يا ساكنين القصور… الفقرا عايشين في القبور سيد بيه يا سيد بيه… كيلو اللحمة بقا بجنيه!
من شعارات انتفاضة «الخبز»، يناير/كانون الثاني1977[1]

لم يكن القرار هينًا، ولم يمر مرار الكرام… فتلكفته الاجتماعية والاقتصادية كانت باهظة… أثرت بشكل مباشر على المواطن المصري البسيط… حيث تم رفع الدعم فجأةً عن سلع أساسية لعامة الناس؛ كـالخبر والبنزين والسكر والأرز، وغيرها من السلع، بنسبة تراوحت بين 30% و50%.

أحدثت هذه القرارات الاقتصادية حالة من الغليان في الشارع المصري. ففي 18-19 يناير/كانون الثاني 1977، انطلقت المظاهرات وجابت معظم المدن المصرية اعتراضًا على السياسات الاقتصادية، وانتهى ذلك الغضب الشعبي بنزول الجيش للسيطرة على الأوضاع وتراجع السلطة عن قرارها بزيادة الأسعار.[2]

جاءت هذه القرارات في الأساس امتثالاً لشروط صندوق النقد الدولي، بعدما سعت الحكومة المصرية للحصول على قرضها الأول – تاريخياً- من الصندوق. وكان النظام حينها ينظر للقرض باعتباره الحل السحري الذي سينفتح به على العالم وسيحل به كل المشكلات.

وقد حاول النظام المصري – فيما سبق- الاقتراض أكثر من مرة من الصندوق، لكن الاعتبارات السياسية والاجتماعية كانت دائمًا ما تحول دون تنفيذ أي خطة تحمل مساعي حقيقية من أجل اتمام القرض. ففي مايو/آيار 1962، وّقعت مصر أول اتفاق للتثبيت، لكن المفاوضات تم تجميدها فترة من الزمان، إلى أن عادت الحكومة المصرية استئنافها في النصف الثاني من السبعينات، نظرًا للمشاكل الجمّة التي وقعت مصر في شِراكها.[3]

فقامت الحكومة المصرية بتوقيع برنامج للتثبيت الاقتصادي مع صندوق النقد خلال الفترة 1977-1981، من أجل تجاوز تلك المشاكل الخاصة بالعجز في ميزان المدفوعات. بيد أن حصاد التجربة لم يسفر سوى عن مزيد من العجز التجاري وتصاعد في حجم الديون الخارجية وارتفاع الأسعار، وتزايد اعتماد مصر على الغرب في مجالات التمويل والمواد الوسيطة والتكنولوجية.[4]


سنوات الأزمة (1973-1977)

اختبأ خلف قرار القرض ظروف وملابسات عديدة عايشها الاقتصاد المصري بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. فخلال الفترة بين 1973 و1977 عُقد برنامج التثبيت الاقتصادي نتيجة لتورط مصر في أزمة اقتصادية هائلة، بسبب التكاليف الضحمة التي كُرست آنذاك في سبيل الاستعداد لحرب أكتوبر؛ من توفير إمدادات الجيش المصري وتأمين الاقتصاد القومي لحالة الحرب وتجهيز المخزونات الاستراتيجية اللازمة، والتي استمرت بين شهري يناير/كانون الثاني وسبتمبر/أيلول 1973.

وخلال ذلك العام، كان تمويل الجزء الأكبر من الواردات المختلفة يتم عن طريق التسهيلات المصرفية التي بلغت حوالي 1.21 مليار دولار. تلك التسهيلات مثّلت قفزة كبيرة في الاعتماد على هذا النوع من الديون، كما بلغت نسبة عجز الميزان التجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي 10.2%، وارتفع معدل الدين إلى 39.8%، وهو أعلى معدل سجلته الإحصائيات الدولية بين مجموعة الدول المتخلفة في هذا العام. وذلك لتزايد الاعتماد المصري على القروض الخارجية قصيرة الأجل وحلول آجال السداد لمعظم القروض المتوسطة والطويلة.

وبعد خفوت نيران الحرب، برزت مجموعة من المشاكل كان لها الدور الأكبر في إعادة صياغة وتشكيل السياسة الاقتصادية المصرية، جاء في مقدمتها زيادة حاجة مصر إلى استيراد المواد الغذائية وخاصة القمح، واضطرارها لاستيراد تلك المواد بالدفع نقدًا أو عن طريق التسهيلات المصرفية. تزامن ذلك مع زيادة أسعار هذه المواد بشكل حاد في السوق العالمي عقب غلاء أسعار البترول.

