قد يحدث أن تبحث عن شيء بشدة وتبذل قصارى جهدك ولا تصل إليه، وبعد أن تحبط وتتوقف عن البحث تجده بمنتهى السهولة.

هذا الموقف ليس إلا تصويرًا ونموذجًا لما قد يحدث في حياتنا مجملاً، فكلما صدَّقنا وازداد شغفنا وعشقنا شعرنا بأن هناك قوة ميتافيزيقية -ما وراء الطبيعية- تتدخل بطريقتها لإرضاء هذا الشغف وتروي ظمأ هذا العشق، ولكن هذه القوة لا تتدخل إلا في ظروف عقلانية مسترخية، تبدو فيها وكأنك استسلمت للهزيمة وتوقفت عن البحث.

الأمر ليس ميتافيزيقيًّا فلسفيًّا بل وجد العلم التجريبي تفسيرًا له، وتبين أن أي شغف في الحياة قابل للتحقق بشرط أن يتملكك، أو يتحقق نسبيًّا وفقًا لدرجة شغفك به، في عملية لا شعورية تتم داخل العقل الباطن.

في علم التحليل النفسي هناك قاعدة تقول، إن الإنسان لا ينسى وإنما يعمل عقله الواعي على كبت الأفكار والرغبات في عقله الباطن، فتظل كامنة إلى أن يغفو العقل الواعي فيظهرها العقل الباطن في أوقات الشرود أو الغفوة في حالة أحلام يقظة، أو خلال النوم في صورة أحلام منامية.

يخزن العقل الباطن الأماني التي يراها العقل الواعي غير منطقية، فيكبتها لأنها ليست مجدية أو أن تحقيقها فوق قدرتك، فإذا غفا العقل الواعي ظهرت الأمنية، وبرق الإلهام الذي يوضح كيف تتحقق هذه الأمنية.

هذا العقل الباطن هو سر اختراعات العلماء، ونظريات الفلاسفة، وإبداعات الفنانين، وقصص العاشقين وإنجازات السياسيين، هو سر الإيمان واليقين والتحقق… هو أيضًا زلة اللسان التي تظهر عند الانفعال أو النسيان، وتوضح حقيقة الشخص، مهما حاول أن يبرر أن كلامه غير مقصود أو خانه التعبير.

هذا أدى إلى ما عرف بـ«قانون الجذب»، الذي تتلخص فحواه ببساطة في المقولة المنسوبة لإمام أهل البيت علي بن أبي طالب: «كل متوقعٍ آتٍ فتوقع ما تتمنى»، وفي المقولة الشعبية المصرية: «اللي يخاف من العفريت بيطلعله»، أي نحن ما نجذب واقعنا إلينا بتمنياتنا وتوقعاتنا.

انطلاقًا مما سبق، كيف يعمل عقلنا على تحقيق أحلامنا؟ وهل للمسألة حدود؟ وهل لها علاقة باعتناق دين أو عقيدة أو فلسفة أو أيديولوجيا بعينها، أم أن كل من تمنى وآمن وأيقن تحقق؟ وما شروط ذلك؟ هذا ما نجيب عنه من واقع أدلة ونظريات فلسفية ونفسية.

عقلان لا واحد

للإنسان عقلان، أو ينقسم عقله إلى جزأين، أحدهما يحكمه المنطق، والآخر تحكمه العاطفة والغريزة، ويتفاعلان معًا للتحكم في مصيرك.

العقل العاطفي يقع فوق الرقبة أسفل الرأس، والمنطقي يقع في قمة الرأس. وعن طريق العقل المنطقي نفهم الأشياء بمنطقية، أما العقل العاطفي فهو لا يستوعب ذلك، لما له من قدرات سابقة على المنطق والفهم المنظم، بحسب ما يوضح أستاذ علم النفس الأمريكي دانييل جولمان، في كتابه «الذكاء العاطفي».

المنطق يحب فرض سلطته على العواطف، فيكبتها أو يفلتها، أو ينظم تدفقها، وكذلك العواطف تستوعب الأفكار وقد تحبها فتحتضنها وتدعمها أو العكس، وبين العقلين جزء في الدماغ ينظم هذا التفاعل يسمى «أميجدالا Amygdala»، بحسب ما يوضح عالم الأعصاب الأمريكي جوزيف لو دو Joseph Le Dou في كتابه «العقل العاطفي: الأسس الغامضة للحياة العاطفية-The Emotional Brain: The Mysterious Underpinnings of Emotional Life».

