هناك لحظات في مشوار الكتابة، تربط المرء بصورة نهائية بتلك العملية، ولا يتمكن من الإفلات منها مهما حاول. سوف أحكي هنا قصة إحدى اللحظات التي ربطتني بعملية الكتابة وليس بإنتاج القصص.

في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كنت أحاول تعلم كيف تُكتَب القصص، وكنت منتبهًا إلى أثر الكُتّاب الذين أحبهم على أسلوبي وطريقتي في النظر، فلم أشعر بالتحقق واعتبرت ما أكتبه مجرد تمرينات على الكتابة.

في ذلك الوقت حاولت كتابة رواية قصيرة، عن أسرة ريفية، سافر ابنها الشاب إلى العراق، وهناك سقط من فوق السقالة وتُوفي. استطردت في الكتابة عن معاناة تلك الأسرة، بسبب غياب الابن، وانتظار المستقبل المشرق، عندما يعود حاملًا نقودًا تسمح له أن يبني بيتًا ويتزوج؛ فقد كان الابن الوحيد للعائلة.

كتبت كثيرًا من الصفحات متنقلًا بين الأب والابن والأم، وأجواء مدينة كركوك في العراق وأجواء سنوات الثمانينيات في قرية مصرية. لم يكن الأمر يسير على نحو جيد، ولكني كنت أواصل الكتابة، إلى أن وصل خبر موته. أثناء انتظار وصول الجثمان من العراق، حدث للأم ما يشبه اللوثة وقد قررت أن تصنع له عروسًا من القماش، وتضعها جنب قلبه المتعب؛ مادام لم يتزوج في الحياة، فيأخذ عروسته معه إلى هناك.

رأيت هذا المشهد الصغير يلمع في ركام الصفحات التي كتبتها، وبطريقة غامضة شعرت أن كل ما كتبته، كان من أجل أن يتبلور هذا المشهد. مزّقت كل الصفحات واحتفظت بمحاولة الأم صنع عروس لابنها الميت. ثم حاولت كتابة القصة بطريقة جيدة. لكن المرء لا يسبق تطوره؛ فقد كان أسلوبي لا يزال يحمل بصمات التقليد أكثر مما يشع بلونه الفريد. أسميت القصة «روح الدار» وأرسلتها بالبريد إلى «أخبار الأدب» في بداية صدورها في التسعينيات، ونشروها بعد فترة طويلة من الانتظار.

أثناء أحداث 2011، رأيت صور الشباب الذين استشهدوا في تلك الأحداث، وتخيلت أمهاتهم، محاولًا أن أفهم معنى تحمل الألم. كيف يضطرنا أن نُوسِّع الحياة، ونستعين بكل ما نملك. قوة الحياة الداخلية تقاوم وتستدعي كل شيء حولها من الأشياء والعقائد القديمة حتى يمكن أن يجد المرء عزاء، ورغم ذلك يظل الألم صافيًا قائمًا ينفرد بنا.

عند ذلك تذكرت تلك القصة القديمة. بحثت في أوراقي عن مسوّدة لها، وفي أعداد «أخبار الأدب» التي كنت أحتفظ ببعضها في تلك الفترة، ولكن القصة لم يكن لها وجود، كأنها كانت حدثًا لم يحدث.

بسبب رغبتي الشديدة في العثور على القصة وفشلي في الحصول على نسخة منها حتى لا تضيع، حاولت كتابتها من الذاكرة.

هذه نسخة الذاكرة التي كتبتها في ذلك الوقت:

العريس

الألم يجبرنا على توسيع أرواحنا وتأخذ الأشياء المحيطة بنا حيوية لم تكن لها. يستدعي الألم الأشياء المحيطة بنا: المقاعد والملابس والصور والذكريات، ويستدعي أيضًا قيمًا روحية قديمة، كما حدث مع إحدى قريباتي في بداية الثمانينيات. كان ابنها الكبير قد سافر إلى العراق، وسقط من فوق سقالة في مدينة كركوك ومات. فقدت تلك الست الريفية البسيطة سيطرتها على نفسها في الأيام الأولى. التم الناس حولها يصبرونها حتى يأتي الجثمان من العراق.

