محتوى مترجم
المصدر
Open Democracy
التاريخ
2019/03/06
الكاتب
ايكاترينا نيروزنيكوفا

يُشكل الروس أكبر الأقليات العرقية في جمهورية الشيشان، مع أنهم لا يمثلون أكثر من 2% من سكان البلاد، حسب تعداد أُجري عام 2010. حيث إن رمضان قديروف، رئيس الشيشان، يدِّعي أن بلاده هي «نموذج للسلام والتناغم بين الأعراق والأديان»، لكن ما الحقيقة الكامنة وراء الصورة الوردية التي يقدمها الإعلامان الشيشاني والاتحادي الروسي؟

لقد قضيت مؤخرًا ستة أشهر في الشيشان، وتواصلت عن قرب مع كل من الشيشان والروس. إنهم يطلقون وصف «روسي» هنا على كل من يدعو نفسه كذلك، وقد يكون قوزاقيًّا أو أوكرانيًّا أو أرمنيًّا، لكن ما يجمع هؤلاء أيضًا هو الهوية الدينية؛ فكلهم يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.


الصليب المُخلِّص

تقول إحصاءات رسمية إنه في عام 1979، كان أكثر من 30% من سكان جمهورية الشيشان السوفيتية من الروس، وبحلول عام 1989 تراجعت هذه النسبة إلى 25%، لكن في 2002 هوت نسبة السكان الروس في الشيشان إلى أقل من 4%، وبحلول عام 2010 كانت الشيشان أسرع جمهوريات شمال القوقاز فقدانًا للسكان الروس، لتتحول عمليًّا إلى دولة أحادية العرق ضمن الاتحاد الروسي.

تحدثت تقارير عن تطهير عرقي وقع في عهد الرئيس جوهر دوداييف (1991–1996). وخلال سنوات التسعينيات الأولى بدأ السكان من غير الشيشان نزوحًا جماعيًّا من البلاد، أما من اختاروا البقاء فحوصروا بين سندان المقاتلين الشيشانيين الاستقلاليين ومطرقة القوات المسلحة الروسية.

تكررت حوادث تهديد المتمردين للسكان الروس المحليين والشيشان على السواء، وتتذكر امرأة روسية لا تزال تعيش بالعاصمة جروزني كيف اعتادت سماع الناس يقولون: «لا يهمنا من أنتم. أنتم شيشانيين هنا».

تواجه أسرة ليوسيا موقفًا مشابهًا. تعيش ليوسيا (وهو ليس اسمها الحقيقي) مع شقيقها وأمها العجوز طريحة الفراش في منزل صغير متداع، وهي مضطرة للنهوض بمعظم الأعباء المنزلية والعناية بأمها، أما شقيقها فيقضي معظم الوقت في عزلته منهمكًا بالقراءة، وقد استطعت التحدث معه مرة واحدة فقط، وأراني بعض الرموز الماسونية التي وجدها مرسومة في مخططات قديمة للمدينة.

كان شقيق ليوسيا شخصًا طبيعيًّا قبل الحرب مع روسيا، لكن شيئًا ما حدث وبدله إلى الأبد. كانت القوات الروسية تستوقف وتجمع الرجال الملتحين في المدينة، لأنها كانت ترى إطلاق اللحية دليلًا على الانخراط في المجموعات المسلحة، وكان شقيق ليوسيا الملتحي واحدًا من الموقوفين، واتضح أنه نجا من الإعدام رميًا بالرصاص لسبب واحد فقط: الصليب الذي كان يعلقه في عنقه.

مع ذلك، ظل مضطرًّا للتوسل إلى الجنود الروس كي ينظروا إليه ويدركوا أنه «واحد منهم» ويجب ألا يقتلوه. والصليب لا ينقذ حياتك بالضرورة طوال الوقت، لكنه أفلح مع شقيق ليوسيا.


