في أحد أيام صيف عام 1476، وضع كاتب يُدعى موسى بن زبارا اللمسات الأخيرة على نسخة من الكتاب المقدس اليهودي (العهد القديم)، بتكليف من عائلة يهودية ثرية من مقاطعة لا كورونيا في منطقة غاليسيا، شمال غربي إسبانيا.

وبعد مرور ما يقارب ثلاثة قرون، تحديدًا في عام 1771، دخل التاجر الأسكتلندي باتريك تشالمرز إلى مكتبة رادكليف، بجامعة أوكسفورد، يحمل نسخة من الكتاب المقدس اليهودي، كُتبت في عام 1476، كان قد اشتراها في جبل طارق، ومن هناك يمكننا تتبع المخطوطة إلى شمال أفريقيا ثم إلى مقاطعة لا كورونيا في إسبانيا، حيث تمت كتابتها.

حينها أدرك الباحث بنيامين كينيكوت، القس الإنجليزي الذي كان يدرس نصوص الكتاب المقدس اليهودية في مكتبة رادكليف، أهمية تلك النسخة واشتراها من التاجر مقابل 50 جنيهًا. وظلت النسخة ملكًا لمكتبة رادكليف حتى عام 1872، ثم انتقلت إلى مكتبة بودلي، وهي المكتبة البحثية الرئيسية لجامعة أوكسفورد.

المختلف في تلك النسخة أن صفحاتها تعجُّ برسومات وزخارف جميلة، ترى بداخلها تنينًا وطاووسًا وقردةً وأشكالًا هندسيةً معقدة، واستغرقت كتابتها 10 أشهر كاملة وكانت تتطلب دراسة متأنية، بجانب أنها تحتوي على العهد القديم بأكمله (التناخ)، وهو الجزء الأكبر من الكتاب المقدس ويحتوي على كل كتب اليهود بما فيها التوراة (الكتب الخمسة الأولى).

تجمع نسخة كينيكوت من الكتاب المقدس بين الزخارف الإسلامية والمسيحية واليهودية، وتمثل نموذجًا لتعاون بين الأديان السماوية الثلاثة في إسبانيا خلال العصور الوسطى، هذه النسخة من الكتاب المقدس تعد واحدة من أفضل المخطوطات العبرية الموجودة حتى الآن، وأغرب نُسخ التوراة على الإطلاق.

كتاب كينيكوت المقدس
 

كُتبت تلك النسخة قبل 16 عامًا فحسب من طرد اليهود من إسبانيا عام 1492، ولكن تاريخ المخطوطة منذ طرد اليهود من إسبانيا حتى وصولها إلى مكتبة جامعة أوكسفورد عام 1771 يظل لغزًا عجز الباحثون عن معرفة تفاصيله.

لكن ما نعرفه هو تاريخ وظروف كتابتها، والسياق التاريخي لما تمثله نسخة كينيكوت من الكتاب المقدس.

كتاب كينيكوت المقدس: النسخة الأكثر فخامة!

ازدهر فن الرسم والزخرفة في الكتاب المقدس للديانة اليهودية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر في أجزاء مختلفة من إسبانيا، ويطلق عليها النصوص السفاردية، إذ يُشار إلى اليهود الذين غادروا إسبانيا أو البرتغال بعد طردهم عام 1492 باسم يهود «سفارديم – Sephardim» وهي تأتي من الكلمة العبرية لوصف إسبانيا Sepharad التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس. ومن بين مخطوطات تلك الفترة يظهر عدد من الكتب المقدسة العبرية المُذهبة، ومعظمها يدين بالفضل للفن الإسلامي في تلك الفترة، الذي بالغ في الاعتناء بتزيين المصاحف وكتب السيرة النبوية.

بدأ فن النصوص السفاردية في التراجع مع نهاية القرن الرابع عشر، وكانت الأسباب على ما يبدو ترجع إلى تدهور الوضع السياسي والاقتصادي لليهود، والاضطهاد الذي أعقب وباء الطاعون (الموت الأسود) عام 1349، والمظاهرات المعادية لليهود عام 1391. مع ضعف القوة الاقتصادية للنخبة اليهودية، التي كان أعضاؤها رعاة المخطوطات المزخرفة، مثل العائلة التي كانت ترعى وتدفع ثمن العمل على كتابة نسخة كينيكوت من الكتاب المقدس.

معظم الكتب التي أُنتجت في القرن الخامس عشر تشمل بعض الزخارف المتواضعة والبسيطة فحسب، ومخطوطات الكتاب المقدس ليست استثناءً. وفي هذا السياق، هناك نسخة واحدة من الكتاب المقدس تعدّ الاستثناء عن هذا التراجع الفني وهي نسخة كينيكوت.

