لا أعتقد أنكم ستشهدون إغلاقاً آخر للحكومة الفيدرالية، وإذا حدث ذلك مرة أخرى، فهو خطأ الديمقراطيين.

هكذا علق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 12 فبراير/شباط 2019، على الانتهاء المؤقت لإغلاق الحكومة الفيدرالية بعد فترة إغلاق هي الأطول في التاريخ، وثالث إغلاق في ظل ولاية ترامب الأولى، ومن المستبعد أن يكون الأخير، في ظل سعيه لتمويل جدار على طول الحدود الأمريكية الجنوبية لوقف الهجرة غير الشرعية للبلاد.

في الوقت نفسه، يمثل إنهاء الإغلاق أمراً مؤقتاً في حد ذاته، لاسيما أن توقيع الرئيس الأمريكي على تمويل مؤقت لعمل الحكومة الأمريكية في 25 يناير/كانون الثاني 2019، كان مرتبطاً بمهلة ثلاثة أسابيع لإفساح المجال للتفاوض حول تمويل الجدار الجنوبي. وقد يتكرر الإغلاق حال الفشل في الوصول إلى تسوية مرضية، ناهيك عن غموض مصير قرار ترامب الأخير بإعلان حالة الطوارئ المحلية.

ولا شك أن قرار الإغلاق والذي استمر لنحو 35 يوماً كان أمراً مرهقاً للاقتصاد الأمريكي، والذي أثّر على 9 إدارات فيدرالية من أصل 15، بل وكلّف الاقتصاد الأمريكي نحو 6 مليارات دولار، وفقاً لوكالة «ستاندرد أند بورز» للتصنيف الائتماني، وهي تفوق التمويل الذي طلبه ترامب والبالغ 5.7 مليار دولار. فهل فشل التسوية بين الرئيس الأمريكي والكونجرس برئاسة نانسي بيلوسي سيطيل أمد الأزمة وتعطيل الحكومة الأمريكية مرة أخرى؟


الإغلاق الحكومي: ما هو؟

تستند آلية التعطيل الحكومي، على قانون الحماية من العجز المالي، وهي أحد العوارض من الخلافات المستمرة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، واللذان يشكلان جناحي الحكم في مجلسي النواب والشيوخ.

يسيطر الرئيس والكونجرس على بعضهما البعض بحكم مقتضيات الدستور الأمريكي، إذ ينصّ على ضرورة موافقة الكونجرس على الموازنة العامة للحكومة الفيدرالية، قبل إقرارها من الرئيس الأمريكي. وتعمل الحكومة الفيدرالية وفقاً لموازنة مالية تمتد منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول وحتى منتصف سبتمبر/أيلول من كل عام. وإذا فشل الكونجرس في تمرير كافة فواتير الإنفاق التي تخص الحكومة الفيدرالية أو حتى تمويل مؤقت بنهاية العام المالي، أو إذا لم يقم الرئيس بالتوقيع اعتراضاً على بعض مشاريع قوانين الإنفاق الفردية، فإنه يتم تعطل بعض وظائف الحكومة غير الأساسية بسبب نقص التمويل المرخص له من الكونجرس.

ووفقاً لقانون الحماية من العجز المالي، وهو قانون يتم تفعيله في حال لم يُصادق الكونجرس على الموازنة، يتم إقفال العديد من مؤسسات الدولة الفيدرالية غير الضرورية، بسبب عجزها عن تمويل أنشطتها الاقتصادية والإدارية.

إن آلية التعطيل تطول الرئيس الأمريكي شخصياً، على اعتبار أن ثلاثة أرباع موظفي البيت الأبيض سيغيبون عن العمل، كما ستُغلق المتنزهات الوطنية ومكاتب وجوزات السفر، إلى جانب انخفاض وتيرة العمل بشكل كبير في الإدارات الأمريكية الكبرى، في حين سيواصل العسكريون نشاطهم اليومي مع العلم أنهم سيتلقون أجورهم لاحقاً. وهكذا من الممكن لمليون موظف أن يجدوا أنفسهم في عطلة قسرية. ويبقى إغلاق الحكومة ساري المفعول حتى يتم التوصل إلى حل وسط وتمرير مشروع قانون الموازنة.

