عادةً ما يظفر مؤلّف الكتاب بالمجد كله، وإن ذاع صيت الكتاب بين الناس فلا يتحدّث أحد إلا عن صاحبه. من دون أن يدري الجميع أن جيشًا حقيقيًا من المبدعين يجتهدون حتى يخرج الكتاب إلى النور في أحسن شكلٍ ممكن.

هؤلاء المبدعون من الناشرين والمدققين اللغويين والمخرجين الفنيين عادة ما تُكتب أسماؤهم بالحجم الصغير في الصفحة الثانية من الكتاب، تلك الصفحة التي لا يلتفت لها أحد في الغالب لكون الكتاب يبدأ عادةً من الصفحة الثالثة (صفحة العنوان).

في هذا التقرير نسلّط الضوء على مبدعي «الصفحة الثانية»، والتي تحمل لقبًا شهيرًا لا يعرفه إلا أبناء المهنة وهي «صفحة الترويسة».

يوسف ناصف: مصر الأقوى ثقافيًّا في العالم

في البداية، قال يوسف ناصف، مدير دار المصري للنشر والتوزيع، إن خطوات إصدار الكتاب تبدأ بعرضه على الدار ثم لجنة قراءة؛ لتقييمه ومعرفة إذا كان يصلح للنشر أم لا، مشيرًا إلى أن اللجنة إذا رأت أنه يستحق النشر، يتم توقيع العقد مع الكاتب، ثم تأتي مراحل التنفيذ، التي تبدأ بالمراجعة اللغوية بالتوازي مع تصميم الغلاف، ثم الإخراج الفني أو الداخلي للكتاب، ثم الطباعة، التي تليها مرحلة التسويق والبيع، عن طريق مسؤولي التوزيع وشبكات التواصل الاجتماعي أيضًا.

وأشار إلى وجود عدة معايير يتم على أساسها رفض أو قبول نشر الكتاب، منها «جودة العمل»، وقدرته على «المنافسة في السوق»؛ حتى يحقق مردودًا ماديًا مناسبًا، حيث إن «النشر في الأساس مشروع تجاري»، متابعًا: «وقد نرفض مثلًا الروايات المكتوبة بالعامية، التي لا تلقى رواجًا كبيرًا، وبخاصة في المعارض العربية؛ نظرًا لصعوبة فهم البعض للهجة المصرية».

وحول مدى تدخل الدار في تغيير مضمون العمل الأدبي، أوضح «ناصف»، في حديثه لـ«إضاءات»: «نادرًا ما نتدخل في رواية الكاتب؛ لأنها إبداع شخصي، وإن حدث يكون بنسبة ضئيلة جدًا»، مضيفًا: «على سبيل المثال، عند ذِكر تاريخ خطأ لحدث معين، تتم مراجعة ذلك مع المؤلف»، مستطردًا: «كما أن هناك بعض الروايات التي يجري لها تحرير أدبي وإعادة صياغة من قبل دار النشر، وذلك إذا كان العمل يستحق وسيحقق نسبة كبيرة من المبيعات في السوق».

ولفت إلى رواج الإصدارات المصرية في المعارض العربية، وخصوصًا في السعودية والإمارات وقطر، متابعًا: «على سبيل المثال، بعد سنوات من المقاطعة مع قطر، كان القطريون متشوقين للكتاب المصري، الذي لاقى إقبالًا كبيرًا بعد عودة العلاقات إلى سابق عهدها».

ونفى ناصف، في حديثه، أن يكون الإقبال ضعيفًا من قبل القارئ المصري، قائلًا: «مصر من أكبر 5 دول على مستوى العالم من حيث عدد ساعات القراءة»، مشددًا على أن القوة الشرائية في معرض القاهرة الدولي للكتاب تعد الأقوى بين معارض المنطقة العربية والشرق الأوسط.

ناشر فلسطيني: ننصر القضية بالروايات

وفي فلسطين، التي ظلت من دون دار نشر من عام 1975م وحتى عام 2011م، حتى وُلدت «دار الجندي»؛ لسد هذا الفراغ، كشف سمير الجندي، مدير دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، الكواليس التي تتم داخل دار النشر لخروج الكِتاب للنور، لـ«إضاءات»، قائلًا: «قبل طباعة أي عمل، نجري عملية تنقيح للمادة من حيث الجُمل المنسوخة، والصياغة الركيكة، وأيضًا الهدف من الفكرة والحبكة بالنسبة للرواية».

وأشار إلى أنه يتم رفض طباعة العمل إذا احتوى على العديد من الجُمل المنسوخة، سواء من محرك البحث «جوجل» أو مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصًا «فيسبوك»، موضحًا أن الدراسات العلمية تُطبع من دون مراجعة؛ حيث تكون بالفعل قد خضعت لتدقيق لغوي من قبل لجنة الإشراف في الجامعة.

