ما يقارب عشرين عامًا، قضاها جمال عبد الناصر على الساحة السياسية العربية كفاعل سياسي مهم، وفي تلك السنوات صنع عبد الناصر من الخصومات مع حكام العرب أكثر بكثير من الصداقات، فلقد كان نهج عبد الناصر السياسي أن الإصلاح والتحرر يجب أن يكونا على الجبهة الداخلية أولًا من خلال القضاء على الحكام الرجعيين والتابعين للغرب والخونة.

خاض عبد الناصر كثيرًا من الحروب الباردة، واحدة منها كانت حربه مع الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، ربما كانت هي الأقوى والوحيدة التي كان يمكن لها أن تؤثر على شعبية عبد الناصر،  فخلافًا لنوري السعيد في العراق من قبل قاسم، وكميل شمعون في لبنان والملك حسين في الأردن والملك سعود في السعودية، لم يكن قاسم شخصًا يمكن أن يُتهم بالرجعية بل كان ثوريًا راديكاليًا على طريقته الخاصة، وذا قاعدة شعبية كبرى خصوصًا بين الطبقات الفقيرة من الفلاحين والعمال كتلك التي تمتع بها ناصر، وكان عدوًا للاستعمار وصديقًا لأصدقاء ناصر في الكرملين مقر الحكم السوفييتي.

إلا أن تلك العداوة لها جذور كان عبد الناصر فيها يومًا ما المتسبب في صناعة الزعيم الذي تحداه.

حمى الضباط الأحرار

كانت حركة الضباط الأحرار في مصر عام 1952م قد صنعت حالة في الوطن العربي تشبه الحمى، فقد بدا ذلك النموذج الناجح لمجموعة من الضباط الحالمين في صفوف الجيش من ذوي الرتب الصغيرة، وبخاصة بعد صمود مصر في وجه العدوان الثلاثي 1956م، ملهمًا للضباط الآخرين في الجيوش العربية الأخرى، على رأسهم الجيش العراقي.

كان في العراق، دعاة للقومية العربية منذ مطلع القرن العشرين، ولكنهم عبروا عن وجودهم عقب نجاح صعود شخصية عبد الناصر وما مثلته من نجاح تجسيدي لفكرة القومية العربية.

في 1955م كانت سياسة الحكومة العراقية قد وصلت ذروة تدهورها وخضوعها للبريطانيين بعد دخولها حلف بغداد والذي كان من معوقات الوحدة العربية آنذاك، وكان حلف بغداد من المعارك الأولى التي خاضها عبد الناصر وقتها في وجه نوري السعيد، ووصلت ذروة الانقطاع بين عبد الناصر وحكومة العراق خلال العدوان الثلاثي حيث الموقف الضعيف لحكومة العراق، والذي عده القوميون ناصريون وبعثيون نقطة اللاعودة في كره العائلة الهاشمية والنظام القائم، وهنا ظهر تنظيم الضباط الأحرار عام 1956م داخل الجيش بزعامة عبد السلام عارف والزعيم عبد الكريم قاسم.

في كتابه «شمال العراق 1958-1975 دراسة سياسية» يروي لنا عمار علي السمر اللقاء الأول بين عبد الناصر وقاسم، حيث طلب عبد الكريم قاسم عام 1957م من حسين جميل عضو الحزب الوطني الديمقراطي بالعراقي أن يستشير الرئيس جمال عبد الناصر في الثورة، و يدعي سعيد أبو الريش في كتابه «جمال عبد الناصر: آخر العرب» أن عبد الناصر رفض أن يمد الثورة بغطاء من الطيارات حتى لا يخرق مبدأ أيزنهاور  ويتجنب المواجهة مع أمريكا، كما أنه لم يكن يعرف بما فيه الكفاية عن الضباط ولم يكن يريد أن يزج بنفسه في فشل غير محسوب العواقب.

كان عبد الناصر رغم خلفيته العسكرية، يبدو معارضًا للانقلابات العسكرية، فقد آثر دعم صديق شنشل من الحزب الوطني الديمقراطي العراقي وهو المعارض السياسي الأشرس لنوري السعيد داخل العراق.

