تتشابه الفلسفة الرواقية في كثير من نصوصها وأفكارها مع الأديان السماوية، حتى أن بعض الدراسات تتبعت أثر الأفكار الرواقية في المسيحية والإسلام، في توجيه الإنسان إلى ضرورة البعد عن أهوائه إذا أراد العيش سعيدًا، واعتبار الخير هو الشيء النافع لصاحبه تحت كل الظروف.

وأيضًا نجد ذلك الاتفاق في رؤيتها للإله، فالمدرسة الرواقية التي أسسها زينون في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد؛ اعتبرت تعدد الآلهة المتعارف عليه وقتها مجرد مظاهر مختلفة لإله واحد.

قبل أن تحكم على تلك الفلسفة بأنها رؤية طوباوية للعالم، عليك أن تعرف أن الرواقي يسعى كجميع البشر إلى مباهج الحياة من ثروة وصحة ومجد، وبالطبع لا يفضل آلامها من فقر ومرض؛ فقط هو يحاول فعل ذلك بطريقته الخاصة، التي يرى فيها تناغمًا مع الحياة.

يمكننا اعتبار الرواقية «فن ركوب أمواج الحياة لا الغرق فيها»، لكنها تختلف عن الأديان في أنها بنت الأرض وتجارب البشر وصراعهم مع الحياة، تستخلص «الحكمة» من اضطراب اليوميّ وتناقضاته، ليست تعاليم أو فروضًا منزلة من العالم الآخر.. كما أن فلاسفتها بشرًا عاديين لم تتحقق لهم أي معجزات أو كرامات.

تظهر تلك الفكرة بشكل واضح عند النظر إلى اثنين من أكبر فلاسفة الرواقية: «إبكتيتوس» و«ماركوس»، الأول عبد استخلص فلسفته من معاناته مع الحياة وتجاوزات سيده، والثاني إمبراطور دوَّن تأملاته في أروقة الحكم.. منظورين مختلفين للحياة صُهرا في فلسفة واحدة تحتفي بقيمة الفرد أيًا كان موقعه في الحياة، في تطبيق عملي لأهم السمات المميزة لتلك الفلسفة إذ تعتبر «كل الناس مظاهر لروح عالمية واحدة».

إبكتيتوس: العبد «المحصَّن بالفلسفة»

قرر شخص يدعى «إبافروديت» ذات يوم أن يمارس دوره كسيدٍ على عبده لتسلية نفسه، فلوى ساقه بآلة للتعذيب، وما كان من العبد المعذّب إلا أن قال له: «ستكسر رجلي»، تمادى السيد في فعله الغريب.. والعبد لا يزال صابرًا حتى كسر ساقه بالفعل، ليقول لسيده في النهاية: «ألم أقل لك ستكسر ساقي؟».

ربما كان ذلك موقفًا متكررًا في حياة «إبكتيتوس» ذلك العبد الذي كسرت ساقه، وأصبح بعد ذلك يعيش حياته بصحبة العرَج.. وبقدر ما يطرحه ذلك الموقف من تساؤلات عن رد فعله، فإنه يثير الفضول للتعرف على العبد الذي صار من كبار الفلاسفة الرواقيين فيما بعد، ويكشف أيضًا جانبًا مهمًا من رؤيته للحياة، إذ كانت العبودية قدَره الذي قرر مواجهته والصبر عليه بثبات وهدوء.

بين «الانطباع» و«القضية»، يكمن دور الفلسفة الرواقية؛ معتمدة على موقف عقلاني حذر من كل الانطباعات والمظاهر التي بتصديقها يتبنى الإنسان موقفًا وحكمًا معينًا كما علّم زينون تلاميذه في رواق أثينا المزخرف.. لذلك قبل أن نقع أسرى لانطباعنا عن إبكتيتوس كـ«عبد مستسلم» علينا معرفة القصة من البداية.

لحسن الحظ سجل لنا آريانوس؛ تلميذ إبكتيتوس، خطبه وأحاديثه في كتاب «المحادثات» الذي لم يتبقَ منه سوى أربعة أبواب من ضمن ثمانية.

