العمليات العسكرية في سيناء انتهت ودخلنا مرحلة التطهير.

هكذا صرح اللواء أحمد وصفي قائد الجيش الثاني الميداني للصحافة في الثاني من أكتوبر 2013، ليبدأ الأمل يعود من جديد للشعب المصري ومواطني سيناء تحديدا في استقرار الأوضاع تباعا وعودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل أن تبدأ هذه الأزمة الكبيرة المتعلقة بالحرب على الإرهاب في المنطقة، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه التصريحات.

فمن تاريخه وحتى اليوم لم تتوقف العمليات الإرهابية لتنظيم داعش في سيناء، بل اتسعت رقعتها وكذلك استمرت العمليات العسكرية في المنطقة من قبل قوات الجيش ومد حالة الطوارئ واتخاذ إجراءات استثنائية بخصوص سيناء، لنستيقظ منذ أيام على مشهد نزوح قسري مرعب لعشرات الأسر من المسيحيين المقيمين في منطقة العريش يحملون ما قدروا على حمله من ملابس فقط، يبحثون عن أي ملجأ آمن لهم ولأبنائهم، وذلك بعد أيام دامية من استهداف المسيحيين في العريش من قبل عناصر من تنظيم داعش الإرهابي، ليصل عدد المقتولين في أيام قليلة لسبعة مسيحيين قتلوا أمام زوجاتهم وأبنائهم.


داعش والمسيحيون

ربما يظن البعض أن البداية كانت يوم الأحد 11 ديسمبر 2016 حينما اهتزت سماء القاهرة بدوي تفجير الكنيسة المرقسية الدامي بالعباسية قبل أيام قليلة من العيد، قُتل على إثره 25 شخصاً وأصيب 31 آخرون، بسبب عبوة ناسفة تزن 12 كيلوجراما، ليصدر تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) إصدارا مصورا على مواقعه يتبنى فيه تفجير الكنيسة ويتوعد باقي المسيحيين بأنهم جميعا مستهدفون، لكن مينا إسحاق يخبرنا عكس ذلك بقوله:

دي مش أول مرة يحصلنا فيها كده، بس المرة دي خلاص معدش فيها رجوع طول ما الوضع كده.

لو تحدثت مع أي من الأسر المسيحية النازحة إلى الإسماعيلية فستسمع قصة مؤلمة وربما مرعبة في بعض الأحيان تتخللها الدماء والذكريات الأليمة والدموع والتنهيدات والنظرات غير المحددة لمستقبل مجهول، هكذا قصة مينا في رحلته مع أسرته التي تعيش في العريش منذ زمن بعيد عانى من نفس الأزمات التي يعاني منها كل المواطنين المصريين، وفوق ذلك من اضطهاد من نوع خاص لمجرد أنه يعتنق الديانة المسيحية.

مينا عزت يعقوب إسحاق أحد مسيحيي العريش النازحين يبلغ من العمر 33 عاما، لكن ملامح وجهه تحمل آلاما ومعاناة مئات السنين، حاصل على بكالريوس تجارة، متزوج وكان يعمل حدادا في ورشته بالعريش وبعد نزوحه إلى الإسماعيلية، يقيم حاليا في شقة صغيرة بالإسماعيلية هو وزوجته وابنه ووالده ووالدته وإخوته وفرتها لهم الكنيسة الإنجيلية هناك، حينما بدأت الحديث معه تنهد طويلا ثم انفجر يحكي رحلته المؤلمة، يتخلل ذلك بعض الدموع التي تخرج من عينيه رغما عنه كلما تذكر موقفا مر به أو تحدث عن حالة أسرته.


رحلة مينا مع داعش

تبدأ رحلة مينا المؤلمة منذ بداية عام 2015، حيث قام بعض عناصر تنظيم داعش الإرهابي بقتل أحد أفراد عائلته أمام منزله ليضطر أن يترك منزله وورشته في العريش، وينتقل للسكن مع أسرته في إحدى المحافظات حتى شهر مايو 2015 حينما قرر العودة مرة أخرى إلى العريش مع أسرته، استقرت الأوضاع نسبيا للأسرة حتى 3 مايو 2016 حيث تمت تصفيته أثناء عودته من عمله بإطلاق أربع عشرة رصاصة في جسده.

في هذا الوقت احتارت الأسرة فيما يمكن أن تقوم به، فهم لا يريدون ترك منازلهم وعملهم والأرض التي ولدوا وعاشوا عليها، وفي نفس الوقت لا يمكنهم الاستمرار بهذا الوضع غير الآمن لأي منهم لتقوم الأسرة بحسم أمرها بعدها بعدة شهور، وذلك بعد حادثة اغتيال القس رفائيل موسى كاهن كنيسة مارجرجس بالعريش، في هذا الوقت حسم مينا أمره وقام ببيع جزء من ورشته ومعداته ثم سافر للعمل بإحدى شركات القطاع الخاص بمدينة دمياط ليعود مرة أخرى إلى مدينة العريش في نهاية العام المنصرم 2016 ليقوم بشراء ورشة جديدة في مكان آخر بمدينة العريش.

