يعني تعبير «صراع التأويلات» اختلاف التفسير لدى المفسرين المختلفين بصدد النص الواحد، بما ينتج تفسيرات متناقضة، ومتضاربة. وهو تعبير مستعمَل في مجال فلسفة التأويل مجازًا ليدل على ذلك الاختلاف سابق الذكر أولًا، وما نتج عنه من صراع حقيقي أحيانًا بين طوائف العقيدة الواحدة، أيًّا ما كانت. وبطبيعة الحال لم يستعمله المفسرون قديمًا؛ نظرًا لأن فلسفة التأويل لم تكن بعدُ قد نضجت وتطورت، الأمر الذي سينتظر حتى القرن التاسع عشر الميلادي لكي يصير إنجازًا يعتد به في كل من الفلسفة ودراسات الكتب المقدسة.

لكن الفكر الإسلامي في عصور الخلافة الإسلامية المتتابعة، وحتى الفكر العربي المعاصر، قد تعرض فعلًا إلى مضمون هذا التعبير، ولكنهم استعملوا بدلًا منه تعبير «الاختلاف». وهو كما نرى أقل حدة من تعبير «صراع»، وإنْ كان لا يكشف عن دوافع الاختلاف ونتائجه من معتقدات متصارعة، بحيث تتجلى في صراعات اجتماعية معلنة أو ضمنية.

ونظرًا لسلطة المقولات الدينية في العصر الوسيط عمومًا، فقد كان لتأويل النص دور بالغ الأهمية في خوض تلك الحروب الثقافية. عن طريق منهجية جديدة في التأويل تمكن من إضعاف معتقدات الخصم الأيديولوجي من جهة، وإبراز وجاهة الطرح البديل من جهة أخرى.

صراع التأويلات في الإسلام ليس صراعًا على التأويلات، ولا بين تأويلات في حقيقته، بل هو صراع أنطولوجي-وجودي.

وحين نطالع المصادر الإسلامية القديمة وحتى المعاصرة فإننا نجد تلك الصورة السابقة في هذه الفقرة لطبيعة ذلك الصراع. ولكن طرحًا متجاوِزًا، أو يحاول على الأقل التجاوُزَ، يكتشف أن حقيقة الصراع لم تكن منهجية بحتة، ولم تكن حتى قاصرة على خلفية عقدية، بل كانت في أصلها وجودية. بعبارة أخرى: صراع التأويلات في الإسلام ليس صراعًا على التأويلات، ولا بين تأويلات في حقيقته، بل هو صراع أنطولوجي-وجودي.

ويعني الصراع الأنطولوجي للتفاسير أن الدافع الأكثر أوَّلية خلف الصراعات العقدية والتأويلية كان بين وجهات نظر مختلفة للعالم بالمعنى الأشمل للكلمة، أي العالم بما هو جماع العلاقات المعقدة بين الإنسان والطبيعة والإله كما تنتظم في وجهة نظر معينة. ولكن هذا المعنى ينقصه شرط مهم كي يصير «وجوديًّا» على التحديد، هو أن يكون اختلاف وجهات النظر العالمية سابقة الذكر اختلافًا بين خبرات معيشة متعيِّنَة، لا مجرد اختلاف فلسفي نظري. وهذا يختلف عن «التفسير الوجودي للنص»، المعتمِد على منهجية التفاعل الحيِّ بين-الذاتي مع النص. إذن فإن «صراع التأويلات بما هو صراع وجودي» يفترض أن الأرضية الحقيقية لصراع التأويلات كانت بين خبرات معيشة تتعلق بالعلاقة بين الإنسان من جهة، وكل من الطبيعة والإله من جهة أخرى.

وإذا كان لا يتوفر لنا من الدراسات الاجتماعية عن حقبة العصر الوسيط في المشرق والمغرب الإسلاميين ما يمنحنا رؤية شاملة ودقيقة بالقدر الكافي لإصدار أحكام، تتعلق بالصراعات الوجودية في الإسلام، فلا يبقى لنا سوى أن نشتق المقدمات من النتائج، أي نستنبط طبيعة الصراع الوجودي من المنهجية والممارسة التفسيرية. وقد تنوَّعت نتائج التفسير حتى مع وحدة المنهج، وهذا طبيعي؛ فالمقدمات المختلفة تؤدي إلى نتائج مختلفة حتى مع وحدة قوانين المنطق. ولهذا قد يكون من الأكثر دقة أن نعتمد على المناهج لا النتائج في عملية الاشتقاق آنفة الذكر.

ترتكز وجاهة الاعتماد على المنهج على أساس أن المفسر حين يحدد منهجًا معينًا للتعامل مع النص، فإنه يحدد ضمنيًّا في الوقت نفسه علاقة معينة بين المتناهي واللامتناهي، بين الإنسان والعالم والله، من خلال فهم النص الديني، تتضمن معنى الإنسان والعالم والله في تلك العلاقة. أما النتائج التي ينتهي إليها العمل التفسيري فهي كما تعتمد على المنهج، تعتمد كذلك على المقدمات (ما يعرفه المفسر ويعتقده)، كما قد تتعرض النتائج لخطر مراعاة الرقابة الاجتماعية والسلطوية.

