كان واقفًا على المنبر، بصليبه على صدره، يخطب في الجماهير من حوله عندما تقدم نحوه جندي إنجليزي مصوبًا فوهة بندقيته نحوه، وهتف الجميع: «حاسب يابونا هايموتك»، ليرد عليهم:

ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت؟ دعوه يريق دمائي لتروي أرض وطني التي ارتوت بدماء آلاف الشهداء… دعوه يقتلني ليشهد العالم كيف يعتدي الإنجليز على رجال الدين.

هو أول مسيحي يعتلي منبر الأزهر، القس الذي ظهر بعمامته السوداء في أحد أفلام حسن الإمام عن ثلاثية نجيب محفوظ، مُعتليًا المنبر يخطب في المسلمين، ويؤكد على روح الوحدة الوطنية في زحام أحداث ثورة 1919.

إنه القس ملطي سرجيوس، وكيل مطرانية سوهاج، وماحي الخط الوهمي بين الدين والسياسة. شبهّه الكثير بـ «عبد الله النديم» لفصاحته، وأطلق عليه سعد زغلول لقب خطيب الثورة الأول، فكان يخطب في الناس بالقرآن والإنجيل ليلًا ونهارًا في مسجد الأزهر وابن طولون، وميدان الأوبرا، وشوارع شبرا، وتم القبض عليه ونفيه مع الشيخ القاياتي إلى رفح، وهناك انشغل في مراسلة المندوب السامي البريطاني للتنديد بسياستهم وحماقتهم، واستمر في الكتابة بعدما خرج باسم «يونس المهموز» لمجلته المنارة المرقسية، التي هاجم فيها البابا كيرلس الخامس والسادس، وأصبحت واحدة من أهم الصحف التي أصدرها الأقباط خلال النصف الأول من القرن العشرين.


ثورة 1919: المسيحيون يدينون بدين أوطانهم

إذا كان الإنجليز يقولون إنهم جاءوا لحماية الأقباط، فليمت الأقباط وتحيا مصر.
القس سرجيوس

كان مكرم عبيد باشا أحد رموز الحركة الوطنية في مصر في ذلك الوقت، وكان ضمن الوفد المصاحب لسعد زغلول باشا وتم نفيه معه إلى جزيرة مالطة وعاد بعد ثورة 1919. وفي كتابه «حكايات صحفية» روى الصحافي والناشط الوطني حافظ محمود موقف عاصره حين كان يمر موكب ضخم بمسجد السيدة زينب، وكان من بين نجوم هذا الموكب مكرم عبيد باشا، ولما وقف المشاركون في الموكب من المسلمين لقراءة الفاتحة أمام المسجد، وقف معهم مكرم عبيد ورفع يديه إلى صدره وقرأ الفاتحة معهم، وكان الموقف الذي أثار ضجة لأن يصدر من سياسي قبطي كبير، ولكن رد عليه مكرم لصحيفة أجنبية:

أنا قبطي دينًا، ولكنني مسلم وطنًا.

وذكر حافظ في كتابه أن مكرم لم ينفرد بذلك، فشاركه كثيرون يشعرون بما يشعر به وإن لم يكونوا بشهرة وجرأة مكرم عبيد. كتب رجاء النقاش في مقال له عن الوحدة الوطنية أن سعد زغلول هو مؤسس الوحدة الوطنية في مصر، ولو لم يكن لسعد سوى هذا الأثر في تاريخه كله، لكان ذلك كافيًا لأن يجعله من الخالدين.

في الحقيقة لم يكن ذلك دور سعد وحده، ولم يكن مكرم عبيد القبطي الوحيد، فقد كان معه «سينوت حنا» و«ويصا واصف» و«فخري عبد النور»، ويُذكر في هذا الوقت موقف ويصا واصف رئيس مجلس النواب الذي حطم سلاسل بوابة المجلس، وأدخل إليه النواب وعقد الجلسة التاريخية التي رفض فيها دستور 1930، وألغاه صدقي باشا، وأصبح ويصا محطم السلاسل والدساتير، كما يُذكر كيف دافع سينوت حنا عن النحاس باشا وافتداه عندما حضنه حينما أطلق عليه الرصاص في مظاهرة بمحافظة المنصورة، واستمر دور هؤلاء جميعًا سندًا لانتفاضات العمال والطلبة في عام 1946، وحتى عام 1952.


