انتهت الحرب. تبددت آمال القوة والتفوق والنصر. أصبحت البلد جبالًا من الركام وقُسِّمت أراضيها بين أربعة جيوش غازية. تغيرت وجوه الناس بعد أن فني سبعة ملايين إنسان وحل محلهم ملايين عدة أخرى، من المطرودين أو الهاربين من محال إقامتهم السابقة في أوروبا الشرقية.

رغم فناء الملايين في المعارك أو تحت الغارات، فقد زاد فعليًّا التعداد السكاني في ألمانيا نتيجة التهجير من الشرق. اثنا عشر مليونًا من المهاجرين وصلوا البلاد حديثًا، قادمين من دول أوروبا الشرقية التي لم تعد تتحمل وجود أقليات ألمانية تعيش بينها. ومنهم أيضًا سكان أقاليم شرق ألمانيا، مثل بروسيا الشرقية والغربية وبوميرانيا، الذين فرُّوا منها بعد أن تم بترها من ألمانيا ومنحها لبولندا.

حتى المناطق التي ظلت ضمن الحدود الألمانية لم تكن كلها حصينة إزاء ظاهرة الفرار، إذ سادت المناطق التي سيطرت عليها الجيوش الروسية حالة من الرعب خوفًا من انتقام الغازين. وصار الهرب للغرب والتطلع لمعاملة حُسنى من غزاة أقل قسوة هو ملاذ الكثيرين.

لا للبروسيين في ألمانيا الديمقراطية

امتلأت المدن بالبشر والركام. والوضع في مدينة هامبورج قد يصلح لوصف المناخ العام الذي ساد ألمانيا حينها. نصف سكان المدينة فقدوا بيوتهم وصاروا ضيوفًا عند النصف الآخر. وزاد الوضع سوءًا أن المدينة كانت وجهة مُفضَّلة للمهاجرين، فهي ـ بعد برلين ـ ثاني كبريات المدن الألمانية، ولا تنالها يد الروس.

استقبلت هامبورج في أول عام بعد الحرب 53 ألفًا من اللاجئين، بما يعادل أربعة بالمائة من تعداد سكانها. وفي ظل الموارد المحدودة للمدينة حدث المتوقع وظهرت ممارسات تمييزية،ـ بل عدائية ضد المهاجرين.

في البداية بدت الممارسات كأنها إجراءات طبيعية للسيطرة على تدفق اللاجئين. فمثلًا قررت السلطات المحلية في هامبورج فرز القادمين الجدد للمدينة، والسماح فقط لأصحاب المهن المطلوبة بالبقاء بشكل رسمي. من تؤهله حرفته اليدوية لمهام إعادة بناء المدينة يستطيع الإقامة بها قانونيًّا، والآخرون يظلون كالمشردين، محرومين من أي رعاية اجتماعية أو بطاقات تموينية أو حتى مسكن للإقامة.

ثم تحول المزاج العام بخصوص المهاجرين ليصبح أكثر حدة، بعدما بدأ يُنظَر لهم باعتبارهم السبب في الهزيمة العسكرية التي أوصلت البلاد لهذا الحال.

منطق السردية الشائعة بين الأهالي قام على أن هؤلاء المهاجرين قدموا من ولايات الشرق والشمال الشرقي. وهذه بالذات هي المناطق التي نشأت بها المملكة البروسية، بتقاليدها العسكرية الصارمة العتيدة. كانت طاعة الدولة والإخلاص لها والشعور بالواجب نحوها وتقديس الخدمة العسكرية من أبرز «الفضائل البروسية». هذه السمات عززت عقيدة تفوق الألمان العسكري على العالم، وثقتهم في إحراز نصر مؤكد خلال الحرب العالمية.  

هذه السردية طرحت سؤالًا مهمًّا: إذا كان هؤلاء اللاجئون هم من عسكروا ألمانيا وقادوها للهلاك، فكيف نبني ألمانيا ديمقراطية من جديد وبيننا مثل هؤلاء؟

ألمانيو الشرق خطر علينا

 في رسالة كتبها فلاح لجريدة «شمال ألمانيا» في عام 1947: « لا ينبغي أن نُصدِّق أن العقلية البروسية قد زالت بزوال الحكومة النازية وتفكيك دولتها. لا، إنها لا تزال حية بين كل أولئك الناس الذين أتوا لبلادنا من الشرق. وهم الآن من يسيطرون بأصواتهم الانتخابية على حكومتنا المحلية وعلينا».