نهايات سعيدة

يصعب التأكد مما إذا كان المتمردون الشيشانيون أو السكان المحليون قد تحرشوا بالسكان الروس. ثمة حالات معروفة لمقاتلين كانوا يحضرون الدقيق والماء للنساء الروسيات كي يصنعن الخبز، ويشددن على أتباعهم بعدم التعرض لهن لأي سبب.

كانت آنا (وهذا ليس اسمها الحقيقي) تعيش في بيت قوزاقي قديم شبه متهدم ومفعم برائحة موت لا تستطيع آنا التخلص منها، رغم أنها تغسل كل شيء كثيرًا. أيام الحرب احتبست آنا بين أربعة جدران في البيت مع أمها الضريرة المنهكة، واحتل المقاتلون المتمردون جميع المنازل المحيطة.

ومثل الكثير من المدنيين، تلقت آنا زيارات المتمردين بحثًا عن الطعام والشراب. وذات يوم جلس واحد من زوارها بجانبها ووضع كفه على ركبتها. ارتعبت آنا ولم تستطع حراكًا، لكن الآخرين لاحظوا ما حدث وسرعان ما أخذوا رفيقهم وغادروا المنزل.

في اليوم التالي جاءها مقاتل لم تره من قبل وسألها إن كان أحد قد ضايقها، وبعدما قصت عليه ما جرى في اليوم السابق قال لها إنهم لن يعودوا إلى منزلها بعد ذلك، وبالفعل لم تر بعدها الزائر الوقح ثانية.

مثل هذه القصص خُتمت بنهايات سعيدة؛ فمن يقصونها في النهاية هم أشخاص نجوا من الحرب، لكننا لا نعرف ما جرى مع أولئك الذين لم تُكتب لهم النجاة. هناك روايات أخرى مؤسفة؛ روايات عن روس تعرضوا للسرقة والضرب والطرد خارج منازلهم، والخوف يلجم ألسنتهم عن رواية قصصهم. إنهم مهجوسون بفكرة أن يتعرف عليهم مقاتلون قدامى ويعودون للتحرش بهم.


من أجل «شعبنا»

عمل معظم الروس الذين عاشوا في جروزني قبل الحربين في المصانع، وكانوا يجدون صعوبة في العثور على عمل بأوقات السلم. الشيشان أيضًا لا يجدون عملًا بسهولة، لكن لديهم على الأقل شبكات القرابة العائلية التي تقدم لهم الدعم.

يعتمد العثور على عمل في الشيشان كليًّا على ممارسات فاسدة، فلا يمكنك الحصول على وظيفة ما لم تعرض رشوة مقدمًا على شخص ما يُوصي بتعيينك في المكان الذي يعمل به. ولا تنسحب هذه الممارسات على إلحاق المهنيين، مثل المعلمين والأطباء والمحامين، بوظائفهم فحسب، ففي الشيشان قد تضطر لدفع رشوة كي تحصل على وظيفة سائق سيارة إسعاف.

تلقي منظومة الشللية بظلها على كل شيء هنا؛ الصحة والتعليم والشرطة، والحكومة بالطبع. وتهيمن منظومات مماثلة على بلدان أخرى من جمهوريات شمال القوقاز مثل داغستان، لكن سيادة الأحادية العرقية في الشيشان تحجز معظم الوظائف للمواطنين الشيشان، الذين يتوسطون بدورهم لتوظيف أقربائهم وأصدقائهم الشيشان أيضًا.

وبعد الحرب، كان الروس الوحيدون الذين حصلوا على وظائف هم من ظلوا على علاقة جيدة بالشيشان أو ربطتهم صلات النسب والمصاهرة بهم.