وأضاف: «وإذا كان العمل يستحق النشر، يتم تحرير عقد بين المؤلف والدار، بموجبه يجري الاتفاق على خروج الكتاب للنور بعد نحو 60 يومًا، ويبدأ موسم الطباعة مع معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي يوافق بداية كل عام جديد، حيث إن القاهرة، مركز الموزعين بالنسبة لإصداراتنا».

والجندي كاتب قبل أن يكون صاحب دار نشر؛ لذلك لا بد أن يقرأ الرواية كاملة، وإذا كانت حبكتها ولغتها الفصحى ليست رصينة؛ ينصح مؤلفها بتطوير نفسه والقراءة حول الموضوع الذي يريد الكتابة عنه، ثم التوجه إلى الدار لطباعة كتابه أو روايته.

ووفقًا لـلجندي، تخدم 95% من إصدارات الدار، القضية الفلسطينية، وتدافع عن أصحاب الأرض والتاريخ؛ ليجد نفسه أمام مضايقات يومية، وفرض ضرائب باهظة من قبل المحتل الإسرائيلي، إذ إن الكتب ودار النشر تمثل جزءًا من الحراك الثقافي في القدس، الذي يصب في بوتقة الوجود الفلسطيني المدافع الحقيقي عن المكان، وأشار إلى أنه يرفض طباعة أي رواية تخالف مبادئه الوطنية، على سبيل المثال الدعوة للتطبيع.

وأضاف: «ذات مرة بعد انتهاء موسم المعارض، كان لدينا فائض بنحو 16 كرتونة، وداخل كل واحدة 75 كتابًا، بما يعادل 1200 كتاب ورواية، حاولنا إدخالها إلى فلسطين، لكن استحوذ عليها الاحتلال الإسرائيلي وانتهى بها الحال في (مقلب زبالة) وحرقها».

وتابع: «اضطررت إلى استئجار مخزن في دولة الأردن؛ لتخزين الإصدارات المتبقية من موسم المعارض، بدلًا من محاولة إرجاعها إلى القدس ووجود إمكانية لمصادرتها أيضًا»، مضيفًا: «أحيانًا كنا نحاول إدخال كتبنا إلى فلسطين في حقائب الطلاب المدرسية؛ ليظن المحتل أنها كتب دراسية ويُسمح لها بالدخول».

مدقق لغوي: نداري عيوب المؤلفين

«إعادة الصياغة وتبسيط اللغة»، هي أولى خطوات عبدالحميد النجار، مدقق لغوي، لإنجاز مهمته، حيث يرى أن «التدقيق اللغوي لا يقف عند التدقيق النحوي أو الإملائي، فأحيانًا نواجه صياغة رديئة، مُربكة ويصعب فهمها، إذ يلجأ بعض المؤلفين إلى استخدام لفظ غريب هو نفسه لا يعرف معناه؛ ما ينتج عنه معنى مختلف عن السياق الذي يسير فيه الكتاب»، ثم بعد ذلك يأتي دور التدقيق اللغوي والإملائي.

وأشار إلى أن بعض الكُتاب يُرسلون المادة من دون كتابة الهمزات، كما أنهم لا يستطيعون التفرقة بين الياء (ي) والألف الليّنة (ى)، أو يستخدمون أدوات ربط أو حروف جر في غير موضعها السليم؛ ما يضطره إلى إعادة الصياغة بشكل كامل بالتنسيق مع المؤلف، الأمر الذي يستغرق وقتًا طويلًا في طباعة الكتاب وخروجه للنور، و«قد يفوته الموسم»، حيث إن الانتهاء من تدقيق العمل يتوقف على حجم الأخطاء الموجودة به، «قد نجد مؤلفًا مُتمكنًا من لغته، فتنتهي عملية تدقيق كتابه خلال يومين».

وأوضح: «عُرِضت عليّ رسالة ماجستير في القانون، وكانت مليئة بالمصطلحات المعقدة التي يصعُب على الطلاب قراءتها أو فهمها، وتعاونت مع الباحث لتبسيطها، وعندما خرجت للنور شعرت بسعادة بالغة».

يعتبر عبدالرحمن، أن الروايات أصعب بكثير من الكتب في التدقيق اللغوي؛ حيث يلجأ المؤلف إلى استخدام الأسلوب البلاغي والخيالي، وقد يستخدم خطأ إملائيًا عن قصد؛ لرغبته في الوصول إلى نتيجة معينة تخدم روايته؛ «لذا يتطلب من المدقق فِهم سياق الرواية والحبكة الدرامية جيدًا، ولا يقف عند حدود اللغة المباشرة».