ووفقًا لموقف العاطفة وقوتها يتحدد نجاح استيعاب وتطبيق الفكرة، وكلما كانت العاطفة المصاحبة للفكرة قوية -أي كلما أحببت الفكرة- نجحت في تنفيذها. وفي المقابل، كلما دعَّم المنطق العاطفة وطمأنها صارت أقوى وأكثر تحققًا، بحسب ما نقل كامل عويضة عن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا في كتابه «باروخ سبينوزا: فيلسوف المنطق الجديد».

والعقل العاطفي أقوى من المنطقي، وهو الذي يكمن فيه ما يسميه علماء النفس بـ«العقل الباطن»؛ فالعقل العاطفي غرائزي يرتبط بالأمور التي من دونها تضيع حياة الإنسان، كالطعام والشراب والجنس، بحسب ما يتفق العلماء.

ووفقًا لنظرية التطور، فإن العقل المنطقي مستجد على الإنسان وازداد أهمية -ويزداد- مع تطور الإنسان عبر الأزمنة المختلفة، حيث يوضح جولمان أن حجم مخ الإنسان الحالي يعادل 3 أضعاف مخ الإنسان الأول، وهذا الحجم تضاعف بفعل نمو القشرة المخية المسؤولة عن التفكير المنطقي، منبثقةً عن جذع الدماغ (المخ العاطفي)، والنتيجة أن العواطف تغلب المنطق في الغالب.

فالمخ العاطفي قديم وأصيل في الإنسان لذا فهو يملك اليقين، على عكس العقل المنطقي الذي ينتابه الشك كثيرًا، حيث يتكون من أفكار اكتسبها الإنسان من مجتمعه أو عالمه الإنساني، حدّدتها القيم الفكرية المتوارثة داخل هذا المجتمع أو هذا العالم، لذلك فهي عُرضة للتغيير. وكثيرًا ما رأينا من غيَّروا أفكارهم وعقائدهم وفقًا لمتغيرات استجدَّت بالنسبة لعقلهم المنطقي، بعد أن تحرروا من سلطة مجتمعاتهم وقيمها الجمعية، والأهم بعد أن دعم العقل العاطفي هذا التغيير.

سر أصحاب المعجزات

إذا اعتبرنا أن أكثر الأفكار البشرية تأثيرًا وشيوعًا هي الأفكار الدينية، فسنجد أن أشد المؤمنين بها هم الأكثر ارتباطًا عاطفيًا بها، وهم الذين تأتي على أيديهم المعجزات؛ فما من عقيدة دينية إلا وشاع عن أقطابها معجزات قد لا يصدقها العقل المنطقي البشري، رغم أن كل هذه الديانات في الغالب تكفر ببعضها وترى أن أصحابها خارج دائرة الرضا الإلهي، فكيف تتحقق معجزات على أيديهم جميعًا، رغم أن أصحاب كل دين منفرد يفترضون أنهم وحدهم في معية القدرة الإلهية؟

وبعيدًا عن الديانات، نجد أن أكثر العلماء والفنانين تأثيرًا كانوا يعشقون ما يفعلون، وكذلك نقيس على الزعماء السياسيين وأي شخص أثّر في تاريخ البشرية؛ فبقدر عشقهم ويقينهم الذي أدى إلى اندماجهم فيما كرسوا له حياتهم، بقدر ما أتى الإلهام وتحققت الخوارق. فماذا يحدث؟

أي إبداع بشري، حتى لو وُصِفَ بالمعجزة، يمرُّ بمجموعة مراحل -حتى ولو استغرقت هذه المراحل ثواني معدودة- اجتهد العلماء في تصنيفها، ومن أشهرها تصنيف عالم النفس البريطاني جراهام والاس، الذي نقله للغة العربية حسن أحمد عيسى في كتابه «الإبداع في العلم والفن»، فهذه المراحل هي بالترتيب: «الإعداد، الاحتضان، الإشراق، والتحقيق».

في مرحلة الإعداد تُجرى عمليات جمع المعلومات، واستدعاء كل الخبرات وتهيئة المهارات، ووضع الخطط المبدئية تمهيدًا لإنجاز العمل.

ثم تأتي مرحلة الاحتضان، وهي التي يحتضن خلالها المبدع المعضلة الأساسية لفكرته، ويبذل أقصى جهده لحلها، وقد يحلها، ولكنه قد يعجز عن الحل، فيعتريه شعور بالإحباط، وينصرف عن الموضوع برمته، ولكن الفكرة تظل نشطة في العقل الباطن.