وهنا قد يبرز سؤال: لماذا منهجية تفسير النص الديني تحديدًا، وليس الأدبي مثلًا؟ المسألة هنا أن النص الديني هو النص الوحيد، الذي يمثل رؤية العالم على النحو الأشمل، فهو من جهة يقوم على رسم علاقة محددةٍ كُليةٍ بين المتناهي واللامتناهي، ومن جهة أخرى ليس كالنص الفلسفي مقصورًا على طبقة متعلمة مثقفة، برغم شموله في وصف العلاقة سابقة الذكر. النص الديني بين المتدينين المعتقدين فيه هو نفسه منظور لرؤية العالم والتاريخ الإنساني، وإذا كان المفسر لا يغيِّر فيه، ولا يقوم بإعادة كتابته، فإنه قادر على إعادة فهمه.

ويحقق الاعتماد على المنهج كذلك ميزة مهمة، هي تجنب الإسراف في تصنيف المدارس التفسيرية عند المسلمين طبقًا لنتائجها. بل يمكن القول إن تصنيف المدارس التفسيرية طبقًا للنتائج سيجعل من كل تفسير مدرسة في ذاته؛ فلا يوجد تفسيران متشابهان على التمام في نتائجهما، وهو ما سيؤدي إلى أنه لا توجد مدرسة من الأصل؛ فالمدرسة تشمل بحكم تعريفها أكثر من دارس. فإذا حاولنا إذن تطبيق ذلك على التفسير في الإسلام، لوجدنا أنفسنا إزاء أربع مدارس مصنفة من حيث المنهج، وهي –بالترتيب التاريخي- مدرسة الرواية التاريخية، والمدرسة اللسانية، والمدرسة الرمزية، والمدرسة الموضوعاتية الحديثة.

مع ظهور أشمل عمل تفسيري روائي، تفسير الطبري المتوفي في 310 هـ، استقرت علوم اللسانيات عند العرب، وصار بالإمكان تفسير القرآن كاملًا بمعزل عن التاريخ اعتمادًا على حجة وجيهة في السياق الإسلامي.

وكان من الطبيعي أن تكون المدرسة الروائية أولى مدارس التفسير في الإسلام؛ فمع غياب التأسيس المنهجي لمدارس بديلة، ومع بدائية العلوم في المناحي المختلفة، وأهمها علوم اللسانيات في قضية التفسير، تصير الرواية هي الثابت الموضوعي الوحيد الممكن. ولكن سيادة الرواية لم تستمر طويلًا، فمع ظهور أشمل عمل تفسيري روائي، تفسير الطبري المتوفي في 310 هـ، استقرت علوم اللسانيات عند العرب، وصار بالإمكان تفسير القرآن كاملًا بمعزل عن التاريخ اعتمادًا على حجة وجيهة في السياق الإسلامي؛ فالشريعة «أمية» كما يقول علماء أصول الفقه، بمعنى أنها قابلة للفهم بشكل كافٍ لمن هو غير مختص، في الوقت الذي فيه تلك الشريعة منقولة لغويًّا؛ فالوحي الإسلامي وحي لغوي بالأساس، أي منقول باللغة، ولا يتطلب حضور روح قدس، أو تعميد، أو كنيسة، وبالتالي يكفي فيه الفهم اللغوي للنص.

لكن عاملًا آخر كان سببًا في ضعف سلطة المدرسة الروائية، هي تناقض الروايات، وضعفها، الأمر الذي أشار إليه المعتزلة وعليه أسسوا المنهجية اللسانية في التفسير، وبالتالي المدرسة اللسانية. ومع ذلك وقفت المدرسة اللسانية عند حدود موضوعية، هي عدم قابلية بعض آيات القرآن للتفسير اللساني البحت، مثل الحروف المقطَّعة، فهي أبرز مثال لما لا يمكن تفسيره لسانيًّا؛ لأنها حروف لا كلمات، ولا روائيًّا؛ بسبب تناقض الروايات، وضعفها. وهو ما فتح المجال أمام المدارس الرمزية منهجيًّا لافتراض شفرة معينة بين الله وبين خواصِّ الناس.

وقد انقسم التفسير الرمزي في الإسلام كما هو معروف إلى تفسير إشاري وتفسير باطني؛ حيث يعتبر الإشاري كلًّا من ظاهر النص وباطنه؛ فالشفرة القرآنية لا تشمل كل القرآن، وأغلب القرآن يمكن فهمه لسانيًّا، وحيث لا يعتد التفسير الباطني إلا بباطن النص، على أساس أن المستهدَف من الخطاب الإلهي هم قادة البشر الروحيون، مراجع الشيعة في تلك الحالة. ولكن في العصر الحديث، وتحت ضغط قضايا الاستعمار والتخلف والتدخل الأجنبي والفقر، وجد المفسر نفسه مرتبطًا بواجب أيديولوجي-إصلاحي محدد، هو أن يخدم التفسيرُ حلَّ تلك القضايا. ومن هنا ظهرت منهجية رابعة، تتنكَّر للتفاسير الرمزية بدعوى أنها تغيِّب الناسَ عن قضاياها الملحة الحقيقية المؤثرة، هي المنهجية الموضوعاتية. وتختلف المنهجية الموضوعاتية عن كل من المنهجيات الثلاث السابقة في أنها لا «تَفهم» النص، بل «تستعمله»؛ فهي تبحث عن «التفسير الأمثل» على حد تعبير محمد عبده في مقدمة «المنار»، التي راجعها بنفسه قبل النشر.

