أخيرًا سقط الرئيس حسني مبارك، لكن مشكلات مصر لن تُحل فقط بسقوط الرئيس. الأهم هو تصفية نظامه والخلاص من ميراثه. هذا الكتاب أخد على عاتقه تحليل نظام مبارك من مدخل الاقتصاد السياسي، وبالتحديد من مدخل قدراته على السيطرة السياسية في ظل تناقص قدراته على شراء الأتباع بسبب أزمته المالية. لقد بدأ مبارك عهده بموارد مالية كبيرة بالمقارنة بما عاش عليه في آخر سنواته.
سامر سلميان، صيف 2012.

عبد الناصر والسادات: حينما تحيزت الدولة ضد الصعيد

قامت دولة يوليو عام 1952 وتبنت الاشتراكية العربية كسبيل للتنمية الاقتصادية وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع، إلا أن هذه الاشتراكية ظلت غائبة عن الصعيد.

فالرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يضع تقليص الفجوة بين الشمال والجنوب في مصر كهدف أساسي ضمن أهداف سياساته الاقتصادية، ولم تكن هناك حاجة قوية تدفعه إلى ذلك، فهو لا يحتاج إلى ضمان تأييد إقليم معين أو يتخوف من آثار عدم تنميته، وذلك رغم أصوله الصعيدية.

ركز عبد الناصر على سياسة التصنيع السريع بقيادة الدولة، وكان أمامه خياران: إما تنفيذ تلك السياسة في المناطق المتطورة بالفعل كالقاهرة والإسكندرية، أو توزيعها بشكل متوازن بين مختلف الأقاليم.

لجأ ناصر إلى الخيار الأول، وبالفعل خصصت الدولة أكثر من نصف نشاطها الصناعي لـ 4 محافظات هي القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد، في حين حصل الصعيد والذي بلغت نسبة سكانه 30% من إجمالي سكان مصر، على 15% فقط، ما أدى إلى تنامي الفجوة بينه وبين الشمال.

أظهرت تلك السياسات الناصرية تحيز الدولة ضد الصعيد في حقبة الخمسينات والستينات، إلا أن هذا التحيز لم ينقطع فيما بعد، إذ استمر في العهد الساداتي أيضًا، فبلغت نسبة الاستثمارات العامة المخصصة للصعيد 9% فقط من إجمالي استثمارات الدولة.

انعكس ذلك بالطبع على مختلف نواحي الحياة بالصعيد، حيث ظهر التفاوت الكبير بين متوسط دخل الفرد في الصعيد ومتوسط الدخل ببقية المحافظات، فحينما بلغ متوسط الدخل في القاهرة عام 1976 نحو 231.1 جنيه سنويًا، كان في محافظة سوهاج 135.3 جنيه فقط. وبينما بلغت نسبة العائلات المحرومة من الماء النقي في القاهرة نحو 11.3% فقط، وصلت النسبة في بني سويف إلى 88.4%.


مبارك: استمرار التمييز وتفاوت التنمية

استمرت حالة التمييز ضد الصعيد في الثمانينات (عهد حسني مبارك)، ففي عام 1980 على سبيل المثال كان نصيب المواطن في سوهاج من الاستثمارات العامة حوالي 6.6% من نصيب المواطن في القاهرة، كما حصل الصعيد ككل على إجمالي 17.2% من هذه الاستثمارات على الرغم من أن عدد سكان الصعيد كان يتجاوز 32% من إجمالي عدد السكان حينئذ. وتفاقم الأمر في الخطة الخمسية الأولى بعهد مبارك (1982-1986) التي انخفض فيها نصيب الصعيد إلى 16% من الاستثمارات العامة، ثم وصل إلى 15.5% في خطة (1987-1991).

لم يأت هذا التفاوت من فراغ، إذ كان نتيجة حتمية لاستثمارات الدولة المتحيزة ضد الصعيد. فهذه الاستثمارات والتي تسيطر الدولة على 60% منها، تخرج من الخزانة العامة بالقاهرة وتصل إلى المحافظات عبر طريقين: الأول يبدأ من الموازنة العامة للدولة ويصب في موازنة المحافظات (وهو يتحلى بقدر عالٍ من العدالة حيث يتحدد نصيب المحافظة من الاستثمارات بناءً على عدد سكانها)، والثاني يبدأ من موازنات المؤسسات المركزية ووزاراتها ويصب في فروعها في المحافظات، وهنا مكمن التحيز والسبب الرئيسي في التهميش.

