قال إبليس لربه: «أن أكون منك ملعونًا أحب إليّ ألف مرة من أن أحوّل رأسي عنك وأوجهها إلى سواك»
الصوفي الشهير الحسين بن منصور الحلاج (توفي 309هـ – 922م)

ويرى الحلاج أن أعظم الموحدين هما «إبليس» و«النبي محمد»، وأن عصيان إبليس كان توحيدًا لله، لا شركًا ولا كفرًا.

إبليس عند الحلاج وعدد من الصوفية وقع في مأساة، فهو الموَحِّد، ولا يستقيم توحيده مع السجود لغير الله، وفي الوقت نفسه أمره الله بأن يسجد لآدم، ما أدى إلى وقوع اللعنة عليه.

الصوفية أو عدد منهم أعادوا قراءة إبليس من منظور يختلف عن التصور التقليدي له، فهو كبير الملائكة، الذي عبد الله آلاف السنين قبل خلق آدم، ولم يكن ليخالف أمر الله بسهولة، ويَقبَل على نفسِه اللعنة والطرد من الجنة.

فلِمَ خالف إبليس أمر الله ولم يسجد لآدم؟ هذا ما نجيب عليه من خلال سرديات صوفية فلسفية، تظهر إبليس كمحب متصوف في عشق سيده، يعيش مأساة في حبه تنفيذًا لمراده الذي اقتضى أن تحتوي الحياة على خير وشر، على معصية وطاعة، على جمال وقبح.

إبليس الموحد المحب: لي معك سابق عبادة

ألف الصوفية أدبيات تشرح الدراما التي جرت في مأساة إبليس، في محاولة لفهم دوافعه، وحكمة الخالق مما حدث، ونلمس منها أن الدافع الأهم لإبليس في عدم السجود كان توحيده.

ومن الحكايات الدرامية أن إبليس قابل نبي الله موسى عند طور سيناء بعد أن طلب من الله أن ينظر إليه، وحينها رد عليه ربه «انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني»، بحسب آية الأعراف، وحينها نظر موسى إلى الجبل الذي اهتز، وخر صعقًا.

بعدها دار هذا الحديث الذي تخيله الحلاج بين موسى وإبليس:

قال موسى لإبليس: ما منعك عن السجود؟

فرد إبليس: منعني الدعوى بمعبود واحد، ولو سجدت له لكنت مثلك، فإنك نوديت مرة واحدة «انظر إلى الجبل»، فنَظَرت، ونوديت أنا ألف مرة: أن اسجد، فما سجدت لدعواي بمعناي.

موسى: تركت الأمر؟

إبليس: كان ذلك ابتلاءً لا أمرًا

استقبل إبليس أمر الله له بالسجود لآدم كابتلاء، ليرى إن كان سيصر على التوحيد وعدم السجود لغيره أم لا، وهذا الابتلاء أو الاختبار اختبر به موسى حين قال له الله «انظر إلى الجبل».

 فما كان ينبغي لموسى أن يطيع الله وينظر إلى غيره، وهو ما لم يقع فيه نبي الإسلام محمد الذي قال الله عنه «ما زاغ البصر وما طغى»، أي ما زاغ بصره عن الله، ولم يفتتن بأي شيء وضعه له الله في طريقه إليه.

ولم يستطع تجاوز هذا الاختبار سوى اثنين في رأي الحلاج، وهما إبليس والنبي محمد، ولذلك فهما أعظم الموحدين.

ونفس الأمر قال به الصوفي أحمد الغزالي، شقيق الصوفي الأشهر أبوحامد الغزالي، حيث قال: «من لم يتعلم التوحيد من الشيطان فهو كافر».

كذلك يقول الصوفي الهندي سرمد كاشاني (توفي 1661م):

اذهب فتعلم من الشيطان كيف تعبد
فاختبر قبلة واحدها لسواها لا تسجد

هذا الموحد هو عاشق لا مثيل له، تمنى بعض الصوفية العاشقين أن يكونوا مثله، كأبي بكر الشبلي (توفي في 334هـ – 945م) الذي احترق غيرة من إبليس لأنه كان يتكلم مع الله، معتبرًا أنه على استعداد أن يُلعن مثله في مقابل أن يتكلم مع الله، حيث يقول:

«وروحي التي أغلقت عينها عن كلام العالمين قد احترقت غيرة من إبليس في هذا الزمان، فما أكثر ما وقع عليه خطاب اللعنات، وإن هذه الزيادة لتصيبني بالحسرات».

