البحر المتوسط لصالح المسلمين قد أفقدها أداتها للسيطرة على التجارة، ومن ناحية أخيرة فإن تهافت المدن الإيطالية كالبندقية وجنوة وبيزا وفلورانسا على أن تصبح قوى اقتصادية قد جعل سياساتها تنفصل عن السياسات الأوروبية العامة فيما يتعلق بـ «الآخر».

وحتى نجاح الدول الأوروبية في احتلال أراضٍ عربية في المشرق لم يؤد إلا إلى مزيد من التناحر حول حقوق النفوذ، وكان الأمر يحتاج إلى تحدٍ تمثل في الغول العسكري العثماني ليدرك الأوروبيون أن عليهم أن يتخذوا سياسة موحدة سياسيًا وعسكريًا في مواجهة غيرهم حتى وإن أبقوا على صراعاتهم. وبالفعل بدأوا في استغلال طرق التجارة البحرية المستكشفة في المحيطات لمد نفوذهم بغطاء تجاري في سواحل آسيا؛ هذا من جانب.

ومن جانب آخر كان اتحاد الروس في دولة واحدة ووراثتهم لقب القيصرية من بيزنطة بمثابة محاولة أوروبية للعودة لمصاف القوى العظمى من الناحية «الروحية» خاصة مع ما تردد في الأوساط السياسية أن روسيا تسعى لإحياء مجد بيزنطة المسيحية. أي أن الروس قد لعبوا بشكل أو بآخر نفس لعبة المماليك في إحياء الخلافة العباسية.

المتأمل لتاريخ العالم منذ نهاية القرن 18 مرورًا بالقرن 19 وحتى الحرب العالمية الأولى يدرك أن القوة الأوروبية الخارجية اعتمدت في البداية على ضعف «المنافِس»، ثم تطورت -خاصة بعد الثورة الصناعية- لتتخذ لنفسها قاعدة للانطلاق. في حين كان هذا المنافس المتمثل في الدولة العثمانية يتدهور ويرجع بالمنطقة كلها إلى الوراء.

لهذا فقد كانت نتيجة طبيعية أن تنتهي الحرب العالمية الأولى وقد تقاسمت القوى الأوروبية أراضي المنطقة العربية. وكانت نتيجة طبيعية بعدها أن ترسم تلك القوى خريطة المنطقة وحدود دولها وشكل أنظمتها، وأن تقيم فيها دولة وظيفية هي إسرائيل. أي أن اللعب بقواعد اللعبة الرومانية القديمة قد عاد من جديد.


أمريكا: روما الجديدة

كما ورث الرومان نفوذ السلوقيون والبطالمة، ورثت أمريكا نفوذ البريطانيين والفرنسيين.

والقاريء في التاريخ يُذهَل حقًا من فرط تشابه السياسة الأمريكية مع تلك السياسة الإمبراطورية الرومانية.

فالأرض التي لم تصل إليها قوات المارينز ولم يصل لها حاكم تابع لواشنطن، يحكمها «نمط الحياة الأمريكي».

فرض «سلام أمريكي» بما يتناسب معها (قارن مثلًا التعامل الأمريكي مع ملف الأسلحة النووية واختلاف معاييره بين إسرائيل من ناحية وباقي الدول من ناحية أخرى)، دعم لأنظمة وظيفية يصل لحد تدبير انقلابات في أمريكا اللاتينية أو دعم ديكتاتوريات في آسيا وأفريقيا، إشعال حروب هنا وهناك كذريعة للتدخُل، دفع جهات تابعة لدخول حروب بالوكالة. جدير بالذكر أن أمريكا هي التلميذ الذي فاق أستاذه، فقد قضت عقودًا في حالة انعزال عن صراعات العالم ثم خرجت مرة واحدة كقوة عاتية بشكل جعل عنصر المفاجأة في صالحها. جدير بالذكر كذلك أن من أوجه القوة الأمريكية أنها استطاعت أن توظف في المجتمعات التابعة جانبًا من النفس البشرية تحدث عنه ابن خلدون يومًا هو «ولع المنهزم بتقليد نمط حياة المنتصر». فالأرض التي لم تصل إليها قوات المارينز ولم يصل لها حاكم تابع لواشنطن، يحكمها «نمط الحياة الأمريكي». وهو سلاح ساعدت على انتشار مداه حركة تطور وسائل التواصل.


الدولة العظمى: النموذج الوحيد

حاليًا، وبعد ارتباط دول العالم «المتمدن» فيما يتعلق بعلاقاتها الخارجية باتفاقيات ومعاهدات وبروتوكولات وعضويات في روابط دولية وإقليمية، فإن نموذج الدولة الكبرى قد انقرض؛ ولم يعد من مجال سوى لنموذج الدولة العظمى.

والقاريء لموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية يجد ملاحظة بهذا الشأن للدكتور عبدالوهاب المسيري حيث قال أن إسرائيل نفسها التي بدأت بحلم «من النيل إلى الفرات» قد اضطرت لأن تنتقل لمرحلة «إسرائيل العظمى» التي تسيطر خارج محيط حدودها الرسمية بالقوة الناعمة لا بالسلاح (وإن لم يمنعها هذا من استخدام السلاح بالفعل خارج تلك الحدود).

كذلك لو تأملنا صراعات وصدامات العالم لوجدناها كلها تقريبًا بالوكالة عن قوى أكبر، أو نيابة عن طرف لا يريد أن «تتسخ ثيابه» ولا يريد أن يخرق القواعد الجديدة للعبة السيطرة والنفوذ. من هذا المنطلق أصبح نفوذ الدولة لا يرتبط كثيرًا بمساحتها الفعلية، ولا بقدم عهدها، ولا بأي عنصر سوى قدرتها على فرض نفوذها هنا أو هناك حتى وإن كانت مساحتها بضعة كيلومترات لا تُرى على الخريطة. بلى؛ فالدولة الكبرى لم تعد خيارًا متاحًا، وحتى الاسم لم يعد يستخدم إلا تعبيرًا عن دولة عُظمى، أما فعليًا فلم يعد لتطبيقه وجود.