على الرغم من توافد الجاليات الأجنبية على مصر في عصور وحقب زمنية مختلفة، فإن الدراسات التي تناولت دور هذه الجاليات وعلاقاتها بالمجتمع المصري مازالت قليلة، ومازالت يفسر دورها في سياق الإمبريالية وعلاقة المستعمر بالنخب المتعاونة معه، دون التطرق إلى الجانب الإيجابي في حياة هذه الجاليات أو تأثيرها في الاقتصاد المصري.

في هذا الشأن، حاولت الكاتبة «نجاة عبد الحق» (وهي فلسطينية مقيمة في ألمانيا ومتخصصة في الاقتصاد والدراسات الشرق أوسطية) تقديم تحليل مختلف لتجربة هذه الجاليات، ودورها في نهضة الاقتصاد المصري، وذلك عبر كتابها «الجاليتان اليهودية واليونانية في مصر: عالم المال والأعمال قبل عبد الناصر».

ركزت الكاتبة على النجاح الاقتصادي لهذه الجاليات في الفترة من 1885 إلى 1960، مع إيلاء اهتمام خاص للجاليتين اليهودية واليونانية لدورهما الواضح في هذا النجاح. وسعت للإجابة على عدد من التساؤلات المهمة بشأن الدور المميز لهاتين الجاليتين، وكيف خرج منهم الشخصيات المهيمنة على الاقتصاد، فيما تطرقت أخيرًا إلى حضورهم السياسي والثقافي وعلاقتهم بالمجتمع المصري.


اليهود واليونانيون والاقتصاد المصري

لعبت الأقليات بصفة عامة دورًا مميزًا في التطورات الاقتصادية الواسعة التي ميزت الفترة من 1885 إلى 1960. ارتبط هذا الدور في البداية بالتدفق الأوروبي في عهد محمد علي، الذي فتح باب الهجرة إلى مصر على مصراعيه. وفي هذا الشأن، قسّمت الكاتبة دور هذه الأقليات إلى مرحلتين، الأولى قبل ثورة 1919 وتأسيس بنك مصر، والثانية بعد 1919.

المرحلة الأولى: قبل ثورة 1919

برز الدور الاقتصادي للجالية اليونانية عبر السيطرة على زراعة وصناعة القطن من الألف إلى الياء، فضلًا عن صناعة التبغ التي شهدت انتعاشًا كبيرًا، نتيجة استهلاك الجيش البريطاني له في الحرب العالمية الأولى.

أسس اليونانيون خلال تلك الفترة العديد من الشركات التجارية والصناعية، والتي أسهمت بدورها في إدخال بعض الصناعات، على رأسها الكحول وملحقاته. وكان لهم كذلك حضور واضح في الصناعات النسيجية وبعض الصناعات الخفيفة.

لم يتوقف نشاط اليونانيين عند هذا الحد، فقد تغلغلوا داخل نسيج الاقتصاد المصري وتركزت في أيديهم تجارة الجملة والاستيراد والتصدير، خاصة في ظل نظام الامتيازات الأجنبية الذي كان يمنحهم إعفاء شبه تام من ضرائب الدخل. حتى قال عنهم اللورد كرومر:

وفيما يخص اليهود، فقد كان لهم ولرأسمالهم مساهمة كبيرة في الشركات الكبرى، كشركات صناعة السكر، ومد وتشغيل السكك الحديدية، والنقل الداخلي، والكهرباء، والعقارات، والتجارة بمختلف أنواعها.

ونشط الرأسماليون اليهود كذلك في مجالات البنوك والشركات المالية والتأمينية، والصناعات الكيماوية، واستخراج البترول واستغلال أراضي البناء. وكأنهم لم يتركوا مجالًا يمكن أن يربحوا فيه دون أن يدخلوه.

وبالرغم من هذه السيطرة الاقتصادية، فإن ذلك لم يكن حال الأغلبية من اليهود. فكان هناك تمايز طبقي إلى حد كبير؛ إذ وُجد اليهودي المعدم واليهودي الفاحش الثراء. ولم يكن عدد الأسر الثرية -التي امتلكت ثلث الشركات المصرية وأسست البنوك والمصانع- يتجاوز العشرات. ما يعني أن الجالية اليهودية لم تسيطر على الاقتصاد، ولكن عدة عائلات يهودية استغلت شبكة علاقاتها بالداخل والخارج وجنت ثروات طائلة، مكّنتها من التوسع والسيطرة على جزء كبير من الاقتصاد.

المرحلة الثانية: بعد ثورة 1919

شارك اليهود في معظم الشركات المصرية، والتي بلغ عددها نحو 850 شركة، وبلغت نسبة مساهمتهم حوالي 40%. أما اليونانيون فلم ينخرطوا بهذه الشركات، إلا بشكل قليل جدًا، وبقيت لهم شركاتهم الخاصة بهم.


لماذا تفوق اليهود واليونانيون؟

لم تكتفِ الكاتبة بتوضيح نجاح الدور الاقتصادي للجاليتين اليهودية واليونانية فقط، بل عمدت إلى تقديم تفسير اقتصادي لهذا النجاح عبر الاعتماد على «نظرية النمو» لعالم الاقتصاد الأمريكي «جوزيف شومبيتر».

