ما تزال الحرب المستعرة بين الإنسان والمرض تدور على قدمٍ وساق، وكلما تقدَّمت البشرية خطواتٍ نحو القضاء على بعض الأمراض المستعصية، فاجأتها أمراض أخرى من حيث تحتسب ولا تحتسب.

وكثيرًا ما صوَّب العلماء أنظارهم على أعماق أعماق الأنسجة الحية، بحثًا عن الجواب في ثناياها، مدفوعين بأملٍ حالم في أي يضعوا أيديهم على حل سحري يواجه كل ما يعاني منه جسم الإنسان. ولعل الخلايا الجذعية من أبرز أمثلة التطبيقات البحثية العلمية التي تحيط بها الآمال العريضة في فك العديد من الألغاز الطبية، وفي علاج عشرات الملايين من البشر الذين يعانون من الأمراض المزمنة والخبيثة، وفي تجديد الأنسجة التالفة، والأعضاء الحيوية المتضررة.

ما هي الخلايا الجذعية؟

الخلايا الجذعية أو stem cells، هي الخلايا الأم غير المتخصصة، والقادرة على إنتاج العديد من أنواع الخلايا الأكثر تخصصًا، لكي تقوم بمهام حيوية عديدة داخل أجسامنا. إذًا، فالخلايا الجذعية هي المادة الخام لأجسامنا، والتي أنشأتْهُ بعد التحام الحيوان المنوي للأب ببويضة الأم، وتكون الخلية الأولى التي ما لبثت أن انقسمت وتمايزت إلى الأنسجة والأعضاء المتنوعة المكونة لأجسامنا. وتحتوي أجسامنا الناضجة على الملايين من الخلايا الجذعية التي تقوم بتجديد ما يتلف من بعض الأنسجة كالجلد، وكخلايا الدم … إلخ.

وهناك خلايا جذعية كُلية القدرة، قادرة على التمايز إلى أي خلية في أجسامنا مهما كان موقعها ووظيفتها، وهي التي تُعرَف بالخلايا الجذعية الجنينية، لأنها موجود بالأساس في الأجنة، حيث النشأة الأولى لمختلف الأنسجة والأعضاء. بينما هنالك خلايا جذعية أكثر تخصصًا، وهي التي توجد في أجسام البالغين، مثل الخلايا الجذعية الأم لخلايا الدم، والموجودة في نخاع العظام، وتساهم في تجديد ما يتلف من كرات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية. ومثل تلك الخلايا الجذعية المتخصصة، غير قادرة على إنتاج كل أنواع الخلايا. وهناك خلايا جذعية قادرة على إنتاج نوع واحد فقط من الخلايا المتخصصة.

لكن عام 2006م، تمكن الباحثون لأول مرة من تحفيز بعض الخلايا الجذعية المتخصصة في البالغين، للحصول منها معمليًّا، عبر تعديل جيناتها، على خلايا جذعية أوسع قدرة على التمايز، تشبه الخلايا الجنينية، ثم تحفيزها لتنتج خلايا متخصصة بعينها. لكن حتى اللحظة، لم يتمكن العلماء من إنتاج خلايا مماثلة لقدرات الخلايا الجنينية بهذه التقنية، لكنهم يأملون في الوصول إلى ذلك خلال السنوات القادمة.

الخلايا الجذعية والطب 

منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين، تصاعدَ الحديث في الأروقة الطبية والعلمية عن الخلايا الجذعية والقدرات الكامنة فيها. وهناك بالفعل بعض التطبيقات الحالية لتلك التقنية تساهم في علاج الآلاف من المرضى، بينما تستمر الجهود البحثية على قدمٍ وساق من أجل المزيد.

لكن دعونا نكون صرحاء، فعلى أرض الواقع، ما تزال التطبيقات العَمَلية الحالية للخلايا الجذعية محدودة للغاية بالقياس إلى الآمال العريضة المنتظرة منها، والمقدار الهائل من البحث العلمي والطبي الذي يقوم به آلاف الباحثين حول العالم في كافة التخصصات المتصلة بالخلايا الجذعية.

التطبيقات الحالية على أرض الواقع

لعل الاستخدام الأبرز للخلايا الجذعية الآن هو زراعة نخاع العظام، والتي رغم تكلفتها الباهظة، وحاجتها لمراكز طبية حديثة، وعالية التقنية والجودة، فإنها أسهمت بشكل كبير في علاج العديد من أمراض الدم المزمنة المستعصية مثل فشل نخاع العظام، وسرطانات الخلايا الدموية كاللوكيميا والليمفوما، وبعض أمراض اختلال المناعة الوراثية.

يقوم الأطباء بتدمير بقايا نخاع العظام المريض بالأدوية الكيماوية، بينما المريض محجوزٌ في وحدة خاصة شديدة العزل ومتقنة التعقيم، فنخاع العظام هو الذي يُنتج خلايا المناعة، وبالتالي يصبح المريض عرضة للعدوى الشديدة بمختلف الميكروبات ريثما تتم العملية. بعد ذلك تُحقَن الخلايا الجذعية الجديدة المنتجة للخلايا الدموية، والتي تحتل نخاع العظام، وتبدأ في التكاثر بمرور الأسابيع لتنتج خلايا الدم السليمة، وبذلك يكتمل العلاج الجذري لأمراض الدم المذكورة. 