بعد ذلك يحدث الإشراق، أو ما يمكن تسميته الإلهام أو الوحي الذي يداهم المبدع فجأة، كومضة برق سريعة، وتفسير هذه اللحظة أن العقل الباطن ظل يعمل في صمت دون أن يزعج عقلنا الواعي حتى عثر على الحل وأمده به.

وهنا نتذكر ما حكاه الفنان العالمي شارلي شابلن، بحسب ما ينقل عنه ماجد موريس في كتابه «سيكولوجيا القهر والإبداع»: كان يحدث أحيانًا أن تتعثر القصة عند عقدة معينة أجد صعوبة في حلها، فأضطر عندئذ إلى إرجاء العمل، وأحاول أن أفكر وأن أتمشى عائدًا في حجرتي… وكثيرًا ما كان يجيء الحل في نهاية اليوم بعد أن يستبد بي اليأس تمامًا، وأكون قد فكرت في كل شيء وعدلت عنه.

ويعتبر ماجد موريس، أن تلك الومضة الفكرية التي تشعُّ في ذهن المبدع وتلهمه، تأتي من منطقة أبعد من التفكير العقلي، بعد مرحلة تتحد خلالها روح المبدع بالكون، فيما يشبه ما كتب عنه بعض أقطاب الصوفية في علاقاتهم بالله، حيث تزول خلالها كل الحواجز المكانية والزمانية، نتيجة العاطفة الشديدة التي ينفذ بها المبدع إلى موضوع تفكيره، فيبزغ الإلهام مصحوبًا بهزة عاطفية قوية في النفس.

بعد ذلك تأتي عملية التحقيق، أو تطبيق وتنفيذ هذا الإشراق أو هذا الإلهام على شيء ملموس، كان هو بالأساس الدافع إلى التفكير.

هذه العاطفة التي تحدث عنها موريس تستند على اليقين بأن هناك حلاًّ، وفي الوقت نفسه يتغذى هذا اليقين على تلك العواطف ويتقوى بها، ورَصْدُ ذلك عند أصحاب الديانات ممكن بسهولة لمن أراد، ولكننا لاحظناه أيضًا عند غيرهم، ومن ذلك ما نسب للطبيب والفيلسوف اليوناني أبقراط، الذي كان يرى أن بإمكانه فرض الشفاء على المريض بقوّة الإيحاء «مستغلًا إيمان المريض بقوّة الطبيب»، حيث قال «كنت أربّت على أجسام مرضاي ملاطفًا، وغالبًا ما بدا لي كأن هناك خاصيّة غريبة في يدي تشدّ وتُخرج الأوجاع من الأجزاء المصابة، وذلك يحصل بوضع يدي على المكان المصاب، وبمدِّ أصابعي نحوها، وذلك ليعرف المتعلّم (يقصد تلامذة الطب) أن الصحة يمكن أن تُفرض على المريض بحركاتٍ معيّنة، وبالاتصال، تمامًا كما ينتقل المرض من إنسان آخر»، بحسب ما نقل عنه الدكتور أحمد توفيق حجازي في كتابه «موسوعة الطب البديل».

وهنا نجد أن عاطفة المريض تجاه الشفاء وعاطفة الطبيب تجاه إثبات مهارته، غذت عندهما (الطبيب والمريض) اليقين بأن الشفاء ممكن، وهو ما حدث.

ويمكن أن نقيم مقاربات كثيرة بين ما فعله أبقراط ومعجزات الشفاء التي تأتي فعليًا على أيدي رجال دين من هذا الدين أو ذاك، وأضفنا إلى إيمان المريض بقوة هذا الشيخ أو القس أو الحبر أو الكاهن إيمانه أيضًا باتصال الشيخ أو القس أو الحبر أو الكاهن بقوة إلهية خارقة ستأتي بالشفاء لا محالة، وهنا يكتسب جهازه العصبي نشاطًا وحيوية تجعل مناعته تعمل بكامل قوتها للقضاء على المرض، هذا النشاط يتناسب مع مدى إيمانه بهذا الشيخ، وكلما زاد الإيمان كانت النتيجة مرضية له، والعكس.

إذا لم يلهمك صحوك فالأمل في نومك

إذا كانت غفوة العقل الواعي عن التفكير المنطقي في شيء، تتيح الفرصة للعقل الباطن أن يلهمه، فإن النوم يصبح مسرحًا مناسبًا لعمل العقل الباطن، ليلهمنا بالأفكار ويكشف المستور من خلال الرؤى المنامية.