ولكن عبد الناصر من خلال وساطات مختلفة بين الضباط الأحرار والحزب الوطني الديمقراطي العراقي قد قبل دعم الثورة. ولقد عد الضابطان عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم انقلاب 14تموز/يوليو 1958م بمثابة ابن شرعي لمسيرة الكفاح القومي العروبي وقد رحبت الجمهورية العربية المتحدة فورًا به واعترفت بشرعيته، ولقد أمل عبد الناصر أن ينضم العراق سريعًا إلى الجمهورية العربية المتحدة. فدعم الانقلاب بالمال والسلاح، وفور اندلاعه، قام بزيارة سرية لموسكو من أجل الحصول على الدعم اللازم إذا ما تدخل الغرب ضد الثورة، ثم أعلن من دمشق أن أي عدوان على العراق هو عدوان على الجمهورية العربية المتحدة.

زعامة بلا مجد

بدا أن العلاقة بين عبد الناصر وقادة الثورة في العراق سمن على عسل، حتى إن صور عبد الناصر كانت تُرفع إلى جوار صور الزعيمين في شوارع المدن العراقية كما أن كثيرًا من الأحزاب كان يرى أن الثورة قامت من أجل الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة.

وكان سلوك قاسم في الأيام الأولى من حكومته محيرًا، وبقي قدرًا كبيرًا منه غير معروف، فهو كردي تعرب، ومتوتر، وذو نبرة صوت ناعمة، ولا يملك مقومات الشخصية الكاريزماتية، ونجاحه في الإطاحة بالملكية تبعه تأييد ضخم له في أرجاء العراق، ولكن الذي كانت تهتف باسمه الجموع هو عبد الناصر، كما إن رفاقه في الجيش كانوا من أتباع ناصر.

وكانت بذور الخلاف حاضرة مع رفيقه في الثورة «عارف» منذ اللحظة الأولى، ولم تكن تحتاج إلى أكثر من نكأ الجرح ليقع الانشقاق الأول بين رجال الثورة.

في كتابه «الفكر السياسي للنخبة العسكرية في العراق» يجمل الدكتور علي خيون الخلاف بين عارف وقاسم في نقاط معينة أولها، خطابات عارف المرتجلة  التي ألقيت في المحافظات دون تحضير، والتي انصبت على تمجيد الرئيس جمال عبد الناصر دون قاسم، وهنا ظهر محمد صديق شنشل وزير الإرشاد في الوزارة الأولى للثورة ليخبر قاسم بأن يطلب من عارف أن يتوقف عن الارتجال أو يمنعه نهائيًا فكان جواب قاسم: «دع الحبل يلتف حول عنقه».

يوضح حازم صاغية هو الآخر في كتابه «الانهيار المديد» أسبابًا أخرى للتنافر بين الرجلين: فقد كان قاسم وطنيًا عراقيًا متسامحًا دينيًا، مولودًا لأب سني وأم كردية شيعية المذهب، كما أنه كان أتاتوركي النزعة وعلى قدر من العواطف الميالة للفقراء مما دفعه لأخذ صف الحزب الشيوعي العراقي، بينما عارف، كان اندماجيًا شديد الإعجاب بعبد الناصر بقدر ما كان سنيًا متزمتًا علاقته بزعماء العشائر السنية من ملاكي الأراضي لا تخفى على أحد.

«نجيب» العراق

في الـ11 من سبتمبر أذاع راديو بغداد بيانًا قصيرًا، وخاليًا من اللهجة الحماسية الثورية، ذُكر فيه: «بناء على مقتضيات المصلحة العامة وعلى توصية وزير الدفاع أمرنا بما يأتي: يعفى العقيد الركن عبد السلام عارف من منصبه نائبًا للقوات المسلحة». وبعد ثلاثة أيام في بيان أقصر أعفى قاسم عارف من جميع مناصبه الوزارية وعينه سفيرًا في بون لإبعاده خارج البلاد.