ويحصل المريض على تلك الخلايا الجذعية، إما من بعض الخلايا السليمة من جسمه، أو من متبرعٍ، لا سيما من الأقرباء، بعد إظهار الأبحاث لوجود تشابه جيني، حتى نتجنب واحدة من أخطر مضاعفات الزرع، وهي مهاجمة خلايا المناعة التي ينتجها النخاع الجديد لأجهزة الجسم باعتبارها غريبة عنه. وكلما تطورت تقنيات استخلاص الخلايا الجذعية، وضمان موافقتها لجسم المريض جينيًّا، وكذلك الرعاية الطبية الفائقة لمرضى الزرع، قبل وأثناء وبعد العملية، كلما قلت المضاعفات وعلى رأسها فشل نخاع العظام الجديد.

أما المجال الطبي الثاني الذي استفاد من الخلايا الجذعية، فهو الجلد. فبعض حالات الحروق الشديدة على سبيل المثال التي تتلف مساحات واسعة من الجلد، تحتاج في علاجها إلى ترقيع للجلد بأنسجة جلد سليمة، يصعب توفيرها من الأجزاء السليمة الباقية من الجسم، ولذا، تستخدم الخلايا الجذعية الآتية من تحت الجلد في استزراع مساحات من نسيج الجلد لترقيع الأماكن المصابة.

ومؤخرًا، حصل دواء إيطالي مبني على تقنية الخلايا الجذعية على الموافقة الأوروبية لعلاج بعض أنواع تضرر قرنية العين، حيث تقوم الخلايا الجذعية بإعادة بنائها، بدلًا من الاضطرار إلى عملية زرع القرنية.

تطبيقات المستقبل

يأمل العلماء في إتمام الأبحاث من أجل تطبيقات أخرى للخلايا الجذعية تحدث ثورة كبرى في المجالات الطبية. من أبرز تلك التطبيقات، زراعة الأعضاء. حيث يأمل العلماء في القدرة على توجيه الخلايا الجذعية لإنتاج أعضاء كاملة كالقلب والكلى والكبد … إلخ، وذلك لتعويض النقص في الأعضاء الطبيعية المتوفرة للزرع، مما سيساهم في إنقاذ الآلاف من مرضى الفشل المزمن للأعضاء الحيوية والذين يفقدون أرواحهم، بينما لا تزال أسماؤهم في قوائم الزرع.

كذلك يأمل العلماء في استخدام الخلايا الجذعية في تعويض بعض الأعضاء الحيوية المتضررة والتي لا تتجدد تلقائيًّا في الجسم، مثل أنسجة القلب الذي تعرض لجلطة في شرايينه مما أدى إلى تليفها، ومعاناة المريض من ضعف عضلة القلب، وأعراض فشل وظيفة القلب.

كذلك يريد العلماء استخدام الخلايا الجذعية في أبحاث الدواء، وذلك بإنتاج أعضاء بشرية، يُدرَس عليها تأثير الأدوية وآثارها الجانبية، بدلًا من الاحتياج لمتطوعين من البشر، واحتمال تعرضهم للخطر.

تحديات الخلايا الجذعية 

هناك العديد من التحديات التي تواجه الخلايا الجذعية، وتسببت في تقليل عدد ومساحة التطبيقات الواقعية لها في الطب. هناك بعض المسائل الأخلاقية الخلافية خاصة ما يتعلق باستغلال الخلايا الجذعية الجنينية من أجنة بشرية، أو من السائل الأمنيوسي المحيط بالأجنة.

على جانب آخر، ما نزال بحاجة للعديد من الدراسات لبحث الآثار والمضاعفات طويلة المدى لتطبيقات الخلايا الجذعية، قبل التوسع في استخدامها على الآلاف من المرضى. وهذا من أسباب تأخر موافقة الجهات المسؤولة المرموقة على العديد من تلك التطبيقات انتظارًا لحسم كافة المسائل المتعلقة بسلامة المرضى.

كذلك يؤدي التعقيد الشديد لبعض الأمراض المزمنة، واختلاف دقائقها من مريضٍ لآخر، إلى الصعوبة في تعميم تقنية ما من الخلايا الجذعية على عدد كبير من المرضى. ويرفع أيضًا من التكلفة المادية الكبيرة لتلك التقنيات.

وهناك تحدٍّ خاص يواجه الخلايا الجذعية في دول العالم النامية، وهو حاجتها لمراكز بحثية وطبية عالية الجودة، مزودة بأحدث الأجهزة والتقنيات، مما يرفع التكلفة كثيرًا، ويجعل من الصعوبة بمكان توفيرها إلا لقطاعٍ محدود من المرضى القادرين، أو من يمتلكون أغطية تأمينية كبيرة.

الخلايا الجذعية من أبرز مجالات البحث العلمي الطبي وتطبيقاته، ولم تنفد عجائبُها بعد، لكنها ما تزال بحاجةٍ للكثير من الوقت والموارد والجهود البحثية وكذلك النقاشات الأخلاقية. وليس من الصواب الظن أنها قد تعالج كل شيء، فعالم الأمراض والشيخوخة شديد التعقيد، وكل آلية متميزة فيه، إلى التعامل معها علاجيًّا بشكلٍ فريدٍ يتلاءم مع خصائصها.