مثل نجوم موسيقى الروك؛ وصل السيد بانون المؤتمر الإيطالي بين حشود ضخمة من المصورين المتصارعين، ومع ضباط الشرطة وحراس الأمن الخاصين وحراسه الشخصيين الذين قادوا الطريق؛ خاض بانون طريقه إلى موقع المؤتمر حاملًا علبة معدنية من مشروب ريد بول.

ومع بلوغ درجات الحرارة في فترة ما بعد الظهيرة لمستويات عالية؛ جلس السيد بانون وميلوني في كراسي جلدية بيضاء وتحدثا حول الحكومة الائتلافية الإيطالية ونفورهما المشترك من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

يقول بانون متحدثًا للجماهير: أنتم العمود الفقري للمجتمع، النخب العلمية والإدارية والهندسية والمالية والثقافية تكرهكم وتكره كل ما تمثلونه، ولن يوقفهم شيء، حتى يتمكنوا من استهداف وتدمير قادتكم السياسيين، وملاحقتكم شخصيًا من بعدهم.

ثم تصفيق كبير..

وقف السيد بانون، وأخذ رشفة من قهوة الإسبريسو، وشُكلّت الفقاعة الأمنية من حوله مرة أخرى عندما شق طريقه عبر فناء مكتظ إلى المسرح الرئيسي لمقابلة المراسلين الصحفيين، حيث ارتدى الناس القمصان التي تقول «الناس لا النخب». وقاد رجال الشرطة وحراس الأمن بانون وطاقمه عائدين إلى السيارة المرسيدس المنتظرة التي لا تزال محاطة بالكاميرات.

في صباح اليوم التالي؛ يتوجه الوفد المرافق للبانون إلى المطار، وعلى الجدول الزمني: طائرة خاصة إلى براغ للاجتماعات، ثم إلى بودابست لعقد اجتماعات على العشاء.

كيفن سوليفان، واشنطن بوست، 26 سبتمبر/أيلول 2018

كانت زيارات «ستيفن بانون» كبير الاستراتيجيين الأسبق في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتكررة إلى أوروبا، وجولته في عدة عواصم هناك مطلع عام 2018 الذي يقترب الآن من نهايته، بحسب الصحفية الفرنسية Natalie Nougayrède كاتبة العمود بصحيفة الجارديان البريطانية، بمثابة مهمة غير معلنة من أجل نشر إنجيل الثورة اليمينية الشعبوية في أرجاء أوروبا.

بحسب الكاتبة الفرنسية لم يضع بانون عينه على أوروبا لتعويض قطيعته عن ترامب وابتعاده عن دائرة صنع القرار في واشنطن، حيث ترى ذلك الاهتمام العابر للأطلسي كجزء أصيل من صراع سياسي غربي وعالمي متصاعد في السنوات الأخيرة بين القوميين الشعبويين – المتحالفين مع اليمين المسيحي الأمريكي – وبين الليبراليين المناصرين للعولمة.

فمن هو ستيف بانون؟ وكيف تحول إلى أبرز منظري اليمين الشعبوي في الغرب؟ وما هي أبرز أفكار ذلك التيار الذي انعكس صعوده السياسي البالغ في السنوات الأخيرة في فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية، وفي التصويت لصالح اتفاقية البريكست في المملكة المتحدة، وفي وصول أحزاب اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في النمسا وإيطاليا، وصعودهم السياسي البارز في الانتخابات التشريعية في مختلف أرجاء القارة الأوروبية؟


بانون: مُنَظّر الثورة الشعبوية حول العالم

ولد ستيفن بانون من أبوين من الطبقة العاملة ذوي أصول أيرلندية كاثوليكية في الـ 27 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1953 في مدينة «نورفولك» فيرجينيا التي تحوي أكبر قاعدة عسكرية بحرية في العالم.

حصل بانون على شهادة التخرج في مجال التخطيط العمراني من جامعة فيرجينيا للتقنية في عام 1976، وحصل لاحقًا على شهادتي ماجستير في مجال دراسات الأمن القومي وإدارة الأعمال، من جامعتي جورج تاون وهارفارد، وذلك بعد انتهاء خدمته في البحرية الأمريكية في فترة أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي.

على الرغم من عدائه الشديد والمعلن للمصرفيين والمصارف في الولايات المتحدة في خطابه السياسي، كون بانون ثروته بشكل أساسي من خلال العمل كمستثمر مصرفي مع «جولدمان ساكس» أحد أهم وأشهر المؤسسات المصرفية الأمريكية والعالمية.

وعبر تراكم الثروة الذي جناه من العمل المصرفي استطاع بانون اختراق مجال الإنتاج التلفزيوني والترفيهي في الولايات المتحدة، وكان من أبرز أعماله في هذا الإطار هو مشاركته في إنتاج المسلسل التلفزيوني الشهير «ساينفيلد». ثم دخل إلى عالم الإنتاج السينمائي في هوليوود، لكنه مني بفشل ذريع، وقام بعد ذلك بالمشاركة في إنتاج عدد من الأفلام الوثائقية التي روجت لفكر اليمين المتطرف.

قبل توليه منصب رئيس الموظفين التنفيذيين في الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب عمل بانون كمدير تنفيذي لشبكة بريتبارت الإخبارية المحسوبة على اليمين العنصري المتطرف، والذي يختلف عن اليمين المحافظ التقليدي في عدائه الشديد للمهاجرين، وعنصرية جماهيره وإيمانها المعلن بتفوق وسيادة العرق البيض، وعدائه الشديد لمؤسسة الحكم في الولايات المتحدة.

