كان العربان البدو في مصر طبقة لا يستهان بها طوال القرون التي تبعت زمن الفتح الإسلامي للبلاد. حيث تشكلت هذه الطبقة من القبائل العربية الفاتحة لمصر، لتبدأ قصة جديدة لهذه القبائل على أرض مصر قوامها الاصطدام تارة والتحالف والتصالح تارة أخرى مع سلطات حكم هذه البلاد.

العمران البدوي والأمم الوحشية

كثيرة هي نظريات ابن خلدون، يستشهد بها المؤرخون وعلماء الاجتماع البشري والأنثروبولوجيا. لكن قد يتم إساءة الفهم لها في كثير من الأحيان ومنها تلك النظرية التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.

تحدث ابن خلدون عن العرب بشكل سلبي –في نظر من يسيئون فهم تلك النظرية– حيث قال «إن العرب إذا تغلبوا على أوطان كان أسرع إليها الخراب، وإنهم أبعد الناس عن الصنائع من مٌنتحل الحضر، لذلك صارت العلوم حضرية وبعد العرب عنها وعن سوقها».

حسنًا؛ يمكن بالفعل الاكتفاء بذلك والسكوت عن شرح النظرية وأخذ الظاهر منها، حيث يمكن تعميم قول ابن خلدون على القبائل العربية وعلاقاتها مع أهل البلاد المفتوحة من المسلمين مثل مصر والشام والعراق وغيرها.

لكن الحقيقة أن ابن خلدون كان يقصد «العربان» وليست القبائل العربية، فهل هناك فرق بينهما؟

بالطبع، فإن القبائل العربية الداخلة لمصر بعد الفتح عام 21هـ/ 641م بدأت بالاستقرار مع أهل البلاد من القبط، وتصاهروا وعاشوا في عديد من المناطق ومنها الفسطاط التي كانت عاصمة عربية خالصة، وعلى الرغم من تحريم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب على القبائل العربية الاشتغال بالزراعة، فكان خوفًا من توقف مسيرة الفتوحات. لكن هذا الوضع سرعان ما تغير بعد سنوات الخلافة الراشد ومجيء الأمويين للحكم.

على أي حال؛ عاشت القبائل العربية وتصاهرت مع القبط ورويدًا رويدًا أصبح وجه مصري عربيًا خالصًا سواء انتشار الإسلام أو اللغة العربية في القرن الثالث الهجري والقرون بعدها.

أما العربان فهم البدو الرحل –وهو ما يقصده ابن خلدون– وكانوا في هذا العصر ما زالوا يحملون أنفة العنصر العربي وبأسه والعيش مرتحلين، وكانت تلك الفلسفة البدوية التي عاشوا داخلها هي بداية العلاقة المعقدة مع السلطة في مصر أيًا كانت هذه السلطة.

ولعل ابن خلدون كان ما يقصده بالخراب هو الثورة والشغب المستمر ضد السلطات في جميع البلدان الإسلامية، وهو ما يؤكده باب الحديث عنهم في «المقدمة» العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال.

«اتقاء الشر»: كيف حافظت السلطة على علاقة متوازنة مع العربان؟

كان كل ما يهم السلطة الطولونية المستقلة عن العباسيين هو اتقاء شر ما يمكن تشكيل الخطر عليهم فبدأ أحمد ابن طولون 220 هــ/ 270 هـــ تأسيس دولته في مصر عام 254 هـ/ 868م في سياسة الاحتواء وتجنيد هؤلاء العربان في الصحاري لمصلحته، لأن جبهته الداخلية تعاني من تربص العباسيين، لذلك فوّت الرجل بذكائه المعهود الفرصة وجنّد قبائل العربان في عدة مهام منه حراسة الطرق، وجعلهم فرقًا عسكرية في جيشه وبذك ضرب عدة عصافير بحجر واحد، فمنها اتقاء شر العربان واستخدامهم من العباسيين للثورة ضده، ومنها تأمين طرق التجارة لا سيما في الصحراء الشرقية وهو ما أدى لانتعاش التجارة، ومنها استخدامهم في الاستطلاع والتجسس الحربي، ومنها أيضًا إشغالهم عن مهاجمة القرى المتاخمة في شرق وغرب الدلتا وعلى طول وادي النيل.

وقد ورث ابنه خمارويه 250هـ – 282هـ / 884م – 896 م هذه السياسة الفذة، واستمرت سياسة التجنيد للعربان ولم تظهر أي بوادر عصيان ضد السلطة.

