نادرًا ما يبتسم الناس دون مبرر قوي للابتسام. المتفائلون إلى درجة الطيش الكامل فحسب. هم من يتّكلون على مثل تلك العملات العاطفية في تلبيه احتياجاتهم. قد تعمل تلك العملة داخل الأسرة أو بين الأصدقاء أو عند الانجذاب الجنسي. أما خارج ذلك، فتشغلنا رؤية الناس لنجاحنا، فهو عملتنا التي يمكننا الاعتماد عليها، إذا أردنا أن يشعروا بوجودنا.في كتابه «قلق السعي إلى المكانة: الشعور بالرضا أو المهانة»، يتحدث «آلان دو بوتون» عن غير القادرين أو غير المستعدين لتقديم فروض الولاء والطاعة للأفكار السائدة عن المكانة العالية، ولكنهم رغم ذلك يستحقون أن يصنفوا تحت فئة أخرى غير الوصف القاسي بكلمات مثل «فاشل» أو «نكرة».يساعدنا دو بوتون على تغيير وجهة نظرنا، بعيدًا عن الأفكار الموروثة التي ترسخت في مؤسسات السياسة والإعلانات والاقتصاد ومؤسسات العمل ومكّنت القوي من التهام الضعيف، ويساعدنا في المقابل على العودة إلى كيانات أخرى كالدين والفكر والفن؛ والتي احتفظت بتصورات مغايرة عن النجاح والفشل، والجيد والسيئ، والمخزي والمُشرِّف، وساعدت على صياغة وعينا بحيث نصمد أمام الاعتبارات غير الأخلاقية. ومع ذلك، لا ينفي دو بوتون أن القلق بشأن المكانة والخوف من الفشل والخزي في أعين الآخرين هو أمر لا بد منه لامتلاك الطموح.


المحبة الخارجية: هيليوم بالون «الأنا»

الثابت الأول الذي ينطلق منه دو بوتون هو أن هنالك فرقًا بين «الحب الرومانسي» و«حب المكانة». ليس لـ «حب المكانة» غرض جنسي، ولكنه هو الشعور بأننا محط انشغال وعناية، وحضورنا ملاحظ، وآراؤنا يُنصت إليها وحاجاتنا مُلباة، وفي مثل تلك الرعاية ننتعش ونزدهر ونحصل على دافع لإكمال طريقنا.قصة سعينا وراء حب الناس لنا هي قصة مُخجِلة وأشد سِرِّية، نذكرها بتهكم كأنها تُهم ضعاف النفوس فقط. ولكن ما هدف الطموح والسلطة والثروة غير أن نكون تحت أنظار الآخرين وموضع إعجابهم، حيث من الممكن تثمين كل من المال والشهرة والنفوذ بوصفها شارات رمزية للحب وليس كهدف في حد ذاتها.يقول وليم جيمس في كتابه «مبادئ السيكولوجيا» إنه لا يمكن ابتكار عقاب أشد شيطانية من أن ينطلق المرء دون أن يلحظه أحد، من ألا يلتفت له أحد عندما يدخل مكانًا، وألا يجيب أحد عندما يتكلم، وألا يعبأ أحد بما يفعل، كأنه ميت، ليكون أقسى تعذيب بدني مصدرًا للراحة عن شعوره باليأس والحنق. يمكننا بسهولة فهم هذا المثال، فاهتمام الآخرين مهم لنا، لأننا بحكم طبيعتنا مبتلون بانعدام يقين نحو قيمتنا الخاصة.تحدث دو بوتون في فصل «الغطرسة» عن الوحش الذي سنقابله بعد التخرج من الجامعة. فحتى نبلغ سنًا محددة، سيكون وجودنا بمفرده كافيًا لكي نحصل على حنان دون قيد أو شرط. فنحن نبدأ مسيرتنا على الأرض بين يدي أم لا تطالبنا بأكثر من أن نبقى أحياء. وحتى هؤلاء الذين ليسوا أمهاتنا، يعاملوننا بنفس القدر من التدليل، ويمنحوننا الهدايا، مكافأة لنا على وجودنا، من دون أي شيء آخر. ولكن من المحتوم أن تنتهي هذه الحالة المثالية، فعندما ننهي تعليمنا، نضطر لاتخاذ موقعنا في عالم يسيطر عليه «الشخص المتغطرس» المؤمن بالتوازن التام بين منزلة المرء الاجتماعية وقيمته كإنسان، وبدون امتلاكك لعلامات مُعترَف بها اجتماعيًّا، سوف يبقى وجودك بلا أي قيمة في نظر هذا الشخص.يصدمنا هذا الاهتمام المعتمد على شروط خارجية، لأننا قبل ذلك كنا نتلقى الرعاية ونحن في حالة من العري والاحتياج الكامليْن. في هذه المرحلة، تعتمد عاطفة الآخرين تجاهنا على ما ننجز وعلى ما نحقّقه من منزلة ووجاهة اجتماعية، وهي الطرق التي قد تنجح في جذب اهتمام الآخرين؛ غير أن التعطش العاطفي الأصيل داخلنا لا يتعلق بأن نبهر الناس بأعمالنا بقدر ما يرمي إلى استعادة إحساس التدليل السخي والبريء.