أعاد آريانوس صياغة أجزاء من «المحادثات» بشكل محكم ليقدم لنا «المختصر» في قالب أقصر، والذي تضمّن شذرات من الأبواب الأربعة المفقودة، لذلك فإن «المختصر» من ترجمة ودراسة دكتور عادل مصطفى، كان الباب للتعرف على إبكتيتوس وفلسفته.

لم تخل فلسفة إبكتيتوس، المولود في عام 50م، من ظلال عبوديته، حتى اسمه كلمة يونانية تعني «الشخص المقتَنى»، فقد عاش الـ15 عامًا الأولى من حياته مع أمه العبدة في آسيا الصغرى، حتى اشتراه سيده، سكرتير نيرون بثمن زهيد وأخذه إلى روما.

«يظن كثيرون أنَّ الحُرَّ فقط هو من ينبغي أن يتعلم، بينما يرى الفلاسفة أن المتعلم فقط هو الحر» بهذه الطريقة بحث إبكتيتوس عن حريته لكن بشكل مختلف فهو الذي يُعرّف نفسه بأنه «مُحصَّن بالفلسفة»، بحث عن الحرية حتى من جسده الهزيل وساقه العرجاء باعتباره مجرد جثة: «أنت روحٌ ضئيلةٌ تضطرب هنا وهناك حاملة جُثَّة».

الفلسفة باعتبارها «مواجهة»

إذا كنت لا تزال مستنكرًا فكرة أن يكون العبد فيلسوفًا، فإن سؤال إبكتيتوس عن طبيعة الفلسفة مُوجَّه إلينا جميعًا باختلاف مواقعنا وأدوارنا في الحياة: «ما هي الفلسفة؟ أليست تعني الاستعداد لمواجهة الأمور التي تُلِم بنا؟».

بينما كان الإمبراطور نيرون مشغولًا بنزواته وهواياته مهملًا الحكم، كان القدر وحده يتكفل بتوفير حرية إبكتيتوس، فبعد انتحار نيرون، أتاح إبافروديت حرية التنقل في روما لعبده، الذي عرفه طريقة إلى مدارس الرواقيين، ليتتلمذ على يد ميزونيوس روفوس، وهو واحد من كبار فلاسفة روما.

وللمفارقة فقد اكتسب «إبكتيتوس» حريته بشكل كامل، في نفس الوقت الذي حمل فيه صفة فيلسوف، ولم تخذله الفلسفة باعتبارها وسيلته الوحيدة لمواجهة الحياة بشكل عام وعبوديته على وجه التحديد.

حياته كانت صورة طبق الأصل من فلسفته الرواقية، يطبق بكل صدق ما نادى به، لذلك يعد «إبكتيتوس» محطة مهمة في التعرف على الرواقية كمذهب فلسفي ورؤية متكاملة للحياة.

الفلسفة هنا بالتعريف الرواقي ليست تعليمات نظرية أو رؤية حالمة للحياة، نقطة تنطلق من الواقع بكل آلامه وتتُوق عنان السماء كـ«استجابة لحاجة عملية لا لترف نظري».. فالساق المكسورة لصاحب «المحادثات» ظلت ملامسة للأرض، وعقله رغم تحرره؛ حافظ على واقعيته.

تضمن الكتاب بعض اقتباسات من «المحادثات»، كان أكثرها إلهامًا وتعبيرًا عن الرؤية الرواقية ذلك الجزء الذي يتصور فيه إبكتيتوس رسالة من الآلهة على النحو التالي: «لو كان بالإمكان لكنت جعلت جسدك الضئيل حُرًّا لا يعوقه عائق، وكذلك ثروتك الضئيلة.. ولكن أَفِقْ، فهذا الجسد ليس خاصتك.. إنَّه مجرد صلصال سوَّيته بعناية، ولمَّا تعذَّر أن أَهَبَك ذلك فقد منحتك شيئًا من نفسي: ملَكة الاختيار بين البدائل، الطلب والإعراض، الرغبة والنفور… فإذا استطعت أن تحفظ هذه العطية وتجعل ملكك محصورًا فيها مقصورًا عليها، فلن تعرف القيد أبدًا ولا العوائق، ولن تئنَّ ولن تشكو، ولن تتملق أحدًا، كيف تستهين بكل هذه المزايا؟!».