والمثير أن بعض أصحاب التفسيرات الميتافيزيقية الروحانية اقتربوا كثيرًا من أصحاب التفسيرات المادية في ذلك، واتفقوا على أن العاطفة القوية تخلق الرؤية المنامية لتلهم صاحبها بما لم يستطع عقله الواعي المنطقي أن يمده به.

وإذا تتبعنا ما قاله رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد في كتابه «تفسير الأحلام»، وكذلك وليم هلس ريفرز W. H. R. Rivers في كتابه «الصراع والحلم Conflict and Dream»، رأينا كيف يعانق ما قاله الفيلسوف المسلم ابن عربي قبلهم بمئات السنين في مواضع متفرقة من «الفتوحات المكية» وفي رسالته عن «المبشرات المنامية»، حول علاقة الحلم بالحقيقة، وعلاقة ما يدور في النفس بما يرى في المنام وما يتحقق في الواقع.

ووفقًا لعلم التحليل النفسي فإن العقل الواعي (المنطقي) حين يسهو أو ينام ويتعطل ولو بدرجة عن التفكير فيما يشغلنا، فإنه ينزع سلطته عن العقل الباطن، وفي هذه اللحظة يلهمنا هذا العقل الباطن بما لم يقدر عليه عقلنا الواعي.

فإذا كان النوم خفيفًا نشعر بالصراع في الحلم والحيرة وعدم تحقيق الرغبة، وإذا كان النوم غير خفيف شعرنا بتحقيق الرغبة في الحلم، لأن النوم الخفيف يكون العقل الواعي فيه حاضرًا بنسبة ما، فيعيق تحقيق الرغبة، وكلما غاب العقل الواعي اقترب الحلم من تحقيق الرغبة؛ فهذه العاطفة المكبوتة في العقل الباطن هي التي تُحدث الإلهام وقت الغفوة أو السهو عن الشيء وقت الصحو، وهي أيضًا التي تصور الرؤية المنامية وقت النوم.

ووفقًا لما سبق يمكن بشيء من العزيمة المشحونة بالعاطفة توجيه خواطرنا إلى معانٍ نتمناها، بتهيئة العقل الباطن قبيل النوم وتوجيه تمنياتنا إلى شيء نحبه، لنرى نتيجتها أثناء النوم، وهو أمر تناولته دراسات حديثة.

وما سبق من كلام سيكولوجي يتفق مع ما قاله ابن عربي، الذي قال: «ينبغي للعبد أن يستعمل همته في الحضور في مناماته بحيث يكون حاكمًا على خياله يصرّفه بعقله نومًا كما كان يحكم عليه يقظة».

علاقة الرؤيا بالخيال عند ابن عربي تتحدد في كون جميع ما يدركه الإنسان في النوم، هو مما يضبطه خياله في حال اليقظة من الحواس، وهو على نوعين: إما ما أدركت صورته في الحس أثناء الصحو وجاء مردوده في النوم، وإما ما أُدركت أجزاء صورته في النوم وترجمت في الحس أثناء الصحو.

واعتبر ابن عربي أن هذه الحضرة الخيالية أوجدها الله ليظهر فيها الأمر نقيًا دون شوائب تؤثر على أصله، وقد جعل الله هذه الحضرة كالجسر بين الشطين (شاطئ الصحو والحس، في مقابل شاطئ النوم والخيال) للعبور عليه من هذا الشط إلى هذا الشط، فجعل النوم معبرًا وجعل المشي عليه عبورًا، مستشهدًا بالآية القرآنية «إن كنتم للرؤيا تعبرون».

واعتبر ابن عربي أن المخيلة تتحرر في النوم من أثر الحواس، وتنطبع عليها صور العالم المثالي، كما تنطبع صور الشيء المرئي على المرآة، وتحصل الرؤيا الصادقة.

وهكذا نجد ابن عربي يؤكد أن الرؤيا التي اتفق المسلمون على أنها جزء من النبوة، وأنها وحي من الله، ليست شيئًا خارجيًا عن الإنسان، وإنما هي صنيعة خياله وشغفه وعشقه، حتى ولو كان الله هو خالق هذا النظام العقلي والعاطفي في الإنسان، فإن الإنسان هو من يقرر إلى أين تتجه هذه العاطفة، بشرط أن يكون هذا الإنسان يملك القوة الباطنية التي تؤهله لذلك، هذه القوة هي قوة الحب، هذا السر الإعجازي الذي جعل بعض الصوفية يقولون إن «الله هو الحب».