مخرجة فنية: لولانا لخرج الكتاب مهلهلاً

وبالنسبة للإخراج الفني للكتاب، قالت المخرجة الفنية والمدققة اللغوية، حكمت مصطفى، إنه «بالنسبة للإخراج الداخلي، أقوم بضبط مقاسات الكتاب، وتنسيق الصفحات من هوامش وخطوط المتن والعناوين»، موضحة أنه «بعد انتهاء مهمة الإخراج قد يطلب الكاتب أو الناشر منها إجراء بعد التعديلات اللغوية؛ نظرًا لعملها أيضًا مدققة لغوية، ما يعد شيئًا مرهقًا في مهمة الإخراج الداخلي»، وترى أنه «من المفترض أن تتم مراجعة المحتوى جيدًا قبل الإخراج؛ حتى لا يكون أمرًا شاقًا على من يقوم بعمله».

وحول تلقيها إشادات عند ظهور الكتاب للنور من عدمه، أشارت إلى أن «المؤلف فقط هو من يخطف الأضواء»، حيث لا تتلقى أي تقدير معنوي؛ إذ ترى أن «دار النشر لا تشيد بعملها ولا تعبر عن إعجابها به؛ خوفًا من طلب رفع قيمة الأجر»، مضيفة: «لولا المُدقِق والمُنسِق لخرج الكتاب مُهلهلًا لغويًا وعشوائيًا وغير منظم ولا يصلح للطباعة من الأساس».

مُصمم أغلفة: فشلنا قد يحوّل الرواية إلى كوميدية

يقف مُصممو أغلفة الكُتب، خلف إعلاء القيمة السوقية والفنية للمادة المقروءة، حيث إن «المُصمم هو في المقام الأول مُسوِّق»، وبهذا بدأ مُصمم الأغلفة، أحمد الصباغ، حديثه، كاشفًا عن محددات تصميم الغلاف واختيار الألوان والصور التي تناسب الرواية أو الكتاب، التي من أهمها محتوى العمل وعنوانه والجمهور المستهدف، مشيرًا إلى أن «المُصمم يجب أن يكون على دراية كبيرة بالجمهور المستهدف وثقافته الاجتماعية والدينية».

وأوضح «الصباغ»، في حديثه لـ«إضاءات»، أن معظم الأغلفة التي نفّذها، هو مَن وضع رؤيتها الفنية وفكرتها، وذلك بعد قراءة الرواية أو الكتاب قراءة مستوفية، والبحث بين الصفحات عن الأحداث والأبطال الرئيسيين، والتيمة الموجودة بداخله؛ مما ينعكس على روح ولون الغلاف، مضيفًا أن المؤلف أو الناشر قد يتدخل أحيانًا في وضع تصور للغلاف، «إذا كانت فكرته مستنيرة وناحجة فنيًا وتسويقيًا».

وعن أبرز الصعوبات التي يواجهها المُصمم، أشار إلى وجود بعض الأعمال الروائية التي يختلف عنوانها مع المحتوى، موضحا: «قد يختار المؤلف عنوانًا فيه شيء من البلاغة إلى حد ما، وبالتالي يخشى المُصمم أن يعطي الغلاف انطباعًا غير حقيقي عن العمل نفسه، وهذا على عكس كتب التاريخ والعلوم والرياضيات والدين، التي تحتاج إلى غلاف مباشر».

تضمنت إحدى الروايات عنوانًا مباشرًا عن الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها كانت مليئة بالقصص المأساوية التي تكشف عن معاناة الشعب الفلسطيني الذي يقع تحت وطأة الاحتلال؛ ما وضع «الصباغ» أمام تحد صعب لإيجاد غلاف يوزان بين العنوان المباشر والعمل الدرامي، «حتى لا يتحول إلى عمل تاريخي وثائقي يُفقِد الرواية إنسانيتها».

ويرى «الصباغ» أن روايات الخيال العلمي هي الأصعب بالنسبة لمُصمم الأغلفة؛ إذ تعتمد على أحداث وأماكن خيالية ليست موجودة، كما أن الكاتب لا يصف كل حدث بشكل واضح لأنه يخاطب خيال القارئ، وبالتالي لا يكون لدى المُصمم رؤية أو تفاصيل عن أبطال وجغرافية العمل؛ لتساعده في مهمة وضع الغلاف.

وعن تصميم أغلفة الروايات التي تتسم بـ«الرعب»، لفت إلى أن القارئ العربي لديه حس كوميدي وفكاهي عالٍ، و«إذا لم يكن المُصمم حذرًا عند اختيار أغلفة لمثل هذه الأعمال، قد تتحول الرواية إلى كوميدية»، محذرًا من استخدام الصور العارية والمستهجنة التي تثير حفيظة القارئ العربي، أو وجوه الأشخاص التي تحدّ من خيال القارئ ويقيده على بعض الأغلفة.