لقد بات واضحًا أن قاسم وإن لم يكن يختار عداء عبد الناصر بتلك الخطوة، فهو على الأقل قد اختار أن يخرج من كنفه، فلقد كان معروفًا أن عارف هو الوجه الثوري الملتزم كليًا دون تحفظات بمُثل القومية العربية وبالوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، مثلما طالب بذلك منذ أول محادثات له مع عبد الناصر في دمشق بعد أيام من نجاح الإنقلاب ودون الرجوع إلى قاسم، وقد أخبر عبد الناصر ألا يقلق من قاسم واصفًا إياه بأنه «نجيب العراق» إشارة لوضع محمد نجيب بالنسبة لثورة يوليو 1952م، بل كانت المبالغات تصل بعارف إلى أن يقول لعبد الناصر إن قاسم إذا سولت له نفسه الاعتراض على الوحدة فسيقتله برصاصة واحدة، وقاطعه ناصر قائلًا: «لا يا أخ عبد السلام، يجب ألا تتكلم بهذا الشكل، فهو رئيسك، والأمور تسوى بالحوار والإقناع».

من جانبه، كان قاسم ملقبًا بين أنصاره بلقب «الزعيم الأوحد» وكان يقول لزواره الأجانب أيضًا إن دور عارف في الثورة إذا ما قورن بدوره فإنه شديد الضآلة، وقد شرع قاسم بهدوء في قصقصة جناحي عارف عبر تقليص قاعدة قوته في الجيش حتى قوي تمامًا في سبتمبر وقرر عزله، وهو القرار الذي عارضه عارف فاعتقل في نوفمبر بتهمة التآمر على أمن الوطن.

كان اعتقال عارف شاقًا لصفوف الثورة العراقية فقد صنع انقسامًا بين القوى التقدمية التي اشتركت معًا في إسقاط العهد الملكي البائد، اختار القوميون والبعثيون والناصريون صف عارف، وشكل قاسم ائتلافًا من الشيوعيين والأكراد واليساريين غير المنتمين والعراقيين الوطنين، وكان ذلك الانقسام هو الذي أعاد حزازة كون القومية العربية مشروعًا سنيًا في الأساس، ما جعل الجماعات حول قاسم تتبنى شعار «العراق أولًا» كثقل موازن للمطلب القومي العربي بالوحدة.

لقد كان النسيج المجتمعي في العراقي جاهزًا لمثل تلك التباينات والفرقة حول صناعة هوية للدولة في ما بعد العهد الملكي.

قوميات العراق المترددة

يرى عضيد دويشة في كتابه: «القومية العربية في القرن العشرين: من النصر إلى اليأس» أنه كان هناك اعتقاد يسود بين الشيعة في الوطن العربي والعراقي خصوصًا أن مشروع القومية العربية هو في الجوهر مشروع سني يرمي إلى توحيد الدول العربية التي هي في أغلبها دول سنية، ما يجعل شيعة العراق أقلية لا أهمية لها. ولكن كانت هناك فترات أصبح فيها الانقسام الطائفي على أدنى مستوى من التأثير في الواقع السياسي العراقي بخاصة خلال الخمسينيات بين سنوات 1955-1958م حيث انضم عدد من الشيعة إلى القوميين العرب أو الناصريين أو البعثيين فقد كان من بين سبعة عشر عضوًا في قيادة حزب البعث في الخمسينيات هناك ثمانية من الشيعة بمن فيهم الأمين العام.

ويضيف حازم صاغية في كتابه، أن القومية العربية حينما باتت جاذبة الجسم السني العريض في المنطقة العربية، أخافت مسيحيي لبنان وشيعة العراق وأكراده فانكفأوا عنها وقاوموها، وهكذا تمسك المسيحيون اللبنانيون بزعامتهم المتمثلة في كميل شمعون، والتف شيعة العراق حول الزعيم عبد الكريم قاسم الذي وقف في وجه القومية العربية باسم الوطنية العراقية، مثلما التفوا حول الحزب الشيوعي الذي أزكى شعلة التطرف لدى قاسم في قمع القوميين العرب العراقيين.