إضافة إلى ما واجهته مصر بعد الحرب، من تدهور سريع في أرقام المخزون السلعي من المواد الخام الوسيطة والسلع الاستراتيجية والمواد الغذائية، في الوقت الذي كانت تستعد فيه القيادة السياسية لافتتاح قناة السويس وتطهيرها. الأمر الذي وضعها في ورطة اقتصادية كبيرة. علاوة على ذلك، فقد عانت المرافق العامة من التدهور الشديد نظرًا لتعرضها للاستهلاك والتدمير أثناء الحرب، فضلاً عن عدم تعرضها لأعمال الصيانة والإحلال والتجديد لمدة زمنية طويلة.

ما ضاعف من صعوبة تلك المشاكل، ضآلة حجم الاحتياطات الدولية التي امتكلتها مصر آنذاك، وتعرض جهود التنمية لعثرات شديدة، تمثلت في تدهور معدلات الادخار والاستثمار، وتدهور معدلات التبادل الدولي في غير صالح مصر.

وفي عام 1974، تعرض عجز الميزان التجاري في مصر إلى قفزة هائلة من 98 مليون جنيه في عام 1973 إلى 530 مليون جنيه. أي بزيادة نحو خمسة أضعاف ونصف. كما ارتفعت نسبة العجز من 2.6% في عام 1973 إلى 12.6% في عام 1974 نتيجة للزيادة المفاجئة في الواردات والتي مولتها القروض الخارجية قصيرة الأجل (التسهيلات المصرفية). ومن ثَمَّ تراجعت نسبة الاحتياطات الدولية للواردات من 11.2% في عام 1973 إلى 4.4% في عام 1974. علاوة على تدهور تغطية الصادرات للواردات إلى 64.5% وارتفاع نسبة عجز الموازنة من 14% في 1973 إلى 18% في 1974.

وفي ضوء تلك المؤشرات، أعلنت السلطة السياسية تبنيها سياسة الانفتاح الاقتصادي، الذي بدوره يوفر الضمانات والحوافز ومنح الامتيازات وتهيئة المناخ الجاذب للاستثمارات. فأظهرت السياسة الاقتصادية للدولة ميلاً للقروض الخارجية الرسمية، وتفضيلاً لشكل الاستثمارات الأجنبية الخاصة، الذي يتيح الفرصة لرأس المال الأجنبي والعربي للإسهام في دعم الاقتصاد المصري.

وفي عام 1975، ارتفع حجم المساعدات التي قدمتها الدول العربية لمصر، ووصلت إلى أعلى مستوى لها فبلغت 2.774 مليار دولار. وغطت تلك المساعدات 106% من عجز الميزان التجاري و80% من إجمالي العجز الخارجي. لكن الحال لم يدم طويلاً، فشهد عام 1976 انخفاضًا في معدل المساعدات العربية إلى 1.72 مليار أي بما يعادل 58% من عجز الميزان التجاري و42% من إجمالي العجز الخارجي.

لم تكن القروض المتوسطة وطويلة الأجل التي حصلت عليها مصر من الدول العربية والمؤسسات الدولية كافية لمواجهة كل هذا العجز الخارجي، الأمر الذي ألجأها للاعتماد المفرط على موارد التمويل الخارجي قصير الأجل ذي سعر الفائدة المرتفع والذي وصل إلى 20%.

وضعت السياسة الاقتصادية للنظام مصر في مفترق طرق، ففي عام 1976، لم يكن لدى مصر كميات كافية من السيولة النقدية لتسديد أعباء ديونها الخارجية، مما دفعها للسعي الحثيث من أجل الحصول على مزيد من القروض الخارجية في شكل سيولة نقدية، كي تخصص جزءًا منه لدفع أعباء الديون مستحقة السداد، نظرًا لأن معظم القروض المتوسطة وطويلة الأجل هي قروض مقيدة أي مرتبطة بتنفيذ مشروعات معينة.[5]

في الواقع، بدأت المرحلة الحاسمة والفعلية في علاقة مصر بصندوق النقد الدولي في منتصف السبعينيات، ففي عام 1974 بدأ دور صندوق النقد في تكييف الاقتصاد المصري في حقبة الانفتاح. وقد تزامن ذلك مع بدء تدشين سياسة الانفتاح بموجب قانون رقم 43 لعام 1974. كانت تلك البداية التي من خلالها تدخل الصندوق في الاقتصاد المصري، وأقحم من خلالها مسلك الاقتراض في عقل القيادة الحاكمة آنذاك.[6]