أول حزب قبطي: البحث عن الحق والقبول بالتمييز

جاءت فكرة تأسيس أول حزب قبطي للمحامي الشاب -وقتئذ- رمسيس جبراوي، قبيل الانتخابات البرلمانية التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 1949. وذكر حافظ محمود استشارة رمسيس له في مسألة تأسيس الحزب وقوله «نحن الشباب الصغار ينبغي أن نستشير الكبار»، وعندما رده حافظ ليستشير البطريرك أو مكرم عبيد باشا، رفض رمسيس وقال:

لإنما أردت أن أستشير سياسيًا مسلمًا حر التفكير وحر الوجدان، وقد اخترت لهذه المشورة الدكتور محمد حسين هيكل باشا -الذي كان يومئذ رئيسًا لمجلس الشيوخوكل ما هو مطلوب منك -أي حافظ محمود
أن تقدمني إليه.

وبالفعل أقدم حافظ على مساعدة رمسيس في عرض فكرته على هيكل، ونصحه بمراجعة كبار الأقباط الذين حضروا أو شهدوا أو سمعوا مناقشات لجنة الدستور في عام 1922، والمقصود هو دستور 1923، فقد ظهر في هذه المناقشات اقتراح بأن يكون للأقباط تمثيل نسبي في البرلمان، وعندما نشأ حوار بين المؤيدين والمعارضين لهذا الاقتراح، وقف عبد العزيز فهمي باشا، وكان عميد أهل القانون وقطب المشرعين، وقال:

وصفق الأقباط لعبد العزيز فهمي، وسقط الاقتراح بإعطاء الأقباط تمثيلًا نسبيًا في البرلمان.

كان رأي الدكتور هيكل في تأسيس حزب قبطي هو أنه إذا دعا حزب قبطي منفرد لجمع كل رؤوس الأقباط في حزب واحد، فإن أصحاب المكانة منهم في سائر الأحزاب ذات الشعبية قد يرفضون الانضمام له لأنهم لا يمثلون الأقباط وحدهم بل يمثلون الشعب؛ فوافق المحامي الشاب على رأيه، أو على الأصح رأي أقباط لجنة دستور 1923، وقُضي على فكرة إنشاء حزب قبطي حتى اليوم.


عود وحيد وسط ثورة 1952

ومثل القمص سرجيوس كان سلامة موسى من أشهر الشخصيات التي أيدت الثورة منذ بدايتها، وطالب وقتها بثورة مثلها داخل الكنيسة. وكان الضابط «شكري فهمي» هو العنصر القبطي الوحيد في تنظيم الضباط الأحرار، وكان عضوًا في الصف الثاني من التنظيم.

عمل فهمي كمدير للسجن الحربي بعد ثورة 1952، ثم شغل وظيفة في جهاز التنظيم والإدارة. وتختلف الآراء حول ما إذا كان فهمي هو القبطي الوحيد في حركة الجيش أم صحبه اللواء «أنور عبد الله» والملازم «واصف لطفي حنين»، لكن ما من تأكيد على وجودهم في اللحظة الأخيرة من تحرك التنظيم.

ظهر المدنيون من الأقباط في عشية يوم الثورة، ونشرت صحيفة «المصري» مقالًا بدون توقيع لكاتبه تحت عنوان «الأقباط يطالبون بالمساواة والإنصاف عملاً لا قولاً»، لكنه جاء ممثلًا لمنظمات الشباب القبطي والحزب الديمقراطي المسيحي بقيادة رمسيس جبراوي، وضمّن كاتب المقال مطالب الأقباط بفصل الدين عن الدولة والسياسة، ورفع القيود التعسفية المفروضة على بناء الكنائس، وتمثيل الأقباط في المجالس النيابية بعدد يتناسب مع عددهم الفعلي، والسماح بإذاعة الشعائر الدينية ليوم الأحد، والمساواة بين المسلم والمسيحي في الوظائف والبعثات والترقيات والجندية والبوليس، ومنع أي دعاية للتفرقة بين قطبي الوطن في الشئون العامة.