كان الزعيم قاسم يمثل تيار القومية العراقية الوطنية وسك ومن وراءه أتباعه شعار «العراق أولًا» أما عبد السلام عارف والبعثيون كانوا يدعون للوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة.

لقد كان لشعار العراق أولًا تجسيدًا حقيقيًا في البروباجندا العراقية التي جاهد قاسم لجعلها متمايزة عن القومية العربية. لقد كان العراق منذ البداية بلدًا فسيفسائي التكوين الطائفي والمذهبي والعرقي، فحتى القوميين العرب في العراق الذين دعموا عبد الناصر كان يخشون من قول كلمة الشعب العربي في العراق التي كانت تجري على ألسنة الناصريين والبعثيين، والتي تتجاهل وجود كرد غير عرب تشكل نسبتهم نحو 20% من سكان العراق، إضافة إلى توجس المجتمع الشيعي كما سبق الذكر تجاه المشروع القومي، وذلك ما ساعد قاسم في التصدي لمساعي ضم العراق للجمهورية العربية المتحدة في وقت بدا فيه من المتعذر إيقاف عبد الناصر القوي وتياره الذي يجرف كل ما في طريقه.

صنع قاسم هوية العراق أولًا مؤكدًا وضع البلاد التاريخي كمهد للحضارات الكبرى السابقة على وجود العرب، وصمم علمًا جديدًا يضم النجمة الأكادية الثمانية «نجمة عشتار» ودمج شعار إله الشمس في الشعار الوطني العراقي.

 الموصل 1959

في بداية عام 1959، كان العراق يمر بحملة عنف أعادت تشكيل الهيكل السياسي للشرق الأوسط، وبدوره أدان عبد الناصر الشيوعيين وأعلن أنه لن يسمح لهم بالسيطرة على البلدان العربية، ورد خروتشوف بأنه قومي رجعي واستمرت بريطانيا في عدم موافقتها على نهج عبد الناصر وقوميته العربية كمصدر للخطر على العراق والمصالح الغربية، وقد أسهمت تلك الحالة من العداوة في التقارب الغريب بين السوفييت وبريطانيا، الذي كان بدوره داعمًا لقاسم ضد عبد الناصر ، أما العلاقة بين عبد الناصر والولايات المتحدة الأمريكية فقد تحسنت لأن كليهما كان يعمل على مواجهة التهديد الشيوعي في العراق.

في التاسع من مارس 1959م أحبطت محاولة للانقلاب على نظام قاسم قام بها مجموعة من الضباط القوميين العرب، وكان التمرد الذي تركز في مدينة الموصل شمال العراق مدعومًا من الجمهورية العربية المتحدة، بقيادة العقيد عبد الحميد السراج رئيس الاستخبارات في سوريا، حيث مد الضباط بالأسلحة والأموال، والهدية الكبرى، كانت محطة إذاعية لإعلان التمرد لمواجهة «راديو بغداد» الذي سيطر عليه أنصار قاسم. كان عبد الناصر قد مدد إقامته في دمشق أثناء زيارته لها في انتظار نجاح الإنقلاب وإسقاط قاسم إلا أنه لم يحدث ما تمناه.

كان عبد الناصر يُفضل أن يعتمد الانقلابيون على أنفسهم، لكن بإلحاحهم عليه وعدهم بتهيئة لواء مشاة للدخول للموصل بعد نجاح الثورة، وإسناد الثورة بوسائل الدعاية والإعلان، والتكفل بإعالة أسر المتضررين في حال فشل الحركة، وكان عبد الناصر بتلك الوعود يخالف تحذير الاستخبارات المصرية من الحركة وخطورتها في حال فشلها.