بدء المفاوضات وتوصيات الصندوق

من هنا عادت مصر لاستئناف المفاوضات مع بعثة صندوق النقد الدولي في مارس/آذار وأبريل/نيسان 1976، بغية الحصول على قرض يتولى تسديد مديونياتها. وقد عرضت البعثة على مصر برنامجًا مقترحًا للتثبيت أطلقت عليه مسمى «السوق التجارية للنقد الأجنبي» لكنه قوبل بالرفض، ومع ذلك وقعت الحكومة على خطاب النوايا الذي نوقش وتمت الموافقة عليه في مجلس إدارة الصندوق في شهر أبريل/نيسان 1977. وعليه وعد الصندوق بأن تحصل مصر على تسهيلات بمبلغ 720 مليون دولار لتمويل العجز في ميزان المدفوعات لمدة 3 سنوات .

واستمرت المفاوضات، وحضر إلى مصر بعثتان أخريان من البنك الدولي، كانت الأولى في مايو/آيار ويونيو/حزيران 1976 والثانية في يونيو/حزيران ويوليو/تموز 1977. وبناءً على تلك الزيارات، تم إعداد دراسة عن الاقتصاد المصري. ومن خلالها اقترح البنك الدولي للتخلص من الأزمة الاقتصادية في مصر عدة محاور، أولها، إعادة الاهتمام بقطاع الزراعة مرة أخرى مع الاهتمام بميكنة الزراعة واستخدام التكنولوجيا الحديثة فيها من خلال رأس المال الاجنبي، إضافة إلى الاعتماد على رؤوس الأموال الاجنبية في تنمية البلاد، والحد من دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاهتمام بالتنمية الزراعية.

وبالفعل وافقت الحكومة على تلك المقترحات، ومن ثَمَّ توالت جلسات انعقاد المجموعات الاستشارية كي يتابع البنك نشاط الحكومة في تنفيذ برنامجه الاقتصادي. ومن ثَمَّ، تم التوصل إلى اتفاقين مع صندوق النقد.

تشكّل بناءً على الاتفاق الأول، برنامج مدته عام ونصف، والثاني، برنامج مدته 3 أعوام من عام 1979 وحتى 1981. وبمقتضاهما، حصلت مصر في البداية على قرض بقيمة 250 مليون دولار بسعر فائدة 50% وفترة سماح 3 سنوات، وقرض آخر بحوالي 250 مليون دولار. كان لهما تأثير كبير في خفض معدل خدمة الدين الخارجي وهبوطه إلى 17.6% في عام 1977.

وفي المقابل، أوصى الصندوق باتباع سياسة انكماشية قائمة بالأساس على خفض النفقات الحكومية وعلى رأسها خفض الدعم، فضلاً عن تحرير أسعار سلع منتجات القطاع العام والمشروعات العامة المدعومة ورفع أسعار الفائدة وفرض سقوف ائتمانية بالإضافة إلى تخفيض سعر الصرف.

الأمر الذي وقف عائقًا أمام استكمال هذه البرامج نظرًا للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي واجهها النظام فور إعلان نيته عن خفض الدعم. فمع نشوب مظاهرات يناير/كانون الثاني1977 احتجاجًا على ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية، لجأت الحكومة لاتباع أسلوب انتقائي تجاه سياسات الصندوق. فتجاهلت عدة توصيات اشترطها الصندوق كرفع سعر الفائدة وتخفيض معدل نمو الدعم وتخفيض سعر الصرف نزولاً على طلب الجماهير.[7]

وقد برز برنامج التكيف الهيكلي الذي عرضه الصندوق على العالم النامي في عام 1979 كأداة سارية المفعول ومؤشر يقيس عليه الصندوق أداء الدول ومعدل تطورها. ذلك البرنامج قام بالأساس على مبدأ المشروطية من خلال أربعة مصطلحات (الليبرالية، والتحرير، والاستقرار، والخصخصة)، كحل ظن به الصندوق إصلاحًا للأداء الاقتصادي في الدول النامية والمتخلفة، دون مراعاة للظروف والسياقات الاجتماعية التي قد تترتب على التنفيذ الحرفي لتلك الشروط.