بعد إقالته من منصبه ككبير للاستراتجيين في البيت الأبيض؛ تفرغ بانون للتنظير والنشاط السياسي وللترويج للفكر الشعبوي ليس في الولايات المتحدة وحسب، بل في أوروبا وحول العالم كذلك، على نحو ثوري يسعى من خلاله بانون إلى أن يشغل موقعًا مشابهًا في تنظيره للحركة السياسية الشعبوية بالمكانة الرائدة التي احتلها الإيطالي الراحل «أنطونيو جرامشي» في التنظير للحركة الماركسية حول العالم.

وللمفارقة؛ اتخذ بانون من إيطاليا نفسها، وتحديدًا من دير قديم يعود للقرن الثالث عشر يقع على بعد 130 كيلومترًا من روما، مقرًّا لمنتدى فكري دائم، تثور مخاوف من أن ثمة مشروعًا يمينيًّا كبيرًا يدبر من هناك، لا يستهدف القارة الأوروبية فحسب، بل كذلك على نطاقات أوسع، كما رأينا في الصعود السياسي الكاسح لليمين المتطرف في البرازيل والهند على سبيل المثال.

بدأ هذا التحالف الدولي في التشكل على أرض الواقع بصورة متماسكة في المؤتمر الأخير الذي عقده قادة أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي في براغ في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، وتحيط علاقة تلك الحركات اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة الشكوك حول علاقاتها مع إدارة بوتين، التي يدور حول تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة العديد من علامات الاستفهام.

خلال مشاركة بانون في شهر سبتمبر/أيلول الماضي خلال المهرجان السنوي لحزب «إخوان إيطاليا»، الوريث الشرعي للفاشية الإيطالية التاريخية، قال الأخير: «إذا نجحت الثورة هنا، يمكن أن تتحوّل إيطاليا إلى مركز السياسة العالمية».

اعتبر بانون في سياق حديثه إلى الإيطاليين الشعبويين الذين استقبلوه هناك كما يستقبل النجوم والمشاهير، بأن إيطاليا هي المكان المثالي، والانتخابات الأوروبية المقبلة هي الوقت المناسب بل الأنسب لتفعيل المشروع الذي تنصهر فيه الأحزاب اليمينية والشعوبية مع القوى والحركات الدينية المتطرفة، وأكد أن أوروبا اليوم جاهزة لحدوث الزلزال الكبير الذي سيغيّر المشهد السياسي.

اعتبر بانون أن الغريم الأول لهذا المشروع الشعبوي هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حامل لواء الليبرالية الأوروبية، الذي حذر من اندلاع حرب سياسية أهلية داخل الاتحاد الأوروبي، والذي اندلعت ضده مؤخرًا كما رأينا جميعًا احتجاجات «السترات الصفر» الهائلة والكاسحة بتحريض واضح ومشاركة واسعة من التيار اليميني الشعبوي الفرنسي.


أيديولوجيا اليمين الشعبوي

بحسب ستيف بانون، ستكون الأيديولوجيا الشعبوية هي الاتجاه السائد في السنوات القادمة، كما يرى بانون أن التغيير الحقيقي يحدث وسيحدث في جميع أنحاء العالم في مواجهة المستفيدين من سياسات العولمة، الذين يسميهم بانون بـ «حزب دافوس» نسبة للمنظمين والحاضرين السنويين في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعقد في دافوس بسويسرا كل عام.

واليمين الشعبوي هو اتجاه سياسي يقوم على خلاف اليمين التقليدي المحافظ، بتبني خطاب يقوم على معاداة المؤسسة السياسية الحاكمة والطبقات المهيمنة في المجتمع، ويرتكز على قيم تبجيل الشعب وطبقاته الأدنى بصفته كيانًا معنويًّا شبه مقدس. ويتبنى ذلك التيار في الوقت الحاضر سياسات اقتصادية حمائية معادية لحرية التجارة الدولية، وللهجرة، بسبب تضرر الطبقة العاملة البيضاء في المجتمع الأوروبي والأمريكي من انتقال الوظائف والصناعات إلى الخارج، ومن تنافس العمالة الرخيصة من المهاجرين معهم على الوظائف.

ترجع جذور نشأة «الشعبوية» إلى الفترة الواقعة بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، وتحديدًا في روسيا القيصرية والولايات المتحدة، وكانت تُطلق وقتذاك على حركات المزارعين اليسارية التي سعت لتحرير الفلاحين الروس، المتزامنة في الوقت ذاته مع احتجاجات العمال والمزارعين في أمريكا ضد البنوك وشركات السكك الحديدية، ولكن تحررت الشعبوية بعد ذلك من ارتباطها بالحركات اليسارية في أواسط القرن العشرين، ولاسيما في أمريكا اللاتينية.

في كتابه «ما الشعبوية؟» ينظر الباحث الألماني يان فيرنر مولر إلى الشعبوية كنقيض للديمقراطية، حيث تحوّل نقد النظام الديمقراطي في الوقت الحاضر إلى ممارسة شعبوية بارزة في الحياة السياسية في العديد من بلدان العالم. ورغم اعتباره الشعبوية بالضرورة ديمقراطية راديكالية على المستوى النظري، فإن مولر يعتقد أن الشعبوية تقف في صميمها على النقيض من الديمقراطية.

يعتقد مولر أنَّ أهمَّ ما في الشعبويّة هو عداؤها للتعددية وزعمها أنَّها هي وحدها التي تمثل الشعب على الحقيقة، حيث يصور الشعبويين حين يخوضون الانتخابات منافسيهم على أنَّهم نخبة فاسدة، وحين يصلون إلى الحكم يرفضون الاعتراف بشرعية المعارضة التي تواجههم، ولذلك تتحول الشعبوية في تقسيمها الشعب على هذا النحو إلى شكل من أشكال سياسات الهويّة، ومن هنا يأتي مصدر خطورتها الكامنة على فكرة الديموقراطية.