ويبدو أن الحكام الجدد للبلاد بعد الطولونيين، ورثوا هذه السياسة أيضًا، فبعدما قامت دولة الإخشيديين لا نجد في الروايات التاريخية أي ذكر لثورة كبرى قام بها العربان ضد السلطة.

المصلحة تحكم: العربان والسلطة يد واحدة

جاء الفاطميون إلى مصر، ورحبت القبائل العربية بهم، ربما لأن الحكام الجدد من أصول عربية نسبهم العلوي شفع لهم لدى هذه القبائل، وبالتالي حمل الاستقرار إلى البلاد بعد انهيار سلطة الإخشيديين.

لكن ما يهمنا هو العربان أو البدو الذين بدأوا صفحة جديدة من تاريخهم في هذا العصر. كان الفاطميون شديدي الذكاء في استخدامهم، وجندوا البدو في العديد من المهام الحساسة.

لكن السؤال هنا، هل تشكلت المصلحة الواحدة بين ليلة وضحاها؟

لقد كانت هذه القبائل البدوية على ديدنها في النهب والسلب والهجوم على الأديرة والقرى المتاخمة في شرق الدلتا وغربها وعلى طول خط الصحراء الشرقية مع وادي النيل. وهو ما جعل السلطة في القاهرة تنزعج من ذلك.

لكن هذا الانزعاج في الحقيقة، قوبل بسياسة شديدة الذكاء كان مهندسها الأول الوزير الحسن بن علي بن عبد الرحمن اليازوري، وكان وزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (427-487هـ/1035-1094)، وهذه السياسة هي تهجير القبائل العربية من مصر إلى المغرب الأدنى ( تونس).

وذلك لأن الدولة الفاطمية كانت تعاني من ثورة بني زيري واستقلالهم عن الدولة، وإنهاء النفوذ الفاطمي تمامًا، فكانت خطة اليازوري هو إثارة القلاقل بهؤلاء العربان من بني هلال وبني سليم بالتحديد وتهجيرهم إلى هذه المناطق.

لقد كان هذا التهجير مفيدًا للطرفين، أما الدولة فإنها خففت الضغط على وادي النيل الذي كان يعاني من القحط والمجاعة بتقليل عدد السكان من جهة وإنهاء قطع الطرق أمام القوافل التجارية الآتية من الشرق.

وأما القبائل العربية فوجدتها فرصة للاستقرار في بلاد خصبة إلى حد ما بعيدًا عن القحط الذي أصابهم في مصر طوال هذه الفترة. وهنا التقت المصلحة.

الثورة الكبرى: شيخ بني تغلب ضد سلطة المماليك

حاولت القبائل العربية طوال العهد الأيوبي الاستفادة من السلطة بشتى الطرق، وبالفعل نجحوا في ذلك عندما جندتهم السلطنة الأيوبية في القتال ضد الصليبيين، وفي زمن السلم والهدنة، اشتغل العربان بالزراعة في القرى الدلتاوية.

هذه الحالة لم تكن دائمة بل كانت في أوائل العهد الأيوبي مناوشات بين السلطة الجديدة والعرب الذين كانوا يؤيدون الفاطميين. ففي عام 584هـ/1188م كانت توجد محاولة ضعيفة لاستعادة الحكم الفاطمي بالثورة على صلاح الدين الأيوبي ولكن فشلت ومن بعدها بدأت علاقة أقرب إلى التحالف على مضض.

هنا ننتقل إلى نقطة الثورة الكبرى في أوائل السلطنة المملوكية، وذلك على يد حصن الدين بن ثعلب شيخ قبائل بني تغلب في مصر. لكن قبل سرد تلك الثورة يجب هنا نقف وقفة قصيرة.

مصطلح العربان اختلف اختلافًا جذريًا في هذا الوقت، وهو ما قصده ابن خلدون بالأمم الوحشية، وما أكده المقريزي أيضًا أنهم البدو الرحل قطاع الطرق، وهو أمر جلي تمامًا على تبدل أحوال القبائل العربية إلى الانحطاط وأنهم أصبحوا مجرد «قطاع طرق».

رجوعًا إلى الثورة الكبرى التي قام بها حصن الدين بن ثعلب، فإنه كان أميرًا لهؤلاء العربان وجميع القبائل العربية في مصر، وقد تحدى السلطنة المملوكية في ظرف صعب.