يُنسب اسم نسخة الكتاب المقدس إلى بنيامين كينيكوت، الباحث والقس الإنجليزي، في مكتبة جامعة أوكسفورد، الذي واصل التقليد الإنجليزي الشهير بدراسة الكتاب المقدس العبري والنصوص التوراتية.

بدأ تاريخ المخطوطة في مقاطعة لا كورونيا بمنطقة غاليسيا، شمال غربي إسبانيا، عام 1476، عندما كلّف أحد أعيان العائلات اليهودية في مدينة براغا البرتغالية (دون سولومون دي براغا) كاتبًا مشهورًا في ذلك العصر وهو موسى بن زبارا بكتابة نسخة من التناخ (العهد القديم) لابنه إسحاق، بالتعاون مع الحاخام واللغوي ديفيد قمخي الذي ألّف كتاب «مخلول» وهو قاموس ومعجم في اللغة العبرية.

في خاتمة الكتاب، يقول موسى بن زبارا إنه: «أنهى العمل في بلدة لا كورونيا في غاليسيا، شمال غربي إسبانيا، يوم الأربعاء، اليوم الثالث من شهر آبيب في عام 5236 من الخلق (24 يوليو عام 1476)»، وأنه كان مسؤولًا عن نسخ النص كُلََّه وتدقيقه وتصحيحه.

منذ بداية كتابتها، كان الهدف من تلك النسخة أن تظهر كعمل فني فخم، ولهذا تم تذهيبها، وهو مصطلح يشير إلى المخطوطات المزخرفة إما بالفضة أو بالذهب. الكتاب مكون من 922 صفحة، منها 238 صفحة تضيئها ألوان مفعمة بالحياة، على أوراق مصقولة بالذهب والفضة. كما صُنع الصندوق الخارجي الحافظ للكتاب من جلد الماعز المغربي، مع نقوش وزخرفات على كل جوانبه الخارجية.

الفنان اليهودي يوسف بن حاييم، الذي كان متخصصًا في تذهيب الكتب في القرن الخامس عشر، دوّن كلمته الختامية في نهاية الكتاب ليسجل مشاركته بهذه الرُّسُوم والزخارف والألوان المميزة، ولأن الكاتب دائمًا كان أكثر أهمية للفريق، فمن النادر أن تعثر على مخطوطة عبرية يُذكر بها فنان يهودي بحروف فنية ومُجسّمة في نهاية الكتاب.

وبأسلوبه الخاص صنع يوسف بن حاييم تحفةً فنيةً فريدة من نوعها، إذ تضمنت الزخارف والرسومات الملك داود جالسًا على عرشه، والنبي يونس والحوت يبتلعه، كما يذخر الكتاب أيضًا بالعديد من التنانين أو الوحوش الأسطورية، بجانب رُسُوم لباقات الأزهار، إضافة إلى عدد من الرُّسُوم المضحكة مثل الدب المهرج، الذي يرتدي السروال ويعزف على الناي، أو القرد الذي يحمل باقة من الزهور. وهذه ليست سوى أمثلة قليلة من الرُّسُوم والزخارف في نسخة كتاب كينيكوت المقدس.

وربما الرُّسُوم الأكثر غرابة هي التي تظهر محاولة اقتحام قوة من القطط المسلحة لقلعة يدافع عنها فأر، وفي الصفحة المقابلة يظهر اعتداء مماثل من جيش من الكلاب على قلعة يدافع عنها حيوان الأيل وحيدًا.

كتاب كينيكوت المقدس
 

حتى القواعد النَحْوِيّة من كتاب «مخلول» لم يتم نسخها كنصٍّ صارم، ولكنها كُتبت داخل صفحات مزينة ومزخرفة، وضعت في بداية ونهاية الكتاب المقدس، ربما لأن الهدف من تلك النسخة كان تشجيع الشاب إسحاق على الاهتمام بقواعد اللغة العبرية.

عند النظر إلى نسخة كينيكوت من الكتاب المقدس، ستكتشف التأثر بالحضارة الإسلامية في تصاميمه الهندسية المميزة، بجانب الإيحاءات المسيحية في الرُّسُوم والزخارف الحيوانية، تلك النسخة من الكتاب المقدس تعدّ تتويجًا لقرون من الاحتكاك اليهودي الإسلامي في إسبانيا.

الأندلس والعصر الذهبي لليهود ثم الطرد من إسبانيا!