لم يتخلّ إبكتيتوس يومًا عن حرية عقله، وحمل شاهد قبره جملة: «عبد.. أعرج.. مُعوِز.. ولكنْ عزيز لدى الآلهة»، ليكمل الطريق من بعده شخص آخر، لكن هذه المرة كان الفيلسوف الرواقي إمبراطورًا!

ماركوس: «إمبراطور الرواقية»

على النقيض تمامًا من حياة إبكتيتوس بين الفقر والعبودية؛ ولد ماركوس عام 121م في أسرة نبيلة، أبوه قاضيًا كبيرًا، وجدّه الذي رباه بعد وفاة والده، كان قنصلًا مرموقًا في روما.

عاش ماركوس في قصور روما لكن في الأدوار العليا منها على عكس «إبكتيتوس»، فبعد وفاة جده تبناه زوج عمته الإمبراطور الروماني الخامس أنطونينوس بيوس، الذي زوجه ابنته «فاوستينا»، و بعد وفاته ورث العرش في عام 161 م.

احذر أن تقع مرة أخرى أسيرًا لانطباعك، وتسرف في تخيلك للحياة المخملية التي يعيشها ماركوس، أو أن تظن أن هدوء الحياة واستقرار الحكم هو ما قاده للفلسفة؛ فقد كانت الإمبراطورية في وقته مشحونة بالفتن والأزمات، فضلًا عن التهديدات بالغزو، حيث قاد الجيش بنفسه في مواجهة خطر القبائل الجرمانية، بالتزامن مع إرسال من يخمد ثورة بلاد فارس، وهي التحديات التي انتصر عليها.

لم تقتصر تحديات ماركوس في الحكم على المواجهات العسكرية فقط، إذ تفشى مرض الطاعون خلال فترة حكمه بسبب عدوى الجنود العائدين من القتال، فضلًا عن الفيضانات التي أثرت على المحاصيل الزراعية وتسببت في مجاعة، حتى أنه اضطر لبيع الجواهر الملكية لسداد رواتب جنوده..

ولكن متى تفرغ للفلسفة وسط كل ذلك؟!

يقدم كتاب «التأملات»، ترجمة دكتور عادل مصطفى، رؤية ماركوس كفيلسوف رواقي في 12 فصلًا، في صيغة خواطر كتبها بين عامي 166م و174م في بعض أوقات الفراغ التي تتخلّل الحملات العسكرية.

 وسط المعارك، لم يتخلَّ الإمبراطور عن شغفه بالفلسفة إذ كان يعتبرها مرشده في الحياة.. أثناء قراءة «تأملات ماركوس» تتخيل أن إمبراطورًا أهدى لك «مفكرته الشخصية».. ما يُقوِّى تلك الفكرة أنها لم تكن مُعدَّة للنشر أصلًا، هي أشبه بمناجاة للنفس أهداها «إلى نفسه»، سطور مركزة من الحكمة استخلصها من رحلته في الحياة والحكم.

اعتراف بفضل إبكتيتوس

الفصل الأول من الكتاب يمثل عتبة مهمة للتعرف على رؤية ماركوس الفلسفية، فالحكمة وجوهرها بالنسبة له تنتج من التفاعل مع الناس، في المحاورات وتفاعل الأفكار على أرض الواقع، ويستنتج من كل ذلك فهمه للحياة واستخلاص حكمتها.

وباعتبار أن البشر جزء أساسي من فهم ماركوس للعالم فقد أبرز في تأملاته كل من أسهموا في تكوينه وبناء شخصيته.. وكان إبكتيتوس من أعظم الفلاسفة تأثيرًا في تفكيره، إذ اقتبس منه الكثير من الأفكار في «التأملات»، حتى أنه خصص شكرًا لـ«رستيكوس» أحد أساتذته من السياسين الرواقين في روما الذي كان سببًا في تحوله إلى دراسة الفلسفة: «إنني لَمَدِينٌ له بتعرُّفي على مُذكرات إبكتيتوس التي تَفضَّل عليَّ بنسخته الخاصة منها».