وحقيقة الأمر أن الإغلاق الحكومي لا يعني توقف إدارات الحكومة الفيدرالية كافة، وإنما يمثل إغلاقاً جزئياً لبعض إدارات الحكومة الفيدرالية الأمريكية، لا سيما وأن 75% من التمويل للحكومة الفيدرالية يتم فعلياً عن طريق الموازنة المالية أو طلب تمويل اتحادي مؤقت لحين إقرار الموازنة العامة، وهذا يُمكّن الإدارات الضرورية من تمويل أنشطتها، بينما يقتصر التعطيل الجزئي على الإدارات الفيدرالية والتي تُصنف على أنها غير ضرورية وتمثل النسبة المتبقية، أي 25%. وفي التعطيل الجزئي الأخير تأثرت نحو 9 من أصل 15 إدارة فيدرالية على مستوى الحكومة الأمريكية، بما في ذلك وزارة الأمن الداخلي والعدل والنقل والداخلية والزراعة.


منذ متى؟

تعرضت الحكومة الأمريكية لنحو تسع عشرة آلية تعطيل بين 1976 حتى 2013، وتراوحت مدة الإغلاق بين ثلاثة أيام في يناير/كانون الثاني 2018، و35 يوماً في الإغلاق الأخير والذي استمر حتى 25 يناير/كانون الثاني 2019.

وتكرر حادث إغلاق الحكومة مرتين في عهد الرئيس كلينتون؛ الأولى، كانت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1995 واستمرت 5 أيام فقط، وتوقف 800 ألف موظف فيدرالي عن عملهم. والثانية، استمرت 21 يوماً من ديسمبر/كانون الأول 1995 وحتى يناير/كانون الثاني 1996، وتوقف 475 ألف موظف عن عملهم دون أجر. كذلك شهدت ولاية باراك أوباما الثانية إغلاق الحكومة على خلفية برنامج «أوباما كير» عام 2013 واستمر توقف الحكومة لمدة 16 يوماً.

بينما مثّل الإغلاق الأخير حدثاً فريداً من نوعه خلال العقود الأربعة الماضية، من حيث إنه كان الثالث خلال العام نفسه. ناهيك عن أن انتهاءه ما زال هشاً، فمن الممكن أن يتم إعادة إغلاق الحكومة الأمريكية مره أخرى على خلفية تبادل الاتهامات بين الرئيس الأمريكي والكونجرس حول تمرير موازنات الحكومة الفيدرالية وتضمينها تمويل بناء الجدار الحدودي.


الإغلاق الأطول: ما أسبابه؟

يمكن اعتبار أن السبب الرئيسي في تعطل الحكومة الأمريكية هو فشل الكونغرس والبيت الأبيض في الاتفاق على تمرير مشروع قانون إنفاق قدره 5.7 مليار دولار، لبناء 234 ميلاً إضافياً للحاجز الأمني الحالي على طول الحدود الأمريكية مع المكسيك، وهو أحد أهم وعود ترامب الرئاسية، التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية.

ورغم التعهد المتكرر بأن المكسيك ستمول بناء الجدار، فإن الرئيس الأمريكي يُطالب الآن بمبلغ 5.7 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب للمُضي قدماً في بناء الجدار الحدودي. ويقف الديمقراطيون ضد اقتراح بناء الجدار، في حين هددّ ترامب بأن الإغلاق، الذي قال إنه يفخر بتحمل المسئولية عنه، يمكن أن يستمر لمدة «أشهر أو حتى سنوات». وينظر الحزب المعارض إلى الجدار على أنه مضيعة للمال لخدمة أغراض سياسية للرئيس.

من جانبها قالت بيلوسي، رئيسة الكونجرس، إنه:


تداعيات الإغلاق

يؤثر التعطيل للحكومة الفيدرالية الأمريكية على نحو 25% من الموظفين الحكوميين، ولا يطول الثلاثة أرباع المتبقية والذين ينظر إليهم بأنهم «موظفون أساسيون»، وبذلك فإن الأثر الأولي هو توقف، أو العمل دون أجر لنحو 800 ألف عامل فيدرالي، كثيراً منهم لن يحصلوا على رواتب للمرة الثانية منذ أن بدأت المواجهة في واشنطن قبل أعياد الميلاد.