في عام 409، غزا القوط الغربيون إسبانيا، وهم من الشعوب الجرمانية ومن أتباع المذهب المسيحي الآريوسي، ثم في عام 587، تحول الملك ريكارد، ملك القوط الغربيين في إسبانيا، إلى الكاثوليكية الرومانية وجعلها الدين الرسمي للدولة. وبهذا كان على الكنيسة أن تمارس تأثيرًا قويًا على كل جوانب الحياة الاجتماعية، فمثلًا في عام 589 تم تمرير قانون يحظر الزواج بين المسيحيين واليهود. وفي عام 638، أعلن القوط الغربيون أن الكاثوليك فقط هم من يُسمح لهم العيش في إسبانيا.

تحسن الوضع كثيرًا عندما دخل المسلمون إلى شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا والبرتغال) في القرن الثامن عام 711، وبدأت حضارة الأندلس التي كانت أكثر تقدمًا من أي حضارة في أوروبا ذلك العصر. كان بإمكان اليهود التعايش السلمي مع جيرانهم المسلمين، وكانوا يُعامَلون على أنهم «أهل الكتاب» تحميهم الشريعة الإسلامية، وبإمكانهم ممارسة شعائر ديانتهم بحرية.

يعدّ كثير من المؤرخين عصر الحكم الإسلامي في إسبانيا (من القرن الثامن إلى الحادي عشر) بمثابة «العصر الذهبي» لليهود في تلك الحِقْبَة. ازدهرت الحياة الفكرية والروحانية اليهودية، وخدم عديد من اليهود في المحاكم الإسبانية، كما كان التوسع الاقتصادي اليهودي غير مسبوق. وفي مدينة طُليطلة، شارك اليهود في تَرْجَمَة النصوص العربية إلى اللغات الرومانسية، وهي تشمل الإسبانية والبرتغالية والفرنسية والإيطالية والرومانية، إضافة إلى تَرْجَمَة النصوص اليونانية والعبرية إلى اللغة العربية. كما أسهم اليهود في حضارة الأندلس في علوم النبات والجغرافيا والطب والرياضيات والشعر والفلسفة.

عاش اليهود بصورة منفصلة في الأحياء اليهودية، وامتلكوا السيطرة الإدارية على مجتمعاتهم، وأداروا شؤونهم الداخلية. كما أثرت الثقافة الإسلامية على اليهود في عدّة نواحٍ من الحياة، وتداخلت بعض العادات والممارسات الإسلامية واليهودية، فمثلًا كانوا يستخدمون اللغة العربية للصلاة بدلًا من العبرية أو الإسبانية. وقبل دخول الكنيس اليهودي، كانوا يغسلون أيديهم وأقدامهم، وهي ممارسة تشبه الوضوء عند المسلمين قبل أداء الصلاة. كما استخدموا الألحان العربية للأغاني اليهودية.

بحلول منتصف القرن الثالث عشر، سيطر المسيحيون على معظم أجزاء إسبانيا، وزاد إجبار اليهود على التحول إلى المسيحية. ومن اعتنقوا الديانة المسيحية أطلق عليهم اسم المارانوس «Marranos» أو المسيحيين الجدد.

وفي عام 1391، اندلعت تظاهرات معادية لليهود في عديد من المدن الإسبانية، وتفاقم الوضع بالنسبة للمجتمع اليهودي هناك. وتعرض المسيحيون الجدد للتعذيب أو القتل في محاكم التفتيش الإسبانية خلال القرن الخامس عشر.

منحوتة للملكة إيزابيلا والملك فريناند
منحوتة للملكة إيزابيلا والملك فريناند
/

ثم في عام 1492، أمرت الملكة إيزابيلا والملك فرديناند بطرد كل اليهود الذين رفضوا التحول إلى المسيحية من إسبانيا. مُنح اليهود أربعة أشهر لمغادرة إسبانيا وأجبروا على بيع منازلهم وأعمالهم بأسعار زهيدة. وبهذا كُتبت نهاية الحِقْبَة اليهودية في إسبانيا.

ومنذ ذلك الوقت، اختفى أثر نسخة كتاب كينيكوت المقدس، ولم يُعرف عنه شيء سوى عام 1771، عندما انتقل إلى مكتبة رادكليف في أوكسفورد. نجاة تلك النسخة من الكتاب المقدس على مر كل هذه العصور والأحداث يعدّ أمراً إعجازياً. فهي تخبرنا بتاريخ تلك الحِقْبَة من إسبانيا العصور الوسطى، وكيف تعايشت الأديان الثلاثة حينها، وأثبتت أنها كانت قادرة على إنتاج الروائع، فقط.. لو كفُّ معتنقوها قليلاً عن الصراع.