ويُمكن تلخيص مفهوم «التفسير الأمثل» عند عبده في شقين: فهو أولًا يتجنب تفريع المسائل فيما لا يفيد، ومن جهة أخرى ينفع المسلمين اجتماعيًّا. وسبب تسميتها بالموضوعاتية هو أنها تقوم بتحديد «موضوعات» النص الرئيسية قبل الخوض في تفسيره، وبالتالي تصنع نسقًا نظريًّا، على خلاف المدارس السابقة، التي تفتقر إلى السياق النظري، ويحضر فيها فقط سياق ترتيب الآيات والسور في النص.

افترقت مدارس التفسير على أربعٍ لأسباب نظرية منهجية: ضعف الرواية، حدود المنهج اللساني، حدود المنهج الرمزي.

وكما نرى فقد افترقت مدارس التفسير على أربعٍ لأسباب نظرية منهجية: ضعف الرواية، حدود المنهج اللساني، حدود المنهج الرمزي، ولكنها كذلك افترقت لأسباب وجودية. إن المدرسة الروائية ترسم علاقة معينة بين الإنسان والله، مرورًا بالطبيعة والمجتمع، تتلخص في علاقة بين مرسل (الله) ومستقبل (الإنسان)، بحيث يتكون جهاز الاستقبال من الروايات المنقولة عن النبي والصحابة وجيلين من التابعين.

في هذه العلاقة يقف الإنسان كمتلقٍّ سلبي، يخضع سلبيًّا للامتناهي من جهة، وللتاريخ من جهة أخرى. ويتأثر فيها المعنى بصيرورة النقل التاريخي، فمعنى النص فيها عملية تكوينية لا يمكن استبصارها بمعزل عن التاريخ. وفيها يملك المؤرخ الكلمة العليا؛ فهو القادر على الفصل في صحة الرواية. أما المدرسة اللسانية فقد عبرت عن تصور مختلف للعالم، يقف فيه الإنسان كمخاطَب، ولا يخضع معنى النص فيها للتاريخ، ولا يملك فيها المؤرخ السلطة العلمية، بل عالِم اللغة، ويحضر فيها دور المجاز، والخيال، وشتى آليات الخطاب الأدبي، ولا يمكن فيها تصور المعنى بما هو عملية ديناميكية، بل هو كامن في بنية اللغة نفسها، التي استعملها النص. فبقطع النظر عن أحداث التاريخ المتتابعة يظل المعنى ثابتًا بثبوت اللغة.

أما المدرسة الرمزية فقد انطلقت من رؤية مختلفة للكون، ترى الخطاب الإلهي مستمرًّا في الحاضر والمستقبل بشكل غير مباشر، برغم انقطاعه في الماضي عن الشكل المباشر. وهو خطاب مختلف عن الخطاب اللساني في آلياته وفي المخاطَب به؛ فالمخاطَب اللساني عارف باللسان، أما المخاطَب الرمزي فعارف بالرمز بناء على شكل مصغَّر من الوحي، أو الرؤيا، أو العصمة. وفي النهاية جاء التفسير الموضوعاتي بناء على رؤية رابعة، هي كون الإنسان فاعلًا في مجتمعه، ومسئولًا عنه في عملية الفهم، بل ربما مسئولًا أمامه، وهو مصلح سياسي واجتماعي وقانوني، وهو بما هو مفسِّر ناشط اجتماعي وحقوقي.

وهكذا فيما نرى يمكن النظر إلى صراع التأويلات بما هو صراع بين أربعة أساليب للوجود الإنساني في الحضارة الإسلامية: كان الأسبق فيها هو النمط التاريخي، الذي يرد نفسه في الحاضر والمستقبل إلى الماضي، ويؤمن بنوع من الفردوس الأرضي المفقود، أي عصر النبوة والصحابة، هذا التصور، الذي رفضه النمط اللساني، الذي اعتقد في إمكانية تحقيق فردوس الإنسان في الحاضر، والمستقبل عن طريق اللغة والدراسات الأدبية، وبالتالي لم يرهن حاضره بماضي غيره، بل اعتقد في تقدمه على الماضي بسبب تقدم علوم اللغة. أما المنهج الرمزي بنوعيه فقد تأسس على رؤية مباينة، هي علاقة شبه شخصية مع القوى الكبرى الحاكمة للكون والطبيعة، تتخير فيها تلك القوى من هو أحق بالخطاب. وفي عصرنا الحالي يمكن فهم الرؤية الرابعة الموضوعاتية بشكل مباشر بما هي تطويع التفسير في سبيل الإصلاح الاجتماعي.