فهذا الطريق الثاني تتحكم به مؤسسات الدولة وهي مؤسسات متحيزة للقاهرة، وللأسف هي من تتحكم بالنسبة الأكبر من الاستثمارات العامة، وتُقرر ما يصل إلى الصعيد.

فمثلاً لو اعتمدت وزارة الصحة اعتمادات لمستشفى تتبعها في سوهاج، فالطريق الأول كان يضخ حوالي 20% من الاستثمارات، أما الطريق الثاني فيستأثر بـ 80% منها، ما يتسبب في تفاقم الظلم والتهميش بالصعيد وتأخره على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية.


التسعينات: محاولة للتنمية ولكن…

شهدت بداية التسعينات اندلاع مواجهة مسلحة بين نظام الحكم والجماعات الإسلامية الراديكالية، كان على النظام أن يحاول اجتثاث ما رأى أنه التربة المنتجة للتطرف؛ أي الفقر والبطالة. وبما أن النطاق الجغرافي الذي تركزت فيه عمليات العنف كان في الصعيد وامتداداته في القاهرة؛ أي أحياء المهاجرين من الصعيد، لذلك حاول النظام تنمية هذا الإقليم عن طريق ضخ استثمارات عامة به.

ظهرت أولى تلك المحاولات عام 1993 حينما ترأس الرئيس مبارك اجتماع إدارة الهيئة العامة للاستثمار لبحث كيفية توجيه الاستثمارات للصعيد، كما أعلن عام 1994 عن خطة تهدف لضخ استثمارات تقدر بـ 304.9 مليار جنيه في الصعيد حتى عام 2017، ثم توالت بعد ذلك القرارات الساعية إلى دفع التنمية بالصعيد، عبر طريقين رئيسيين:

1. دفع المستثمرين نحو الصعيد

حاولت الدولة دفع مستثمري القطاع الخاص بتوجيه استثماراتهم نحو الصعيد عن طريق الأراضي المجانية والإعفاءت الضريبية، إلا أن ذلك لم يفلح، نظرًا لتهالك البنية التحتية من ناحية، وعدم استقرار الأوضاع الأمنية من ناحية أخرى.

وبما أن المنطق الاقتصادي عجز عن إقناع المستثمرين بالتوجه إلى الصعيد، لجأت الدولة إلى المنطق السياسي، مستغلة سيطرتها على النظام المصرفي وتحكمها إلى حد كبير برجال الأعمال. وبالفعل بدأت منظمات رجال الأعمال، مثل اتحاد الصناعات المصرية، في التوافد على الصعيد، معلنة أن هذا التواجد يعبر عن استجابتهم لتوجيهات الرئيس بالاستثمار في الصعيد.

2. تعديل التوزيع الإقليمي للاستثمارات العامة

بالرغم من هذا التوجه من رجال الأعمال، إلا أن الأمر لم يسفر عن نتائج حقيقية على مستوى التنمية، وكان بمثابة خطوات رمزية من جانب الدولة، والتي تحتم عليها أن تتدخل سريعًا وبشكل حقيقي لضخ الاستثمارات بهذا الإقليم الذي تزداد به الأوضاع اشتعالاً يومًا تلو الآخر نتيجة الصدمات بين النظام والجماعات المسلحة.

وبما أن الاستثمارات التي تصل من القاهرة إلى المحافظات تسيطر عليها مؤسسات الدولة المركزية كما سبق الإشارة، لم يكن هناك مفر من دفع هذه المؤسسات إلى تعديل توزيع الموارد بها لصالح فروعها في الصعيد.

وهذا ما حاولت أن تفعله الخطة الخمسية للتنمية (1992-1997)، حيث أعطت الدولة للصعيد نسبة 21% من الاستثمارات الحكومية مقابل 15.5% في الخطة السابقة، ثم وصلت النسبة إلى 23% في خطة (1997-2001) ثم إلى 31.4% في خطة (2002-2007)، وكانت هذه المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث التي تتجاوز فيها نسبة الاستثمارات العامة المخصصة للصعيد نسبته من عدد السكان.

في ظل ذلك التوجه الجديد من الدولة، من المفترض أن يدفع هذا نحو تنمية الصعيد، إلا أن ما حدث على أرض الواقع يناقض هذا الافتراض، حيث أكد تقرير البنك الدولي لعام 2002 ارتفاع نسبة الفقراء في الصعيد من 47.8% عام 1991 إلى 67% عام 2000.