حيث تحكم السلطان عز الدين أيبك ت 655 هــ/ 1250م في الأمور، وبدأ في تثبيت حكمه في مصر، وواجه خطر فلول الأيوبيين في الشام بقيادة الملك الناصر يوسف، وهنا يخطط حصن الدين للثورة كمحاولة أخيرة لاستعادة النفوذ العربي في مصر.

وقد لخص ثعلب سبب الثورة بما فيها من أنفة وتكبر على الجنس المملوكي نفسه بقوله: «نحن أصحاب البلاد، بل وأنا أحق بالملك من المماليك، وقد كفى أنا خدمنا بني أيوب، وهم خوارج خرجوا على هذه البلاد».

تلك كانت فلسفة أمير العربان في الثورة، فهي تلخص نظرة القبائل العربية وما تبقى منها للمماليك الحكام الجدد، بل وللحكام القدامى «بني أيوب» وأن هناك نفسية التعالي على العسكر التركي المتحكم في البلاد.

لم يقدر لهذه الثورة بالنجاح، بل هُزمت فلول القبائل العربية بقيادة حصن الدين ثعلب في عام 1253م على يد فارس الدين أقطاي قائد الجيش وبأمر من السلطان أيبك، وتم مطاردة العربان في كل مكان في الدلتا والصعيد، وكانت هزيمة منكرة.

ثورات الهامش: كيف عانى المماليك من العربان؟

لم تكن ثورة حصن الدين بن ثعلب إلا بداية الثورات على المماليك، فقد واجهت الدولة المملوكية سواء البحرية أو الشراكسة عدد من ثورات العربان لأسباب عدة منها سياسي مثل ثورتي عربان بني عيسى ضد حاكم قليوب وعرب الأحامدة على قطلوبغا الطشتمري والي منفلوط، وكانتا ما بين عامي 790 – 795 هـ.

وهاتان الثورتان كانتا تمرد على الأوضاع التي يعيشها العربان في ظل تعنت الولاة المحليون من المماليك. بل تعرضت عدة أقاليم مثل قوص والبحيرة في عهد السلطان المؤيد شيخ إلى عمليات نهب وقتل للولاة وسيطرة مؤقتة على هذه الأقاليم دون جدوى.

ويقدم لنا المقريزي في كتابه الأجل «السلوك في معرفة دول الملوك» أخبارًا وروايات تاريخية عن ثورات العربان، ولم تمر سنة من سني حكم المماليك لمصر إلا وفيها ثورة نهب للأقاليم خصوصًا في الصعيد أو البحيرة أو الشرقية وهي ما يمكن تسميته أقاليم الهامش.

وذلك لأن هذه الأقاليم جغرافيًا كانت متاخمة الصحاري الشاسعة التي كانت موطنًا وملاذًا للعربان، يقومون حينها بالثورة والسيطرة على الأقاليم الهامشية وفرض الإتاوات ونهب القوافل التجارية، ثم سرعان ما يلوذون بالفرار إلى الهضاب في الصحاري المصرية.

هذه الحالة من الكر والفعل أنهكت دولة المماليك الجراكسة وكانت التجريدات العسكرية تباعًا بشكل شبه سنوي، وهو ما كلف الخزانة مبالغ طائلة، فضلًا عن العربان الذين كانوا يختارون أوقاتًا حرجة لثوراتهم ضد المماليك خصوصًا عند حدوث الأزمات الاقتصادية، ويزيدون من الأوضاع قتامة عند سرقة القوافل التجارية.

ولم ينته الحد عند ذلك، فإن نظرة الاستعلاء ضد المماليك كانت محركًا أساسيًا لهذه الثورات، وهو ما استمر حتى سقوط دولة المماليك بعد معركة الريدانية في عام 1571م، ودور عربان إقليم البحرية بقيادة أميرهم حسن بن مرعي الذي تعاون مع العثمانيين وقام بتسليم طومان باي لسلطة العثمانيين لإعدامه، ويبدأ فصل جديد من حكاية العربان في عهد آخر.

المراجع
  1. ابن خلدون؛ المقدمة
  2. تقي الدين المقريزي؛ السلوك في معرفة دول الملوك.
  3. ساطع الحصري؛ آراء وأحاديث في التاريخ والاجتماع
  4. سعيد عبد الفتاح عاشور؛ المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك
  5. إيمان عبد العظيم؛ العربان في مصر زمن المماليك الجراكسة