من المذهل هنا أنه يتحدث عن ألمان مثله، يتحدثون لغته ويشاركونه تاريخه وجاءوا ليعيشوا بجواره وهم مطرودون وفي أقسى حالات البؤس الإنساني.

بحسب كتاب الصحفي الألماني هارالد يينر: «ما بعد الكارثة: ألمانيا والألمان بين عامي 1945و1955»، فقد شهدت البلاد عددًا من الصراعات الثقافية التي نشبت نتيجة عمليات النزوح البشري خلال الحرب وبعدها. مثلًا، انتاب الذعر القرويين بعد قدوم مئات الآلاف من سكان المدن المتهدمة للإقامة معهم تأمينًا للغذاء. لقد رأى القرويون في هذا المزج البشري تهديدًا حقيقيًّا للقيم الريفية التي تشكَّلت عبر مئات السنين. ولم يعد أهل بافاريا يرتاحون لزواج أبنائهم من شقراوات الشمال، توجسًا من أصولهن البروسية.

وبعد عودة الأقليات الألمانية من بلدان بعيدة مثل بلغاريا ورومانيا إلى الوطن، ظلوا عُرضة للتمييز نتيجة اختلافات طفيفة في طريقة أداء الشعائر الدينية بين أبناء الطائفة المسيحية الواحدة. وحتى العادات الغذائية الجديدة التي اكتسبها القادمون الجدد في المهجر، والتي خالفت الذوق المطبخي الشائع في ألمانيا كانت عرضة للسخرية. كان يكفي أن تضيف الثوم أو الفلفل الأحمر الحرَّاق إلى الطبخة، حتى تثير اشمئزاز جيرانك ويتم وصمك بأنك من غجر الشرق.

أمريكا هي الحل

كانت إحدى تبعات هذا المزيج البشري هو تشبث الجميع بهوياتهم المحلية. عاد المجتمع إلى وضعه القبلي الأصلي، وتعززت القوميات الفرعية، من بافارية وساكسونية وفرانكية وعشرات غيرها. لكن الانزلاق لحرب أهلية لم يكن خيارًا متاحًا على أي حال. لقد شهد هذا الجيل في غضون ثلاثين عامًا حربين عالميتين، أبادا الرجال ولم يبقَ سوى أطفال وعجائز وعاجزين. كان العيش المشترك هو الحل الوحيد.

ولكن كيف؟ كيف تُبنى الدولة الجديدة وكيف يكون دستورها؟ يتقدم التاريخ هنا ليقدم يد العون. نعود بالزمان مائة عام لنراقب أول محاولة جادة في ألمانيا لكتابة دستور في العصر الحديث. بعد ثورة مارس ١٨٤٨ في ألمانيا، اجتمع أعضاء البرلمان في كنيسة القديس بولص في فرانكفورت للتشاور حول شكل الدستور. وكانت مبادئ الثورة الفرنسية وكذلك مواد الدستور الأمريكي مصدر إلهام للمجتمعين.

دولة الولايات المتحدة الأمريكية بالذات كانت في ذلك الوقت مثالًا فريدًا لدولة شديدة الاتساع والتنوع، ومع هذا فقد ظلت مستقرة بعد سبعين عامًا من تأسيسها. والفضل في ذلك كان للنموذج الفيدرالي الاتحادي الذي قامت الدولة الأمريكية على أساسه.

 في كتابه «مشروع للسلام الدائم» والمنشور في عام 1795، حاول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط تقصِّي سبل تحقيق سلام عالمي يشمل البشر جميعًا. وانتهى به الحال أن يختار نموذج الحكم الفيدرالي الاتحادي كأهم ركيزة من ركائز مشروعه الذي قدمه لسياسيي العالم، قائلًا: «يجب أن يقوم قانون الشعوب على التحالف بين دول حرة».

ولم يكن هو المناصر الأول لفكرة الفيدرالية، فقد ظهرت قبل كتابه سلسلة «الأوراق الفيدرالية»، والتي كتبها ثلاثة من الآباء المؤسسين للدولة الأمريكية، هاميلتون وماديسون وجاي، لإقناع الشعب الأمريكي بالتصديق على دستور فيدرالي ينظم العلاقة بين مُكوِّنات الدولة الوليدة.