والمفارقة التي حدثت هنا أن الاستثمارات التي وجهتها الدولة نحو الصعيد، وإن ساهمت في رفع مستوى التنمية البشرية به واقترابه من الشمال، إلا أنها تركزت في يد نخبة قليلة من السكان، ما تسبب بتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء بداخل الصعيد نفسه، حيث تمكن الأثرياء من الصعود على سلم التنمية البشرية بينما ازدادت معدلات الفقر.


لماذا لم تنجح التنمية؟

يمكن تفسير فشل محاولة التنمية هذه بكونها تمت عن طريق المركزية، تلك التي تأسست مع نشأة الدولة الحديثة على يد محمد علي وتم تكريسها بمرور الوقت. ففي ظل هذه المركزية لا يمكن توقع أنه لمجرد أن النخبة الحاكمة قد قررت التوقف عن التحيز ضد الصعيد فإن سياسات الدولة ستترجم ذلك التوجه. فهناك تقاليد مؤسسية لا تتغير بالأوامر، وهو ما ظهر عند تنفيذ خطط التنمية على النحو التالي:

1. تحيز المؤسسات في التنفيذ

تلقت وزارة التخطيط قرارات بتوجيه موارد أكثر لتنمية الصعيد، وبالفعل بدأت في ترجمة تلك القرارات، ولكن بطريقتها الخاصة. فقد كان أحد الأهداف الرئيسية التي تشغلها حين ذاك هو الهجرة المتزايدة من الريف إلى المدن وما ترتب عليها من ازدحام وتكدس.

وفي محاولتها لإيجاد حل لتلك المشكلة، وجهت الوزارة الجانب الأكبر من الموارد والاستثمارات لبناء مدن جديدة في الصحراء وخاصة في (الوادي الجديد والبحر الأحمر) بدلاً من أن توجهها إلى المحافظات الملتهبة بالعنف والتي تعاني الفقر والبطالة.

وهكذا فعندما تبنى النظام سياسة تنمية الصعيد امتزجت تلك السياسة بسياسة الوزارة التي تنفذها بالفعل وهي «الخروج من الوادي الضيق» ما أعاق حدوث التنمية المتوازنة بمختلف محافظات الصعيد.

2. الخطط السنوية وعدم الالتزام بما قررته الخطط الخمسية

منذ عهد عبد الناصر والسياسة الاقتصادية للدولة تقوم على أهداف يتم صياغتها في خطط خمسية، وتقوم الدولة كل عام بترجمتها في خطط سنوية، فإذا لم تلتزم بتلك الخطط السنوية لن تتحقق أهداف الخطط الخمسية، وهذا ما حدث بالفعل فيما يخص تنمية الصعيد.

فقد أعلنت الخطة الخمسية (1992-1997) إعطاء الصعيد 16% من الاستثمارات العامة، ولكن ما حصل عليه بالفعل 12.5% فقط. وباستثناء عام 97/ 1996 كان نصيب الصعيد أقل مما كان عليه قبل إعلان الخطة الخمسية، الأمر الذي يفسر ارتفاع نسبة الفقر في الصعيد بالرغم من توجيه التنمية إليه.

3. التفاوت بين الاستثمارات المخططة وتلك المنفذة فعليًا

كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية وراء عدم تنمية الصعيد، فما يتم إعلانه من استثمارات لا يتساوى مع ما يتم تنفيذه فعليًا، ففي التنفيذ تتجاوز بعض الجهات مخصصاتها على حساب مخصصات جهات أخرى.

وعلى هذا النحو تجاوزت القاهرة مخصصاتها وحصلت على نسبة أكبر من المقررة لها في الخطة الخمسية (1992-1997)، فيما حصل الصعيد على 12.5% من الاستثمارات بينما كان مقررًا له أن يحصل على 13.7%. وما ساعد على ذلك أن التوزيع الإقليمي للاستثمارات لا يدخل في قانون الموازنة، ولا يُعرض على مجلس الشعب، ما يفتح الباب للتلاعب بنصيب الأقاليم من الاستثمارات.

وهكذا يمكن القول إن تغيير السياسات لا يتم نتيجة رغبات النظام السياسي وحده، فالأمر يتطلب تغييرًا مؤسسيًا يمكنه ترجمة تلك السياسات فعليًا، وإذا كان التمييز الذي يعاني منه الصعيد متأصلاً في مؤسسات الدولة، فالقضاء عليه يتطلب عملية إصلاح مؤسسي حقيقية.