هذا العاشق (إبليس) تحمّل اللعنة بقلب راض تنفيذًا لمراد حبيبه، وتقديسًا لتوحيده، ويبدو ذلك فيما سرده الإمام عز الدين المقدسي (عز الدين عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي المقدسي الشافعي، الذي توفي ودفن بالقاهرة عام 678هـ، 1280م) عن مأساة إبليس.

تقمص المقدسي شخصية إبليس وتحدث بلسانه، فقال:

قال (الله) لي اسجد لغيري، قلت لا غير. قال عليك لعنتي قلت لا ضير. إن أدنيتني فأنت أنت.

قال (الله) تفعل ذلك استكبارًا وفخارًا؟

فقلت (إبليس): سيدي من عرفك في عمره لحظة، أو خلا بك في دهره غمضة، أو صحبك في طريق محبتك ساعة، حقٌّ له أن يفتخر… كم قد رقمت في صحائف توحيدك في الليل والنهار، كم قد درست من دروس تقديسك وتمجيدك في الإعلان والأسرار.

ويكمل (إبليس):

الآثار تشهد لي، والديار تعرف بحقي، والليل والنهار يصدقني… فأين كان آدم وأنا إمام صفوف الملائكة، وخطيب جميع الكروبيين، وقادة وفد المقربين، فلي معك سابق عبادة، ولك معي سابق إرادة.

هنا نحن أمام عاشق متيم بمحبوبه وهذا الحب جعله يعصى أوامر محبوبه، لا تحديًا له، وإنما عشقًا له.

ويبرر الصوفي الشهير جلال الدين الرومي معصية إبليس بجهله، لا بشركه، حيث غابت عنه حقيقة الروح التي نفخها الله في آدم، ونظر إلى جسده المصنوع من طين؛ فسجود الملائكة كان للروح التي نفخها الله، كونها بضعة من الله، لا للتراب الذي صنع به جسد آدم.

يقول الرومي:

رأى جسم آدم مخلوقًا من تراب فهنالك افتخر بنفسه وقال: أنا خير منه. إلا أنه غاب عنه أن الله نفخ في الإنسان من روحه.

تهون اللعنة لأجل تنفيذ المشيئة

هناك اتجاه قوي في الفكر الصوفي يرى أن وجود إبليس كان ضرورة حتمية كفكرة، فحين خلق الله الإنسان كان قد قرر في أزله أن بني آدم لن يكونوا مخلوقات ملائكية مجبولة على الطاعة، وإنما كائنات ذات إرادة وهوى، تخطئ وتصيب، تعبد وتعصي، تشتهي وتزهد، ترتكب الجرائم وتجتهد في الطاعات، فكان لا بد من خلق أسباب لهذه التناقضات.

فكان من حظ إبليس السيئ أن يختاره الله ليصير رمزًا للشر، لتتزن الحياة البشرية التي أرادها الله، فتصبح بمثابة كفتي ميزان، إحداهما خير والأخرى شر.

في هذه الثنائية يقول الحكيم السنائي (توفي في 1080م) على لسان إبليس:

نصب في طريقي مصيدة بغير شارة
في وسطها كان آدم طُعم السنارة
أراد أن يعطيني للعنة إشارة
فعل ما أراد، آدم الترابي كان له ستارة

هنا يشكو إبليس من أنه لم يكن له ذنب في وضعه كأداة للغواية والمعصية، ويرى أن ما فعله كان مكتوبًا عليه، وكان آدم مجرد سنارة لاصطياده والإيقاع به في فخ المعصية، لأنها إرادة الله وقراره.

وهذه الفرضية ليست بغريبة عن السرديات الإسلامية التقليدية، فالقرآن يؤكد مرارًا أن الله ماكر، «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين»، آية الأنفال، «أفأمنوا مكر الله…» آية الأعرف.

وسبب مكر الله أنه أراد خلق سنة كونية تجعل الخيار بين الخير والشر في أيدي البشر، فأراد أن يبدو كل شيء مسببًا منطقيًا، فكان لا بد أن يخلق الشر ليبتليهم ويرى مدى تمسكهم بطاعته، وكان إبليس هو هذا الشر الذي أراده الله.

ورغم أنه كان كبير الملائكة فإنه امتثل لطاعة الله، ليقوم بأداء دوره الذي قُدِّر له، وهو غواية الناس، وكان في ذلك تضحية كبيرة من إبليس، حيث رضي بالانفصال عن محبوبه (الله) لينفذ مراده فيه بأن يكون رسولًا للشر.