إن اتحاد الولايات الأمريكية معًا في شكل فيدرالي، ونجاح هذا الاتحاد في تأسيس دولة مستقرة، قد شجَّع الألمان على اقتباس هذه الصورة من شكل الدولة. ورغم تبدد الثورة الفرنسية بعد الانقلاب النابليوني، وفشل جهود المجتمعين في فرانكفورت والقضاء عليهم عسكريًّا، بل تعرَّض النموذج الفيدرالي الأمريكي القدوة نفسه إلى تهديدات وجودية حادة في الحرب الأهلية 1861ـ 1865، فقد حافظت فكرة الحكم الفيدرالي على جاذبيتها، واشتملت جميع دساتير ألمانيا الحديثة على قدر معتبر من الفيدرالية.

في عام 1947يكتب نائب رئيس تحرير جريدة «دي تسايت» الأسبوعية، إرنست فريدليندر، مقالًا يهدِّئ به مخاوف أبناء وطنه الحائرين بين نموذجي المركزية والفيدرالية كنظام للحكم في ألمانيا ما بعد الحرب. كان الحكم المركزي النازي كابوسًا لا يزال الناس يستفيقون من تجربته المريرة. وفي الوقت نفسه كان تفكك ألمانيا لدويلات منفصلة خطرًا ماثلًا أمامهم، نظرًا للأهمية المتزايدة التي اكتسبتها القوميات المحلية حينئذٍ.

كتب فريدليندر في افتتاحية مقاله:

يرى أنصار الحكم المركزي الفيدرالية على أنها نوع من الانفصالية. بينما يرى الفيدراليون المركزية على أنها دولة شمولية. وإذا كان هذا هو الحال بالفعل، فعندئذٍ يجب علينا الاستغناء شاكرين عن كلا الفكرتين وإزالة الموضوع من جدول الأعمال في أسرع وقت ممكن. لكن إذا استبدلنا بأجواء الجدل جو نقاش عقلانيًّا هادئًا، فإن الأمور تبدو مختلفة.

ثم يستكمل فريدليندر سطوره ليبرز في ثنايا مقاله تفضيله الشخصي لنظام الحكم الفيدرالي:

وبالنسبة لألمانيا، فليس هناك شك في أن تاريخها برمته يشير إلى ملاءمة النظام الفيدرالي. نحن لسنا شعبًا واحدًا متجانسًا، ولهذا السبب فليس مقدَّرًا لنا أن نصبح دولة مركزية موحَّدة. ونظرًا لأننا أمة ثرية بخبرات تاريخية مختلفة ومتنوعة، فمن المنطقي أن نأخذ هذه التجارب التاريخية ـ التي شهدت حكمًا ذاتيًّا واسعًا للولايات الألمانية ـ في الاعتبار الآن. ويكون من الطبيعي أن نمنح قدرًا مُعتبرًا من الحكم الذاتي للولايات الألمانية في الدولة الجديدة، وهذا هو لب فكرة الدولة الفيدرالية.

وحدث أن مالت دول الحلفاء أيضًا للخيار الفيدرالي في ألمانيا، وهكذا دُعيت الأحزاب الرئيسية الجديدة لتقديم نماذج الحكم الفيدرالي التي تتصور صلاحيته للبلاد. لقد قدَّم المحافظون والليبراليون والاشتراكيون الديمقراطيون والشيوعيون والقوميون نُسخًا مختلفة من الدستور الألماني الجديد، تتقاسم بها الولايات والحكومة الاتحادية السلطات والصلاحيات بدرجات متفاوتة.   

وبطبائع الأمور، فقد طالب الشيوعيون بتقليص صلاحيات الولايات لأقصى حد لصالح الحكومة الفيدرالية، ونادى القوميون بنقيض ذلك. وبعد مفاوضات طويلة ومساومات وتسويات بين الأحزاب المُمثلة، تم تجاهل النماذج الراديكالية المطروحة واختيار نموذج وسطي للدستور الفيدرالي الحديث في عام 1949. وحظيت الفيدرالية في نص الدستور بتحصين هائل، إذ تضمن الدستور مادة «الضمان الأبدي»، وهي مادة تمنع تعديل مواد الدستور التي تقضي بأن ألمانيا دولة اتحادية تتكون من ولايات، وأن الولايات تشارك الحكومة المركزية في وضع القوانين وتطبيقها بشكل جوهري.   