انتقلت «لينا» للعيش في الشيشان منذ بضع سنوات، وكانت قبلها تعيش في دونباس بأوكرانيا، وحين اشتعلت الحرب حاولت الاستقرار في روسيا والحصول على جنسيتها. ارتحلت إلى ساراتوف، لكنها واجهت هناك ما واجهه معظم اللاجئين: لم يكن هنالك شيء لها، وانتهت كل محاولاتها للحصول على الجنسية الروسية إلى فشل.

تقول لينا: «صادفت رجلًا شيشانيًّا في قطار ونصحني بالذهاب إلى جروزني، حيث يغدو العثور على عمل والحصول على الجنسية الروسية أسهل. قال لي إن هناك حركة بناء نشطة ومشروعات تنموية كثيرة في المدينة، ولا بد أنني سأجد وظيفة ما. وفي ذلك الوقت لم يكن لديَّ ما أخسره، لذا ذهبت إلى هناك».

المشكلة أن الشيشان كانت، وقت أن حطت لينا رحالها هناك، غارقة في الفساد. قالت: «في البداية لم أجد أي عمل في أي مكان. شققت الطريق بصعوبة وامتهنت أعمالًا متواضعة مثل التنظيف وحتى التسول، لكن الناس كانوا متعاونين، وكان الشيشان يساعدونني أكثر حتى من الروس».

حاولت لينا الحصول على وظيفة عاملة نظافة في مشفى، لكنها وجدت نفسها مضطرة لدفع ثمانية آلاف روبل لقاء هذا الشرف، ولم تكن تتوفر على المبلغ. الجميع كانوا يدفعون بغض النظر عن أصلهم العرقي.

كانت لينا نشطة لحسن الحظ، ووجدت لنفسها غرفة في نزل تستأجرها بألف روبل شهريًّا. ولم يكن بالغرفة مطبخ أو حمام خاص بها، لكنها كانت غرفتها رغم كل شيء. وكان عليها أن تحصل على جواز سفر روسي سريعًا.

تقول لينا: «كان عليَّ التعامل مع جميع أنواع السلوكيات البشرية تجاهي؛ فأنا في النهاية امرأة روسية عزباء»، قالت الجملة الأخيرة مقهقهة. بعض الرجال أرادوها عشيقة لهم، لكنها أبت على نفسها.

«ومن ناحية أخرى كانوا يقولون لي: ارتدي الحجاب واعتنقي الإسلام وسنجد لك زوجًا. لكنني لم أستسغ ذلك أيضًا؛ لقد كنت أرثوذكسية دائمًا وهذا جزء من ثقافتنا الروسية»، قالت ذلك بتصميم، رغم أن اعتناق الإسلام في الشيشان اليوم يمكن أن يسهل حياتها إلى حد بعيد.


المقبرة

ثمة قرى كبيرة في الشيشان تعتبرها السلطات مستوطنات للقوزاق، وقد تمكنت من زيارة اثنتين منهما: شيلكوفسكايا وناورسكايا.

في سبتمبر/أيلول 2018، نظمت شيلكوفسكايا احتفالًا رسميًّا بتدشين كنيسة روسية أثوذكسية جديدة، ويقول الأهالي هناك إن الرئيس رمضان قديروف حضر بنفسه مع حاشيته على متن مروحيتين. زامن الاحتفال الذكرى 300 لتأسيس القرية، وتوافد إليه المؤمنون الأرثوذكس من أنحاء الشيشان والجمهوريات المجاورة.

دخلتُ القرية بعد شهر من افتتاح الكنيسة، وجدتها مغلقة ولا أحد على مقربة منها ما خلا حارس وقطة. أخبرني الحارس أن الكنيسة أُغلقت عقب احتفال الافتتاح مباشرة، ولم يكن هناك أثر لأي قس. أوقعني بحثي عن السكان القوزاق المحليين على أكثر الأماكن ازدحامًا بالأسماء الروسية: مقبرة القرية.