في 27 يوليو/تموز 1952 أصدرت الكنيسة الأرثوذوكسية بيانًا تؤيد فيه ثورة يوليو، وكان هو البيان الثاني بعد بيان جامعة الإسكندرية، ورغم ذلك كان الوجود الضعيف للأقباط في الحركة، خاصة وأن ممثليهم بالصف الثاني بها، سببًا في قلق الأقباط المصريين من ثورة 23 يوليو/تموز بشكل عام، حتى استبعدت الحركة قادة الرأي من الصفوة القبطية عند مناقشة قانوني الإصلاح الزراعي والتأميم، ونظر الأقباط للثورة على أنها تمثل جماعة الإخوان وجماعة مصر الفتاة اللتان انتمى لهما عدد من قادة الحركة، وشهدت فترة الثورة عزوفًا من الأقباط عن المشاركة السياسية بعد سنّ النظام الجديد قوانين أضرت بالأقباط مباشرة، فبخلاف تأميم المصانع وشركات القطاع الخاص وتأميم الأراضي، فقد تم تأميم أراضي وأوقاف الكنيسة لصالح الإصلاح الزراعي.


شيخ الصحافيين القبطي وجدران يونيو السميكة

إنني باسم المسلمين والأقباط معًا أعارض هذا الاقتراح، لأن التمثيل النسبي لأي طائفة يحتم عليها ألا تتحرك إلا في حدود هذه النسبة، ومعنى هذا القيد أن الأقباط لهم وضع مختلف عن الوضع العام لسائر المواطنين، وهو وضع أرفضه لهم بصفتهم إخوتنا في هذا الوطن، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولا يجوز للجنة الدستور بمن فيها من الأقباط أن تعطي للاستعمار دليلًا على تقسيم الشعب إلى أقلية وأكثرية حتى يدعي الاستعمار بأنه يحمي الأقلية.

قبل قيام الثورة، وفي يناير/كانون الثاني عام 1952م تشكلت هيئة الوحدة الوطنية، وتم اختيار القبطي «مسعد صادق»، شيخ الصحافيين، سكرتيرًا لها، وأشادت الصحف وقتها بنشاطها لدعم الوحدة الوطنية، في خضم ثورة 1952. وبينما كانت البلاد تعيش ثورة فكرية، قرر مسعد صادق، إصدار العدد الأول من صحيفة «الفداء» يوم الخميس 26 يونيو/حزيران عام 1952، وكتب في عددها الأول مكرم عبيد باشا الذي اعتبرها منبرًا للوحدة الوطنية والدفاع عن المظلومين، حتى خاضت الصحيفة عددًا من المعارك منها فصل الدين عن الدولة، منتهزةً فرصة الإعداد للدستور الجديد في ظل الثورة، وكانت المطالبة بدستور قومي عنوانًا رئيسيًا لأعداد الصحيفة.

في هذا الوقت كان محمد أنور السادات عضوًا في مجلس قيادة الثورة ومسئولًا عن الشئون الدينية، وقد أصدر قرارًا بحظر الكتابة في الشئون الدينية، وقام بفصل الدكتور «لوس دوس» من منصبه بكلية الطب بسبب كتاباته، وساق مسعد صادق إلى سجن الأجانب، ثم نقله إلى السجن الحربي، وعطّل صحيفته وفصله من عضوية نقابة الصحافيين، واكتشف بعد خروجه من المعتقل أن إدارة المطبوعات انتهزت فرصة غيابه وأقصته من رئاسة تحرير الصحف التي أصدرها ورأس تحريرها، واختارت من يحل محل مسعد من غير أعضاء نقابة الصحافيين في مخالفة لقانون المطبوعات، وسجل مسعد تجربة اعتقاله ونبذه في مذكراته «حينما احتوتني الجدران السميكة».