لماذا تضاعف القلق؟

تطلعت المجتمعات الحديثة نحو التخلص من الاعتبارات الموروثة التي تمنح الامتيازات أو تحرم منها الإنسان، وذلك بغرض أن تقوم منزلة الإنسان على منجزه الفردي فقط. أدى ذلك إلى أن يصير تحقيق المكانة مرتبطًا بالريبة وعدم اليقين بما قد يحدث بالمستقبل، حيث يضع دو بوتون أمامنا أربعة مبررات وجيهة تجعلنا دائمًا لا نطمئن إلى بلوغنا المكانة المنشودة:1. الاعتماد على الموهبة المتقلبة: فمن المستحيل في أغلب النشاطات أن نوجه الموهبة كما يحلو لنا، فقد تسطع ثم تتبدد، فتترك مسيرتنا المهنية حطامًا.2. الاعتماد على الحظ: فتلك الظروف المواتية التي نُعرّفها بالحظ راح الاعتقاد بها يفقد قوته، مع ازدياد قدرتنا على التحكم في بيئتنا وتوقع مسلكها، وأصبحنا مسئولين عن صنع سيرنا الذاتية، محاطين بالقلق والمخاوف في عالم شغوف بأفكار السيطرة العقلانية التامة.3. الاعتماد على صاحب العمل وربحيته: فعندما تكون مكانتنا مرتبطة بأولويات من نعمل معهم نصبح عاجزين عن توقع ما قد يطرأ على حالتنا، متضمنًا ذلك ضرورة احتراف ألعاب التملق والتفاوض وضرورة الكذب والمبالغة وقبول الإهانة وأساليب الترهيب.4. الاعتماد على الاقتصاد العالمي: هنا سنبقى جميعنا مديرين ومرءوسين تحت تهديد أداء الاقتصاد إجمالًا من استثمار واستهلاك واقتراض وإقراض، وانزلاق نحو الركود ثم نمو واستثمار من جديد.


الإجابة الأولى: المال؟

تطرق بوتون إلى عجز الأفكار الماركسية أمام الواقع، فمنذ أن بدأ المسيح دعوته، وقبل ما حققه الغرب من تقدم مادي، كان على الطبقات الدنيا أن تتوارث ثلاث سرديات يقينية بشأن قيمتها وعزاء عميق إذا آمنوا بها.

فالسردية الأولى هي أن:

الفقراء غير مسئولين عن ظروفهم، وهكذا شاء الله، أن يقسم الناس إلى أثرياء وفقراء، بكل بساطة.

فالتركيب الاجتماعي يتألف من ثلاث طبقات، رجال الدين والنبلاء والفلاحين، مع تقدير قوي للاعتماد المتبادل بين تلك الطبقات المختلفة.

أما السردية الثانية فهي أن:

المكانة الدنيا ليست ذات دلالة أخلاقية.

ساعد في نشر تلك السردية أن المسيحية اتخذت موقفًا محايدًا تجاه المال، بل حبّذت الفقر. فكل خير يكمن في الإقرار باعتماد المرء على الله، ويُعتبر شرًّا أي شيء قد يحضّ على الاعتقاد بأن الإنسان قد يعيش حياة راضية من دون نعمة الله.

السردية الثالثة هي أن:

الأغنياء آثمون وفاسدون وقد اكتسبوا ثرواتهم بسرقة الفقراء.