كان ذلك في الشتاء. قضت عدة أيام لا تدرك ما حولها كما وصفتها أمي، وذات يوم وجدوها تهيم في الدار، تلم أشياء من هنا وهناك، قطعًا صغيرة من ملابسه القديمة، شرائط قماش ملونة تستعملها أخته في تضفير شعرها، ورقة من ورق القرآن مدفوسة في شقوق الحائط، خرزة من خرز السبحة، نسيلة من طرحتها. جمعت أشياء غريبة، وقال الأقارب: «السكين سارقها»، والتمسوا لها العذر. منْ يقدر على تلك المصيبة؟ فهو ابنها الوحيد الذي أقامت حياتها من أجله، وانتظرت أن يأتي لتزفه إلى عروسه وتفرح بأبنائه. كيف يمكن تحمل كل هذا؟

الشكوك في صحة قواها العقلية بدأت في اليوم الذي قطعت بالمقص قطعة من جلباب قديم لأخته؛ قطعة من القماش بها زهور صفراء صغيرة، مضيئة مثل الشمس، وراحت تقصها على شكل عروس صغيرة، تشبه عرائس القماش التي تصنعها البنات للعب، وراحت تحشي جوف العروسة بكل ما جمعت من أنحاء الدار، حتى جاء وقت الدفن.

كانت الجثث التي تأتي من المطارات مسنكرة، أصرت على أن يُفتَح الصندوق، لكي تضع عروسه بجانب صدره، ويومها قالت عديدًا لم يتحمّله لا الرجال ولا النساء، أبياتًا من شعر الموت تسأل فيها العريس عن أحواله وهل يفرح قلبه بالفوانيس المُضاءة وموكب العروسة القادم إلى داره، وتطلب منه أن يُحدِّثها عمّا يمكن أن يُفرِح قلبه.

لحظة كتابة قصة «روح الدار» في نهاية الثمانينيات، من اللحظات التي ربطتني بالكتابة، باعتبارها مصدرًا للمعرفة العميقة بحياة لا نعلم عنها شيئًا، تسكن أعماق وجداننا. لقد شعرت للتو بأصالة القصة لأنها آتية من عمق لم أكن أعرفه قبل أن تظهر على الورق.

لقد كانت بعثًا لموروث قديم لم أكن قد انتبهت أنه محمول في وجداني، وقد انبثق هذا المشهد في وقت لم أكن أعرف أي شيء -غير المعلومات المدرسية- عن تاريخ مصر القديمة وعقائدها.

منذ ذلك الوقت انتبهت إلى أثر المكونات الداخلية للوعي على الكتابة، فهناك يكمن جماع الإحساس والتصورات، وهناك ما عشناه وما عاشه أجدادنا، وما هو موروث من الخبرة الجمعية كما يقول «كارل جوستاف يونج». تلك الذاكرة الغائرة هي المنبع الذي تأتي منه الكتابة الأصيلة، مهما كان المستوى الفني.

لم أفكر كثيرًا في ذلك الوقت في المستوى الفني، بل في الاقتراب من المنبع، لكي أتخلص من سطوة الأفكار الرائجة والنماذج الجمالية التي كانت سائدة في التسعينيات. احتملت وقتها النظر إلى ما أكتب على أنه بسيط وساذج. لم أهتم، وواصلت العمل بالقرب من المنبع.

عرفت أننا نعيش بقدر يسير من الانتباه، القدر الذي يساعدنا في التعامل مع مشاكلنا وتصريف أمور حياتنا اليومية، دون الانتباه إلى أن خبرتنا أعمق بكثير مما ندركه من الانطباعات السائلة، وأن الانتباه إلى الجو والمناخ وحركة الناس ونبرة الكلام ورائحة الأرض بعد المطر والإحساس بالألوان والأصوات ومعايشة القصص التي تحدث حولنا، كل تلك العناصر الخفية التي تعطي للأعمال الأدبية رونقها دون أن نستطيع أن نضع أيدينا على مصدرها، يعيد تشكيل محتوى تلك الذاكرة الغائرة، أو ما يُطلق عليه في كتب علم النفس، «العقل الباطن».

فعندما يعيش المرء كل ما يدور حوله بانتباه، فإن الوعي الشائع والمُكرر وسطوة التداعيات تقل، وحتى التداعيات نفسها يمكن توجيه دفتها، لنحد من سيطرتها على الوعي، ونحوِّلها إلى مادة للمراجعة وتتبع سلاسلها والمثيرات التي تدفعها إلى الظهور. هذا الانتباه يثير مكنونات العقل الباطن، ويزوِّدها بمفردات جديدة تبعث الرعشة في أرجاء جبل الجليد الغافي، وبدلًا من أن يفرض سطوته علينا فإننا نوجهه إلى أغراضنا الخاصة ونثري محتواه.

بقدر ثراء الذاكرة العميقة وبقدر اتساع الوعي، بقدر ثراء النصوص التي ننتجها؛ فالأعمال الأدبية هي صورة من الحياة الذهنية والشعورية والإدراك الداخلي للكاتب، يظهر فيها اهتماماته وإدراكه للعالم وأعمق مكنونات وعيه، إنها صورة لمدى إدراكه وتعمق نظرته وفهمه لطبيعة المأزق الإنساني.