 حرب شوارع

أعقب فشل الإنقلاب، انعقاد محكمة الشعب والتي كانت تعقد جلسات يومية متلفزة لمحاكمة أفراد العهد الملكي، وفي جلستها الأولى بعد فشل الانقلاب اتهم المدعي العام الجمهورية العربية المتحدة بالتورط في المؤامرة والمسئولية عنها، ووصف عبد الناصر بفرعون مصر. كان رئيس المحكمة العقيد فاضل عباس المهداوي قد سك هتافًا أصبح رمزًا للهجوم على عبد الناصر في العراق: «ناصر يا رمسيس، يا خادم الإنكليز».

وفّر  قاسم في محكمة الشعب مأوى لمعارضي نظام عبد الناصر داخل سوريا، الذين اتخذوها إلى جانب المهداوي منبرًا للتشويه والتنديد بمساوئ عبد الناصر مثل الشاعر السوري من دون الجبل وخالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري.

تلقت أجهزة الدعاية الناصرية الضربة، وجاء أوان الرد، فأطلقت بزعامة إذاعة صوت العرب، ًالتي كانت هي مأوى الهاربين من الذين فشلوا في الانقلاب على نظام قاسم في حركة الموصل 1959م، وابلاً من الإهانات الشخصية في حق عبد الكريم قاسم، فوُصِف بالشيوعي المعادي للعرب، و«قاسم العراق» كانت الأشهر، واستمرت ماكينة الدعاية في الاغتيال الشخصي لقاسم وتضئيل دوره في الثورة لصالح عارف ومهاجمة تعاونه مع اليسار والشيوعيين في مواجهة القوميين العراقيين من أنصار عبد الناصر وخطه، وكانت وصمة العار الكبرى في حق قاسم ما رددته إذاعة صوت العرب من مقاربة أهداف قاسم مع أهداف إسرائيل التي لا تريد للجمهورية العربية المتحدة أن تتوسع لتجابه إسرائيل، التي لا تريد علاقات طيبة قائمة بين مصر والعراق، بل اتهم قاسم بأنه ينفذ أوامر إسرائيل وهو الأمر الذي كان بمثابة القشة القاصمة، حيث أعلن العقيد المهداوي تحت أضواء محكمة الشعب: «بصراحة وحزم، يجب تحرير سوريا ومصر من الحكم الفاشي الناصري».

وقد رسخ المهداوي بعض التعبيرات الشهيرة في محكمة الشعب للسخرية من ناصر والتقليل من شأنه: «مثل: الكذاب ذو الأنف الكبير، الجبان الذي يختبئ خلف قوات الأمم المتحدة، مسيلمة الكذاب» وفي إهانة لرجل عبد الناصر الأول كان يشار لعبد الحكيم عامر باسم: «المشير الفطير».

كان المهداوي، ابن خالة قاسم ولسانه البذيء، وقاسم آثر أن يترفع عن ذلك التراشق والتشهير. واشتبك قاسم مع عبد الناصر عبر كلماته للمرة الأولى حين قارن بين تشجيعه للديمقراطية مع ارتياب عبد الناصر بها ثم أشار بوضوح إلى انطباق العبارة على السوريين بشكل خاص. ودعا حكومته لتجديد الاهتمام بخطة «الهلال الخصيب» التي ابتكرها نوري السعيد والتي تدعو لدولة تضم العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. اعترف قاسم أنه كان يعد الخطة رجعية، ولكن الآن بنجاح الثورة وتحرر العراق، فإنها ستخدم المنطقة كلها.

وامتدادًا لحالة التخوين تلك، دبرت الحكومة العراقية والشيوعيون تظاهرات عدائية ضد رعايا الجمهورية العربية المتحدة، بخاصة المدرسون المنتدبون الذين رحلوا حفاظًا على حياتهم، وألغيت المعاهدة الثقافية التي وقعت بين البلدين بعد قيام انقلاب 14 تموز.

لم يتوقف حراك قاسم عند هذا الحد، فقد حاول تأليب السوفييت ضد عبد الناصر عبر الصحف التي حرضتهم ضده بدعوى مطاردته للشيوعيين في سوريا ومصر والتضييق عليهم، ولكن السوفييت حافظوا على هدوئهم ولم يستجيبوا إلى محاولة إحراج عبد الناصر، إلا أن شعورًا بالمرارة كان في أعماقهم.