بلغت تلك السردية ذروة تأثيرها بين عامي 1754 و1789، عندما جسدها جان جاك روسو في كتابه «مقال في أصل اللا مساواة» حتى استأنف ماركس صيحة الاحتجاج الاجتماعي بعد مائة عام من بدايتها. ولكن طوال هذه الفترة، هل ظلت السرديات الثلاث المعزية قائمة؟ لا، فقد قابلتها سردية أخرى عنوانها:

الفقراء آثمون وفاسدون وغباؤهم هو سبب فقرهم، والأغنياء هم المفيدون.

إن النموذج الحديث للحياة الناجحة يساوي بين قدرة الإنسان على جني المال وصلاحه، مع افتراض صلة أخرى بين جني المال وعيش حياة سعيدة. وتقوم هذه الصلة على افتراضين، أولهما أن تحديد ما سيجعلنا سعداء ليس صعبًا، فكما أجسادنا يمكننا الاعتماد على عقولنا لفهم ما نحتاجه ومن ثم نستهدفه، وبالتالي سوف تدفعنا عقولنا بطبيعة الحال نحو مهن ومشاريع دون سواها.

أما الافتراض الثاني فتقوله الحكمة التقليدية المتبعة، كلما زاد مقدار ما نملكه من مال زادت السلع والخدمات التي يمكننا دفع ثمنها، ومنه زادت فرصنا في بلوغ السعادة. لكن تلك الفرضية يعارضها جان جاك روسو في مقالته «أصل التفاوت بين البشر». فبحسب روسو، مهما اعتقدنا أننا نحظى بعقول مستقلة، فإننا في حقيقة الأمر لا نملك مهارة فك شفرة احتياجاتنا الخاصة، وعقولنا هي عجينة طرية تؤثر عليها الأصوات الخارجية فتطمس الأصوات الخافتة المنبعثة من داخل نفوسنا لتلهينا.

تطرق روسو أيضًا لما أسماه «الحياة الطبيعية»، حياة ما قبل التكنولوجيا والمتاجر والصحف، عندما كان للإنسان فهم أفضل لنفسه فينجذب للجوانب الأكثر جوهرية لعيش حياة سعيدة مثل حب الأسرة واحترام الطبيعة والإحساس بالجمال، حتى انتزعتنا الحضارة التجارية الحديثة لترمي بنا للحسد والاشتهاء والمعاناة في عالم من الوفرة، كما حدث مع مجتمع الأمريكيين الأصليين في القرن السادس عشر عندما اعتاشوا على الثمار والحيوانات متساوين ومتآزرين، حتى وصل الأوروبيون الأوائل لينقلب نظام المكانة في مجتمع الأمريكيين الأصليين وفق التعرف على منتجات التكنولوجيا والصناعة الأوروبية.


الفلسفة: لا تعتمد لياقة المرء على شهادة شخص آخر

في فصل «الفلسفة»، بدأ دو بوتون اقتراح الحلول. فعلى شبه الجزيرة اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، ظهرت مجموعة من الأفراد ذوي لحى، وقد تحرروا من مخاوف المكانة التي كانت تعذب معاصريهم وتقتلهم أحيانًا. ولم تزعج هذه المجموعةَ التبعاتُ النفسيةُ أو الماديةُ لشغل مكانة متواضعة في مجتمعهم، واحتفظوا بهدوئهم في مواجهة الإساءة والاستنكار والعوز، فعندما رأى سقراط كومة من الذهب محمولة في موكب عبر شوارع أثينا صاح: «ما أكثر ما وضع هناك من أشياء لا أريدها». وبينما كان الإسكندر الأكبر مارًّا للقاء الفيلسوف ديوجين، عثر عليه تحت شجرة يرتدي ملابس بالية، فسأله الإسكندر إن كان بوسعه أن يفعل شيئًا لمساعدته، فقال له ديوجين:أطلق العامة الألقاب المهينة على هؤلاء الفلاسفة، وكانوا يسيئون إليهم في الأسواق دون إجابة منهم، كما حدث مع سقراط، ولكنهم دحضوا ضمنًا افتراض أن ما يعتقده الآخرون بشأننا لا بد أن يحدد ما قد نعتقده بشأن أنفسنا، وبالتالي لا بد أن نشعر بالخزي لكل إساءة تُوجّه إلينا. فما كان من الفلاسفة إلا أن أضافوا عنصرًا وسيطًا للعلاقة بين الرأي الخارجي والرأي الداخلي بالذات، وتخيلوا صندوقًا نجمع فيه وجهات نظر العامة ثم نرسلها إلى الذات إذا كانت صحيحة، أما إذا كانت خاطئة فتُلفظ دونما قلق ونودّعها بضحكة أو هزّة منكبين، وأطلقوا على هذا الصندوق اسم «العقل»، وبفضل العقل سنثبت مكانتنا اعتمادًا على الفطنة والإدراك السديد، بدلًا من تركها لساحات المشاجرات والمبارزات.