ووفقاً لتحليل صادر عن وكالة التصنيف الائتماني، ستاندرد آند بورز، فقد اقتصاد الولايات المتحدة ما لا يقل عن 6 مليارات دولار في الأسابيع الخمسة التي أغلقت فيها الحكومة الأمريكية أبوابها وهي أكثر من 5.7 مليار دولار التي طلبها ترامب لبناء حاجز من الصلب أو الخرسانة على الحدود الجنوبية، ويرى الديمقراطيين أن الأمر لا يخص مقدار التخصيص المالي بقدر النظر إلى السياسات الحكومية والأولويات، بعيداً عن أحلام وطموحات الرئيس ترامب.

إلى جانب ذلك أبلغت الكثير من السفارات والقنصليات الأمريكية جمهورها بتعليق خدماتها مؤقتاً، ومنها التأشيرات بسبب أزمة الإغلاق الحكومي، واعتذرت عدد من المؤسسات عن هذا الخلل الطارئ، في حين اضطر عدد منها لإحالة موظفيها والدبلوماسيين للإجازة.

ووفقاً لمكتب العمل الأمريكي، هناك خسارة يومية تقدر بنحو 86 مليون دولار من أموال الضرائب المحتملة عن 25% من القوة العاملة بالإدارات الفيدرالية، علاوة على تقييد العمل ببعض المطارات مثل مطاري، نيويورك وفيلادلفيا، الأمر الذي تسبب في تأخر كبير لرحلات الطيران.

أضف لذلك تأثر الرعاية الصحية والاجتماعية وتحول الكثير من العمال الموقوفين عن العمل إلى بنوك الطعام. وتأخر إصدار نحو 80 ألف طلب جواز سفر ومثلهم طلبات تأشيرة سفر للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني خسارة ملايين من الدولارات من السياحة الخارجية، علاوة على طرد مليوني زائر من المتنزهات الوطنية وهو ما يُمثل مزيداً من الخسائر.


إغلاق آخر يلوح في الأفق

ليس هناك أي عذر للرئيس ترامب لإبقاء الحكومة مغلقة بسبب مطالبه بجدار غير مجدٍ ومهدر للأموال… فهو يعرض صحة وسلامة الشعب الأمريكي للخطر ويسرق رواتب من 800 ألف عامل بريء بسبب الإغلاق.
قال ترامب:
اسمحوا لي أن أكون واضحاً للغاية، فليس لدينا أي خيار سوى بناء جدار أو حاجز فولاذي قوي. إذا لم نحصل على صفقة عادلة من الكونغرس، فستغلق الحكومة في 15 فبراير/شباط مرة أخرى، أو سأستخدم الصلاحيات الممنوحة لي بموجب القانون ودستور الولايات المتحدة لمعالجة هذه الحالة الطارئة.

ومع انتهاء المهلة المحددة في 15 فبراير/شباط الجاري دون الوصول إلى تسوية، إلا أن الحكومة الفيدرالية ما زالت تعمل. بينما تلوح في الأفق خلافات حادة بين جناحي الحكم، البيت الأبيض والكونجرس، بعد توقيع ترامب قرار إعلان «حالة الطوارئ الوطنية»، واعتبرت المعارضة، التي ترفض تشييد الجدار، هذا القرار «انقلاباً عنيفاً»على الدستور.

حيث إن إعلان حالة الطوارئ يمنح الرئيس القدرة على استقطاع تمويل الجدار الحدودي دون الحاجة إلى موافقة الكونجرس. إذ سيمكن ترامب من الوصول لقرابة 8 مليارات دولار تتوزع كالآتي: 1.4 مليار دولار من الموازنة العامة، و0.6 مليار دولار من الأموال المُصادرة من مهربي المخدرات، و2.5 مليار دولار من صندوق مكافحة تجارة المخدرات التباع لوزارة الدفاع، وتخصيص 3.5 مليار دولار من أموال الإنشاءات العسكرية.

ويأتي تمسك ترامب بوعده الانتخابي الأبرز، وهو بناء الجدار الحدودي الجنوبي مع المكسيك، أن عدم اتمامه قبل 2020 سيُقلل من فرص إعادة انتخابه مره أخرى. ومن جهتها أكدت بيلوسي أنها تدرس الخيارات لمواجهة إعلان ترامب حالة الطوارئ من بينها اللجوء إلى القضاء، في حين قال زعيم الأقليّة الديمقراطية بمجلس الشيوخ «تشاك شومر»، إن إعلان الطوارئ «سيكون أمراً سيئاً للغاية».