تعريف الإمبراطور للفلسفة

اقترب مفهوم ماركوس كثيرًا للفلسفة كـ«مواجهة» للحياة وتقلباتها واعتبرها «ملاذًا» يحتمي به حيث يقول في تأملاته: «لتكن الفلسفةُ لك ملاذًا دائمًا ومُستراحًا وموئلًا، حتى تجعل القصر يبدو مُحتملًا لك، وحتى تبدو أنت مُحتمَلًا في القصر».

بهذه الطريقة حقق الحلم الأفلاطوني في أن يكون الإمبراطور فيلسوفًا لكن من دون الوقوع في فخ يوتيوبيا متخيَّلة أو التفريط في واجبات المُلك والقيادة العسكرية.

وكما استطاع إبكتيتوس تجاوز أغلال العبودية بالفلسفة، قدَّم ماركوس نموذجًا نادرًا أو ربما لم يحدث قط، في التوفيق بين مسؤولياته كحاكم ومهامه كفيلسوف.. وكان ذلك وقتها أشبه بنفق صغير لتعبر منه «الفضيلة»- جوهر الرواقية- إلى قصور الحكم، وحجز للفلسفة مكانًا وسط المكائد والحروب.

كما يشرح المترجم في تعليقه على التأملات، أضاف ماركوس بُعدًا آخر للرواقية فيما يخصُّ الواجب الاجتماعي والسياسي، وانعكس ذلك على حكمه في تحقيق العدالة وصك قوانين لحماية الضعفاء والتخفيف عن العبيد، فضلًا عن رعاية الأطفال الضعفاء والأيتام وتعليمهم.

وأيضًا خالف الرواقيين القدامى مشككًا في وجود المعرفة اليقينية، واعتمد برأي منتقديهم بأن «الحكيم الذي يملك المعرفة اليقينية لا وجود له»، كما أنه أضاف فكرة «التدرج الأخلاقي» رافضًا وضع الآثام كلها في مرتبة واحدة، عكس سابقيه الذين اعتبروا الفضيلة أو الرذيلة «كلٌّ لا يتجزأ».

خلال إحدى حملاته العسكرية؛ أصيب ماركوس بمرض خطير، لتنتهي حياته بين جنوده في عام 180م، واعتبر المؤرخ والكاتب الفرنسي إرنست رينان وفاته «يومًا مشؤومًا على الفلسفة وعلى المدنية».

كان ماركوس آخر الفلاسفة الرواقيين الكبار، واستمرت مدارس الرواقية منتشرة في روما، إلى أن أمر الإمبراطور جستينيان الأول بإغلاقها في عام 529م باعتبارها مخالفة للمسيحية.

فلسفة كل العصور

تمامًا كما تجاوزت الرواقية الطبقات الاجتماعية بين العبد والإمبراطور في روما؛ فإنها لم تعرف حدود الزمن وحملت في أفكارها وتعاليمها ما يظل قادرًا على إلهام الإنسان باختلاف العصر الذي يعيش فيه، ليجد فيها ما يساعده على مواجهة الصعوبات اليومية.

لعل أكبر دليل على ذلك، المنتدى الذي نظمه عدد من الباحثين الفرنسيين في عام 2012 عرف بـ«الرواقية الحديثة»، كما دشّنوا موقعًا إلكترونيًا Stoicism Today يستعرض الفوائد النفسية للرواقية.

 ونجد الأفكار التي صاغها إبكتيتوس وماركوس لمواجهة معاناتهم الشخصية هي المحور الأهم في مدرسة العلاج المعرفي السلوكي، أحد أشهر مدارس العلاج النفسي اليوم؛ والتي تهدف إلى إصلاح التشوهات المعرفية والسلوكية لتطوير استراتيجيات مواجهة الفرد لمشكلاته ومن ثم حلها، وبذلك تكون انعكاسًا للأفكار الرواقية التي ترى المعاناة ناتجة عن فكرتنا وحكمنا على الأشياء وليست الأشياء نفسها، وركزت رؤيتها على استجابتنا الداخلية لما حولنا كونها الشيء الوحيد القادرين على التحكم به.