وبماذا قد ينفعنا الفن؟

إن الحياة ظاهرة تحتاج إلى النقد، لأن البشر كمخلوقات قاصرة طريدة الفردوس عرضة لمخاطر دائمة مثل العجز عن فهم المرء لنفسه، وإساءة تأويل سلوك الأشخاص الآخرين، وسيطرة القلق والرغبات عليهم بصورة هدامة. وهكذا فإن الأعمال الفنية، على اختلاف أشكالها، تستطيع أن تكون وسيلة تفسر لنا وضعنا الإنساني بحيلها وطرقها المستترة. وقد تكون أعمال الفن دليلًا نحو فهم العالم بصورة أصدق وأرشد وأذكى، كما أنه لو لم يوسع الفن حدود التعاطف الإنساني فلا نفع له من الناحية الأخلاقية.حلّل دو بوتون، عبر بعض النماذج، ما تمّ خلال القرنين التاسع عشر والعشرين عندما شنّت كل الروايات العظيمة هجومًا على التراتبية الاجتماعية السائدة، ونظرت إليها بعين الشك، وقدّمت نوعًا من إعادة الترتيب لدرجات سلم الأفضلية وفقًا للاعتبار الأخلاقي لا وفقًا للمناصب والممتلكات والنسب، حتى أصبح الفقراء أبطال وبطلات الروايات الخيالية، وأصبح هم من يستميلون تعاطفنا، مميزين بعظمة أخلاقية وحساسية نادرة مقابل الأغنياء بقلوبهم المتيبسة. وخلال هذه الفترة، كانت أفضل الروايات هي التي توسع حدود تعاطفنا الإنساني وتبسطه في كل اتجاه، ومعها كان الفن التشكيلي والمسرح.


هل يساعدنا الموت على حياة بلا قلق؟

نعم، سوف تساعدني إذا ابتعدت قليلًا، فأنت تحجب الشمس عني.

في أشد فصول الكتاب كآبة، طرح دو بوتون فكرة الموت كحل لأزمتنا. ففي الأحوال النموذجية، سنتوقع من التفكير بالموت أن يرشدنا في الحياة نحو أهم الأشياء لدينا مهما كانت، ويشجعنا على تقليل اهتمامنا بأحكام الآخرين وآرائهم، وقد يقودنا استشراف نهايتنا نحو طريقة الحياة التي تمنحها أفئدتنا القيمة الأكبر.وفي حين يُساء استعمال فكرة الموت أحيانا لدفع البشر لفعل أمور لا يريدونها، فإنها قد تساعدنا أيضًا على تصحيح نزعتنا لأن نعيش الحياة كما لو كنا خالدين فيها أبدًا، مسوّفين ومؤجلين للأبد التزاماتنا تجاه أنفسنا لصالح الأصول والمكانة الاجتماعية.إذا كان من شأن تأمل موتنا أن يرشدنا وينوّرنا، فربما نجد أيضًا بعض الراحة من قلق المكانة عند تأمل موت أشخاص آخرين، خاصة أولئك الذين جعلتنا إنجازاتهم في الحياة نشعر بأقصى درجات القصور والحسد. ومهما عانينا من النسيان والتجاهل، ومهما حظي آخرون بالسلطة والتبجيل، فإن مآلنا سوف ينتهي في آخر المطاف إلى المادة الأكثر ديمقراطية: التراب.

الحكيم، النبيل، العاهل، الملك، الفاتح، يُخضع الموت أولئك جميعًا. فلمَ كل هذا السعي والكدح لانتصارات ساعةٍ؟ مهما تمرغنا في الثراء، وحلقنا في سماء الشهرة، أعلى مقام على الأرض ينتهي إلى «يرقد هنا»: و«من التراب إلى التراب» تختم نشيدها الأنبل.
إدوارد يونج: خواطر الليل، 1742.