كانت انتفاضة الموصل، تشعر عبد الناصر بالهزيمة، واتخذت المواجهة بينه وبين قاسم طابعًا شخصيًّا مريرًا، فبالنسبة لناصر كان قاسم رجلًا غير جدير بالثقة وقد اعتمد على الاتحاد السوفييتي وبريطانيا لوقف الزحف القومي العروبي.

حلبات النزال

تبعًا لكل ذلك، أصبح الوطن العربي حلبة نزال لملاكمة عبد الناصر وقاسم، وكانت المواجهة الثانية في الكويت.

في يونيو 1961م عُقدت اتفاقية بين بريطانيا وحاكم الكويت لإنهاء وضع المشيخة الصغيرة في الخليج بوصفها محمية بريطانية، وكانت الكويت المزهوة بالاستقلال تحتفل، وسرعان ما تحولت حالة الاحتفال إلى حالة قلق وترقب، حين أعلن قاسم التالي: امتناعه عن الاعتراف بالدولة الجديدة، وعزمه إعادتها إلى وضعها العثماني السابق كجزء لا يتجزأ من العراق، وذلك عبر تعيين حاكم المشيخة الغنية بالنفط محافظًا لقضاء الكويت براتب 500 دولار في الشهر .

هرع حاكم الكويت إلى طلب الحماية من بريطانيا، وفي الأول من يوليو، لبت قوات بريطانيا النداء. كان قاسم بتلك الخطوة، يصنع حالة جديدة على المنطقة العربية، حيث دفع مصر للتعاون مع بريطانيا لحل تلك القضية، فقد قادت مصر بتسريع إجراءات انضمام الكويت للجامعة العربية وشرعنة سيادتها، وأرسلت الجامعة قوات أردنية- مصرية- سعودية لتحل محل القوات البريطانية. وقد نجحت خطوة عبد الناصر، ففي سبتمبر جلت الأزمة وتلاشى تهديد العملية العسكرية العراقية واعترف المجتمع الدولي بالكويت.

كان عبد الناصر يرى أنه ألحق هزيمة دبلوماسية مذلة بالعراق، ولكن من داخله كان يشعر بعدم الارتياح فقد وضعه قاسم في وضع لا يُحسد عليه جعله يحمي تلك المشيخة الغنية الرجعية التي يحكمها نظام إقطاعي مستبد، وهو ما مثل ما كرهه ودعا إليه عبد الناصر في مشواره، إضافة لقبوله بوجود قوات أجنبية على أراض ذات سيادة عربية. وكان تأييده لتلك الرجعية يأتي في وجه دولة تقدمية كالعراق، فقد كان الموقف كله معاكسًا لوقائع الأمور ومثالية المبادئ التي كان على رأس المنادين بها.

وبطبيعة الحال، كان لصراع بمثل هذه الحدة، وذلك الدوي، أن يطال قضية فلسطين، في كتاب «حرب حزيران/ يونيو 1967 مسارات الحرب وتداعياتها» نتلمس آثار ذلك الصراع. فقد كان لحركة الفدائيين التي شكلها عبد الناصر داخل قطاع غزة دورًا في نقل السلاح إلى الضباط القوميين الذين قاموا بانتفاضة الموصل سالفة الذكر، وهو ما دعا قاسم لأن يرد بتشكيل» فوج التحرير الفلسطيني» وقد قام الحاج أمين الحسيني الذي غادر مصر لخلافه مع عبد الناصر بدور نشط في تفعيل ذلك الفوج حيث أرسل 350 متطوعًا تخرج منهم 150 ضابطًا.