تقوم تلك النظرية على دور الشخص المبادِر (الخلّاق اقتصاديًا) في عملية النمو الاقتصادي. وتشير الفرضية الأساسية لها إلى أن النجاح الاقتصادي لهاتين الأقليتين يُطابق بشكل مثالي فرضيات شومبيتر للمبادِر الاقتصادي:

1. وجود الفكرة الاقتصادية الخلاقة.

2. التعليم العالي وانعدام الأمية تقريبًا.

3. القدرة على الوصول إلى رأس المال.

4. الاطلاع على ما يجري في الأسواق الخارجية (استباقية معلوماتية عن الآخرين).


الحضور الثقافي والمجتمعي

وضحت الكاتبة كذلك العلاقة بين كل من هاتين الجاليتين والمجتمع المصري، على كل المستويات السياسية والثقافية. فأشارت إلى أن اليهود في مصر انقسموا إلى «أصلاء»؛ ملتحمين بالمجتمع المصري من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة، ولا يتكلمون إلا العربية.

هناك من جاء منهم إلى مصر بعد خروج العرب من الأندلس في القرنين الـ 15 والـ 16، ويُعرف هؤلاء بــ ـ«اليهود السفارد»، وكانوا يتحدثون لغة «اللادينو»، وهي لغة يهود الأندلس. وهناك من جاء إلى مصر بعد شق قناة السويس، حيث كانت مصر آنذاك بلد هجرة. أما الجزء الأخير فكانوا من «الأشكناز» الذين فروا بسبب اضطهاد اليهود في شرق أوروبا، في الربع الأخير من القرن الـ 19 وأول القرن الـ 20.

وبصفة عامة، فالاندماج بين اليهود والمصريين كان عاليًا جدًا مقارنةً بالاندماج بين اليونانيين والمصريين. فاليونانيون كانوا منعزلين -إلى حد ما- بسبب اللغة والدين، وكان لهم نواديهم ومدارسهم الخاصة والأحياء الخاصة بهم، ولم يكن لهم زواج مختلط مع غيرهم.

كذلك تفوق الحضور السياسي لليهود على الحضور اليوناني. إذ كان هناك وزيران يهوديان في فترة الملك فاروق، فيما لم يكن هناك أي وزير يوناني. وهو الحال أيضًا في الجوانب الثقافية والفنية، حيث يكفي الإشارة هنا إلى أن مؤسس أول أستديو للإنتاج السينمائي في مصر «استديو مصر»، هو اليهودي «توغو مزراحي»، هذا فضلًا عن وجود عدد كبير من الفنانين والممثلين اليهود بالسينما المصرية.


الجاليات والحرب العالمية الثانية

أينما توفرت أقل إمكانية للشراء بثمن رخيص والبيع بسعر مرتفع، فستجد التاجر اليوناني.

ظل الحضور الاقتصادي والمجتمعي لهذه الجاليات قائمًا حتى تغير الوضع بعد الحرب العالمية الثانية. فالتغييرات السياسية التي حدثت بمصر، وخاصة إلغاء القطاع الخاص، حرمتهم من مصدر رزقهم، ومثّلت بداية نهاية الماضي الثري لهم.

فخلال فترة الحرب حدثت أزمة اقتصادية كبيرة في مصر بسبب نقص السلع وارتفاع الأسعار، إذ كانت مصر مركزًا لتمويل الجيش البريطاني. ثم تبع ذلك صدور قانون «التمصير» عام 1947، الذي نصّ على أن تكون كل الأيدي العاملة في الشركات المصرية من المصريين. بدأ القانون بتمصير العمالة، ثم تبعه آخر بضرورة تمصير الإداريين، ما أثّر بشكل كبير على هذه الجاليات.

ساهمت حركة الضباط الأحرار في 1952 وما تبعها من سياسات، في خروج جزء بسيط من اليهود. ثم جاءت عملية لافون 1954 لتُحدث شرخًا بين المجتمع المصري والأقلية اليهودية، ما أثّر بشكل كبير على هذه الأقليات. إذ قام بهذه العملية يهود مصريون بتخطيط من الموساد الإسرائيلي، لاستهداف مصالح بريطانية وأمريكية في مصر، وذلك للإضرار بعلاقات مصر مع هذه الدول. وأخيرًا جاءت الضربة القاضية مع العدوان الثلاثي في 1956، الذي شاركت به إسرائيل، ثم عمليات التأميم في 1960.

أما اليونانيون، فقد كان السبب الوحيد لخروجهم من مصر اقتصاديًا، وهو تراجع مصادر رزقهم، ومن ثَمَّ انقطاعها نهائيًا بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية وحركة التأميم التي مست كل قطاعات الأقليات الأجنبية، وأثرت بشكل كبير على عملية الابتكار ودورها في دفع الاقتصاد.

وبعكس خروج اليهود في غضون عشر سنوات، فاليونانيون خرجوا بالتدريج على مدى 30 عامًا، بدأت منذ 1927، وانتهت مع قوانين التأميم والإصلاح الزراعي في نهاية الخمسينيات. وتؤكد الكاتبة أن الجاليتين اليونانية واليهودية ساهمتا في رفع معدل النمو الاقتصادي في مصر في عهد الملكية، ومع خروج هاتين الأقليتين، حدث نزيف في جزء كبير من الأدمغة الاقتصادية المصرية.