عواقب الفيدرالية الألمانية

هل انتهت القصة بتبني ألمانيا للفيدرالية وعاشت بعدها البلاد في سعادة وسلام؟ يبدو ذلك. المعجزة الاقتصادية التي تحققت بعد الحرب واستقرار البلاد سياسيًّا حتى الآن ـ حتى بعد عودة ألمانيا الشرقية للاتحاد ـ هي مؤشرات تؤكد فعالية نظام الحكم الذي وضعه الدستور. غير أن ما يخفى عن عين المراقب من بعيد هو مدى تعقد آليات النظام الفيدرالي والقصور الشديد في كفاءتها بالمقارنة مع نظم الحكم المركزية.

إن توزيع الصلاحيات بين الحكومة الفيدرالية والولايات مركَّب ومتشعب، ويتم استهلاك الكثير من الوقت في التنسيق بين الطرفين. وحتى بين الولايات وبعضها تتباين نُظُم الإدارة بشكل واسع. تصور أنك صاحب شركة وتريد تنفيذ مشاريع في عموم الولايات الألمانية.

إن لكل ولاية الحق في تشريع اللوائح والقوانين الخاصة بها، وهو ما ينتج غابة من القوانين المحلية. وهكذا فعليك أن تُعيد بناء نموذج العمل الخاص بشركتك في كل مرة توسِّع فيها نشاط شركتك في ولاية جديدة، لتتكيف مع قوانين تلك الولاية. تخيل أنك مُعلِّم مدرسة أو صاحب حرفة وترغب في الانتقال للعمل بولاية أخرى. لن تعترف الولاية الجديدة بمؤهلاتك ولن تسمح لك بممارسة مهنتك قبل أن يتم تقييم تدريبك التربوي أو المهني في الولاية السابقة. وقت ثمين تُضيِّعه بيروقراطية غير فعَّالة. 

ومما يعيب النظام الفيدرالي أيضًا النفوذ الذي تتمتع به الولايات ذات الثقل السكاني الأكبر، مما يهدد الوصول لقرارات عادلة للجميع. وأيضًا ازدواجية النظام الإداري، فكل إدارة فيدرالية لها ما يناظرها بكل ولاية من الولايات. وهكذا فهناك ست عشرة وزارة تعليم بالإضافة لوزارة التعليم الفيدرالية. وهذا ما يقود لتعاظم النفقات الإدارية وإهدار الموارد.

وهكذا فلن يستطيع المرء الادعاء بأن تفضيل الألمان للفيدرالية كان قرارًا مثاليًّا. ومع هذا فقد نجح في صون البلاد من النزعات الانفصالية. ولا يزال الألمان يرون في بلادهم مثلًا أعلى لدول مركزية عديدة تواجه حركات انفصالية. إن الأسكتلنديين ببريطانيا وباسك إسبانيا وقاطني جنوب تيرول بإيطاليا وقوقاز روسيا وإيجور الصين، كلها أقليات تتواجد بعيدًا عن مركز الدولة الجغرافي. وجميعها ساخطة من تجاهل الحكومات المركزية وقمعها لها، وتوَّاقة لفسخ روابطها بالدولة المركزية.

لذا فهي مواطن خصبة لحركات انفصالية، لا سبيل للتعامل معها إلا بتقديم تنازلات أو إخضاعها بقوة السلاح. فلماذا والوضع هكذا لا تكون الدولة الفيدرالية هي العلاج الناجع؟

لقد عكف وزير الدعاية النازية جوزيف جوبلز على بث دعايته الشعبوية ليل نهار في آذان الألمان طيلة أحد عشر عامًا. كانت الدعاية النازية تصرخ: «أنت لا شيء. وطنك هو كل شيء». ثم جاءت لحظة الفطام بعد الحرب، عندما سلَّم الناس باختلافاتهم، ورضوا بتوزيع السلطة بينهم بما يضمن مشاركة ديمقراطية للجميع على مختلف المستويات، وحقوقًا متساوية لكل ثقافات الوطن.