وكان رد عبد الناصر على تشكيل ذلك الفوج أن أنشأ حركة للمقاومة الشعبية في غزة، وأعاد إنشاء كتيبة حرس الحدود في فبراير 1961م والتي بلغ عددها ألفي رجل، وقام عبد الناصر بخطوات أخرى على المستوى السياسي حيث عقد انتخابات لمجلس تشريعي في مخيمات سوريا وغزة وإطلاق برنامج صوت فلسطين من إذاعة القاهرة.

ضحى عبد الناصر وقاسم كلاهما في سبيل تلك المواجهة بينهما بكثير من المبادئ، فقد جرب كلاهما التعاون مع بريطانيا وأمريكا والسوفييت باختلاف الأيديولوجيات وتناقضتها، حتى إن عبد الناصر الذي كان ملتزمًا بوحدة العراق كوطن واحد، قد اقترح على الأكراد مساعدتهم ضد قاسم، ووعدهم بمشاركة أكبر في مستقبل العراق أكثر مما كان قاسم على استعداد لتقديمه لهم، فقدم عبد الناصر دعمه إلى الملا مصطفى البارزاني قائد ثورة الأكراد رغم كونه مالك أراضي إقطاعي.

في الحرب.. لا أحد ينتصر

في الثامن من فبراير 1963م وقع الانقلاب الدموي، الذي كتب نقطة النهاية للصراع بين الرجلين، فوحدات من الجيش العراقي ثارت ضد قاسم باسم القومية العربية وفي غضون أربعة وعشرين ساعة من معارك شوارع دموية، استطاعت التفوق عليه وعلى مؤيديه. وتم القبض على قاسم، وأجريت له محاكمة في محكمة الشعب وأذيعت على التلفاز، وقد تم إعدامه، وعرض جسده الممزق بالطلقات على شاشة التلفاز العراقي لتثبيط معنويات أنصاره، وقد استمر المتحمسين من حزب البعث في حملة انتقامهم، فقاموا بحملات تطهير تجاه شيوعيي العراق الذين تحالفوا مع قاسم وأساءوا معاملة القوميين العرب.

قبل النهاية بقليل، عرض مجموعة من الشيوعيين الدفاع عن قاسم وحمايته، ولكنه قرر أن يتجنب الحرب الأهلية وآثر الاستسلام، وطلب أن يمنحه معتقلوه شرف الاحتفاظ بشاراته العسكرية وسلاحه الجانبي، وهي الطلبات التي جوبهت بالرفض.

لم يكن ذلك الانقلاب كما يدعي سعيد أبو الريش في كتابه، انقلابًا ناصريًا ولا قوميًا عربيًا بل واحدة من أكثر عمليات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نجاحًا في الشرق الأوسط، فقد جرى بواسطة أحد المرتبطين بوليام ليكلاند في السفارة الأمريكية في بغداد، وهو العميل السابق في القاهرة ومتخصص في العمليات السرية، الذي نجح في تقريب مجموعة من الضباط العسكريين المعادين لقاسم، وعناصر حزب البعث في العراق، ورفاق بعثيين في سوريا، وكثير من الفرقاء الذين خافوا استيلاء الشيوعيين على البلاد، فقرروا التخلص من تهديده باستئصاله.

يبدو أن عبد الناصر رضى عن نتائج تلك المؤامرة، التي حققت له ما يبتغيه دون أن يتورط، وفي المقابل تنازل عن التحكم بالعراق لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. تخلى عبد الناصر طواعية عن العراق لأن ذاتيته جعلته لا يستطيع تحمل هزيمة شخصية مستمرة من قبل قاسم، ويبدو أن اشمئزاز عبد الناصر من سفك الدماء تقلص إلى حد الاختزال في تلك الفترة، التي توازت مع قمعه للإخوان والشيوعيين في مصر كذلك.

وبعودة عارف كرئيس صوري مرة أخرى للسلطة، توقع الكل أن وحدة ستحقق بين مصر والعراق أخيرًا، ولكن عبد الناصر الذي كان هاجسه فشل تجربة الوحدة في الجمهورية العربية المتحدة، ظل دائمًا يبتعد عشر خطوات، كلما هرولت إليه الوحدة خطوة.