قولنا السنة الجديدة ممكن تجي بحاجة جديدة والوضع يستقر بقى والدنيا تمشي وبعدين أنا معرفش بلد غيرها اتولدت وعايش فيها بس اللي حصل عكس كده خالص.

هكذا عبر مينا عن سبب عودته مرة أخرى للعريش بعد حادثة الأنبا رفائيل برغم تأثيرها الشديد عليه، لكن الأمور لم تسر بحسب ما قد أمله أو خطط له، فمع نهاية يناير 2016 بدأت موجة عمليات استهداف وقتل منظمة من قبل عناصر التنظيم للمسيحيين المقيمين بالمدينة، وتهديد بمعاقبة المتبقين منهم، مما دفع الأسر المسيحية بالمنطقة لملازمة منازلهم أو التجمع في الكنائس خوفا من الاستهداف والقتل من قبل عناصر التنظيم.

طالت التهديدات أسرة مينا، حيث قام مجهولون برسم صليب على باب ورشته والسؤال عنه أثناء إغلاق ورشته من أشخاص قال عنهم الجيران إنهم غرباء، مما جعله يشعر بأنه مستهدف هو وأسرته، ووسط مخاوف من المحيطين واستمرار عمليات الاضطهاد قرر الرحيل مرة أخرى خارج مدينة العريش، لكن كما عبر بكل حزن وأسف هذه المرة لن يعود مرة أخرى حتى تستقر الأوضاع تماما وتصبح المدينة آمنة له ولأسرته.

عايزك تحط نفسك مكاني، من يوم ما اتولدت وأنا عايش في البلد وبشتغل وبعمل كل اللي أقدر عليه ومع كل مشكلة أمشي وأرجع تاني أنا معرفش بلد غيرها واتخرجت ومشتغلتش لا أنا ولا أخويا ومتبهدلين آخر بهدلة وبنقول الحمد لله عايشين وراضيين، إنما في الآخر يبقي هو ده الحال قاعد في البيت خايف أخرج ومراتي هي اللي تطلع تشتري الحاجات اللي محتاجينها ولا عشان أقضي مصلحة أطلع متلتم أو لما يمسكوني أقول الشهادة أو أموت دي مش عيشة دي، وبردو مفيش حد يقف ولا يدافع عننا وأسيب البلد غصب عني ونطلع بشوية هدوم وعفش بس، هي دي البلد؟ حط نفسك مكاني بس وأنت هتعرف الإحساس لاأي مش هعرف أوصفه.

هكذا عبر مينا بحزن وغضب عن مشاعره مما حدث له طوال تلك الرحلة العصيبة التي ذاق فيها الأمرين، والتي لا يستطيع العقل استيعابها، لينتهي به المطاف في شقة مساحتها ستين مترا يعيش فيها هو و6 أفراد آخرين ممن تبقوا من عائلته.

في نهاية لقاء إضاءات معه لم يطلب مينا الكثير سوى الأمن له ولأسرته وحل مشاكلهم بسرعة، حتى لا تتدهور أوضاعهم أكثر من ذلك، ووجه رسالته للحكومة وأصر على نشرها كما قالها:


نزوح وتهديدات مستمرة

كل اللي عايزينه إنكم تبصولنا بعين الرأفة وتعتبرونا مواطنين في البلد دي، يعني تسيطروا على الوضع في العريش وتأمنونا ونرجع بيوتنا يا إما تقولولنا إن ده مينفعش ونبيع بيوتنا هناك ونشوف أي شقق رخيصة في أماكن تانية نعيش فيها أو نعمل لجوء في أي دولة تدينا إقامة ونعيش فيها من غير ما حد يأذينا أو يقتلنا أو يسألنا إنتوا دينكم إيه، وياريت الحل يكون في أسرع وقت لأن الوضع مينفعش يستمر كده ومعلش يعني دي مهمة الدولة مش أروح أطلب منهم الحماية يقولوا لما نعرف نأمن نفسنا الأول، ومش عايز حد يقول عليَّ بشوه سمعة البلد أنا بس عايز حقي وعايز أعيش.

وبناء على شهادات النازحين فإن عدد الأسر التي نزحت إلى الإسماعيلية يزيد على الستين أسرة، بينما هناك أسر قد سافرت إلى أقاربهم في المحافظات لحين السيطرة على الأوضاع أو الوصول لحل للأزمة.

بحسب ما ذكره مينا ثابت مدير ملف الأقليات بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات، فإن كثيرا من الأسر مازالت موجودة بالعريش لم تقدر على مغادرة المدينة بسبب عدم استطاعتهم المادية على الانتقال مما يجعلهم معرضين للخطر بشكل كبير بينما هناك أسر مازالوا في طريقهم للخروج.

مازالت التهديدات مستمرة لمسيحيي العريش، ومازال الرعب والقلق منتشرا بين الأسر هناك خاصة بعد انتشار خبر تحطيم كاميرات المراقبة للمرة الثالثة بشوارع المدينة، وذلك بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على العمليات العسكرية ضد الإرهاب بشمال سيناء، وأيضا على تصريحات اللواء أحمد وصفي التي ذكرنها سابقا مما يدفعنا للسؤال هل أصبحت سيناء خارج السيطرة؟