كيف أخفق القرض في مواجهة العجز؟

سرعان ما تبددت الآمال، فلم يستطع القرض أن يسدد ديون مصر ولا أن يحاصر العجز الذي لاحق ميزان المدفوعات المصري. فارتفع قيمة العجز من 2.3 مليار جنيه في عام 1978 إلى 2.9 مليار جنيه في عام 1979، كما قفزت قيمته في عام 1980-1981 إلى 3.1 مليار دولار.

إضافة إلى ذلك، زادت حصيلة النقد الأجنبي المتأتي من رسوم المرور بقناة السويس وقطاع السياحة وتحويلات المصريين العاملين بالخارج. إذ أسهمت فوضى الاستيراد وتخفيف القيود على النقد الأجنبي في تبديد جزء كبير من تحويلات المصريين بالخارج في أمور لم تكن مجدية لتطور الاقتصاد المصري.

وقد قفز الرقم القياسي لعجز العمليات التجارية والتحويلات خلال فترة برنامج التثبيت إلى 190 في عام 1979، ثم انخفض انخفاضًا طفيفًا في عام 1980-1981، ووصل إلى 157، تلك النسبة كانت تشير إلى أن برنامج التثبيت لم يكن ذا فاعلية تُذكر في تحسين صورة العجز في ميزان المدفوعات المصري.

ذلك العجز في ميزان العمليات التجارية، ترتب عليه ارتفاع حجم الديون الخارجية على اختلاف أنواعها فقفزت حجم الديون الخارجية من 8.1 مليار دولار في 1977 إلى 18.1 مليار دولار في 30 يونيو/ حزيران 1981، وبلغ متوسط المديونية الخارجية لكل مواطن مصري حوالي 422 دولارًا.

فلم يحقق برنامج التثبيت والقرض وضعًا أفضل كما ادعى، بل وصلت بسببه الديون الخارجية إلى مستوى حرج، حتى أصبحت أعباء خدمته تمثل أحد أهم الجوانب في بنود المدفوعات الجارية. فوفقًا لتقديرات البنك الدولي عن احتياجات الاقتصاد المصري للتمويل الخارجي في عامي 1980-1981، فإن إجمالي المطلوب تدبيره آنذاك لسداد عجز الحساب الجاري بميزان المدفوعات ودفع أقساط الديون كان حوالي 3190 مليون دولار في عام 1980، و3870 مليون دولار في عام 1981.

الأمر الذي جعل مصر منذ ذلك الحين تدور في دوامة مغلقة فيما يخص الديون الخاجية، فقد رفع الاقتراض من العجز في ميزان المدفوعات وعجز ميزان المدفوعات، الذي أصبح بدوره يتطلب مزيدًا من الاقتراض وهكذا. حتى أن الزيادة التي شهدتها موارد مصر من النقد الأجنبي (القناة والسياحة والتحويلات) لم تنجح في تقليل حاجة مصر للاقتراض الخارجي[8].

المراجع
  1. طاهر البهي، رواية السكاكيني، دار العلوم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، أكتوبر 2016، ص 84.
  2. مصطفى مرتضى، المثقف والسلطة، رؤى فكرية، دار روابط للنشر وتقنية المعلومات ودار الشقري للنشر، ٢٠١٦، ص 211.
  3. خيرى أبو العزايم فرجانى، ملامح تطور الاقتصاد المصرى فى ظل التحولات السياسية والاقتصادية، القاهرة، مكتبة نور، ص 189.
  4. رمزي محمد زكي، مصر وتجربة قروض صندوق النقد الدولي 1977-1981، برنامج التثبيت الاقتصادي في التطبيق، الفكر الاستراتيجي العربي، معهد الإنماء العربي، عدد 6 / 7، 1983، ص 205.
  5. المرجع السابق، ص222 -223.
  6. عبد الحميد محمد راشد، الكارثة والوهم: مستقبل سياسة الإصلاح الاقتصادي بمصر في ظل نظام العولمة، مكتبة مدبولي، 2007.
  7. خيرى أبو العزايم فرجانى، ملامح تطور الاقتصاد المصرى فى ظل التحولات السياسية والاقتصادية، مرجع سبق ذكره، ص 200 – 203.
  8. رمزي محمد زكي، تقييم الأداء لبرنامج التثبيت الاقتصادي الذي عقدته مصر مع صندوق النقد الدولي (1977 – 1981): حصاد التجربة واحتمالات المستقبل، المؤتمر العلمي السنوي السابع للاقتصاديين المصريين: الاقتصاد المصري في عقد الثمانينات، الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، مايو 1982، ص ص 328 – 356.
  9. المرجع السابق، ص 347.