هناك، بجانب قبر جندي شاب، وجدت عائلة؛ أمه وأرملته وطفليه. وبصعوبة، حددوا لي أي المنازل في القرية كان يسكنها القوزاق، وقالوا لي إنهم، عمليًّا، وحدهم هنا. إن القوزاق الذين نجوا من الحرب الأولى في التسعينيات قد هجروا المنطقة، وحل مكانهم شيشان من بقاع نائية.

قالوا لي إن «المكان هنا ليس سيئًا. الأرض منبسطة تسهل زراعتها. الكثير من الشيشان استقروا هنا بعدما ارتحلوا وراء أسباب الرزق. وكان هناك الكثير من العمل في سنوات الرغد، لكنك الآن تقيم أودك بالكاد، لذا فقد رحل الشيشان المتعلمون أيضًا».

وتبدو ناورسكايا شبيهة بشيلكوفسكايا من وجوه عدة، باستثناء أن كنيستها أقدم عمرًا وأكبر حجمًا. يحيط بالكنيسة سياج عالٍ ينتهي في الخلفية عند مركز الشرطة المحلي. أوقفني ضباط شرطة على بوابة الكنيسة، وبعد حديث قصير طلبوا الاطلاع على بطاقة هويتي وتفتيش سيارتي. قالوا لي إن أي غريب يظهر هنا يغدو محل شبهات لأسباب أمنية.

يبدو المكان الآن كئيبًا؛ الأشجار تعرضت لإهمال طويل والطريق في حال مزرية، وقد انتُزعت بعض أحجار الرصف، ورُصت البقية كيفما اتفق بلا انتظام. معظم السكان المحليون هنا شيشان، أما الروس فمعظمهم عسكريون يقضون خدمة رسمية.


عندما كانوا صغارًا

لا يتردد الحديث بالشيشانية أبدًا في منزل «رمضان»، فأمه القادمة من جمهورية إنجوشيا المجاورة تتحدث الروسية، وشيشانية أبيه كذلك ليست على ما يرام. الوحيد الذي يتحدث الشيشانية بطلاقة هنا هو رمضان.

يخطو رمضان في ربيعه الحادي والعشرين، بعدما قضى سنوات طفولته الأولى في معسكر لاجئين بإنجوشيا. لا فكرة لديه عن جروزني العهد السوفيتي وكيف عاش الناس هناك، لكنه يعرف أي نوع من الناس يعيش هناك الآن.

حين يتحدث حديثو السن، خاصة الصبية، عادة ما ينتهي بهم الجدل إلى مناقشة مدى كون كل منهم شيشانيًّا صالحًا، وهنا تكمن مشكلة رمضان؛ تلك أن جدتيه لأمه وأبيه كلتيهما أوكرانيتان ومسيحيتان أرثوذكسيتان.

لا مشكلة لديه بخصوص هويته الخاصة؛ فكونه شيشانيًّا مسألة بديهية لا تقبل النقاش، لكنه لا يفهم لماذا يتعامل الشبان هنا مع الفتيات الروسيات بشكل غير لائق ويرونهن صيدًا سهلًا. لقد اعتاد الدفاع عن نساء غير شيشانيات أمام رفاقه الراغبين في مضاجعتهن، وإن كانوا غير قادرين على ذلك.

إحدى جدتي رمضان مدفونة في مقبرة جروزني المسيحية المركزية، على مقربة من مصنع تعليب. اصطحبني إلى هناك لزيارة قبرها. ذات مرة ذهب إليها مع صديق رفض تجاوز عتبة البوابة لأنه مسلم ولا يمكنه الدخول.

يعيش الناس في الشيشان اليوم وسط طوفان من الخرافات؛ وما تحريم الذهاب إلى مقبرة أرثوذكسية أو كنيسة إلا واحدة من هذه الخرافات. بالنسبة للشباب، تبدو الطقوس الدينية مثل مواكب الصلبان في عيد الفصح سخافات موروثة من القرون الوسطى. حتى جيل آبائهم ذاته قد هجر تلك العادات.