وهذا الشر كان ضروريًا للشعور بجمال الخير، فلا يُدرَك النور إلا بضده كما يقول جلال الدين الرومي الذي يرى أيضًا أن غضب الله رحمة مغلفة، وأن الألم والعقاب الذي يرسله على أحبائه ضروريان لنمو أرواحهم، وأن في غضب الله إخفاء لرحمته، وفي رحمته إخفاء لغضبه، فالريح البارد الذي أهلك قوم عاد كان لسليمان مطية، والسم الذي يمثل عنصر حياة للأفعى هو لغيرها موتًا محتومًا.

وهذا المعنى ليس غريبًا عن القرآن، فالخضر ذاك العبد الصالح الذي أتى بأفعال شريرة كان هدفه الرحمة ومبعوثًا للعناية الإلهية، وفي سبيل هذه الرحمة قتل طفلًا، وخرق سفينة لتغرق، كما جاء في سورة الكهف.

وكان إبليس يعلم أنه بمعصيته ورفضه السجود لآدم يُنفِّذ مراد الله، بحسب ما يرى الحلاج، حيث يتخيل محادثة بينه وبين الله، بدأت بسؤال من الله:

لا تسجد؟ يا أيها المهين! فأجاب إبليس: محب والمحب مهين.. إنك تقول «مهين»، وأنا قرأت في كتاب مبين، «ما يجر عليَّ يا ذا القوة المتين».

فقد وقع إبليس هنا بين رحى المشيئة من ناحية، ورحى الأمر الإلهي من ناحية مقابلة، فاختار أن يظل موحدًا وينفذ مشيئة الله ورفض السجود لآدم، وعن هذا الموقف قال الحلاج عن إبليس وما فعله به الله في هذا الاختبار:

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

ولمزيد من الإيضاح كتب الحلاج حوارًا بين الله وإبليس عن هذا الابتلاء نتيجة هذه المشيئة، جاء فيه:

قال الحق سبحانه لإبليس: «الاختيار لي لا لك»، فأجاب إبليس: «الاختيارات كلها واختياري لك، قد اختَرْت لي يا بديع، وإن منعتني عن سجوده فأنت المنيع، وإن أخطأتُ في المقال فأنت السميع، وإن أردتَّ أن أسجُدَ له فأنا المطيع، لا أعرف في العارفين أعرَفَ بك مني، لا تلمني فاللوم مني بعيد، وأجر سيدي فإني وحيد».

نفس المعنى تحدث به الإمام المقدسي، حيث يرى أن الله كانت له مشيئة وإرادة في عصيان إبليس له، وكان إبليس نفسه يعلم أنه خلق لذلك.

يقول المقدسي على لسان إبليس وما حدث معه يوم أمره بالسجود لآدم:

فأين كان آدم وأنا إمام صفوف الملائكة، وقائد وفد المقربين؟ فلي معك سابق عبادة، ولك معي سابق إرادة. فلما ظهَرَت أعلام الإرادة انطمست رسوم العبادة، فأخطأ المجتهد اجتهاده وزال السيد عن رتب السيادة، وأصابه سهم القضاء فما أخطَأ فؤاده، فسواء أسجد أو لم أسجد، وعبدت أم لم أعبد، فلا بد إلى الرجوع إلى سابقة الأقدار.

ويقول المقدسي أيضًا على لسان إبليس:

خلقني كما شاء، وأوجدني لما شاء، واستعملني في ما شاء، وقدَّر عليَّ ما شاء، فلم أطق أن أشاء إلا ما شاء. فما تجاوزت ما شاء، ولا فعلت غير ما شاء، ولو شاء لردني إلى ما شاء، وهداني بما شاء ولكنه شاء. فكنت كما شاء.

ويضيف:

فمن يكون على القضاء عوني، ومن يطق من القدر صوني. لكن كل ما يرضيه مني، رضيت به على رأسي وعيني. يا هذا، ما حيلة من ناصيته في قبضة القهر، وقلبه بيد القدر وأمره راجع إلى حكم القدم؟!

إبليس الطيب يعيش الآن قريبا من الله

حتى بعدما بدأ إبليس مهمته وتقرر أن ينزل إلى الأرض ليفتن الناس في دينهم، ويحرضهم على المعصية لم يتخل عن إيمانه أو قربه من ربه، وفقًا لآراء صوفية.

حيث يتكلم المقدسي بلسان إبليس، ويوضح أنه يعلم تمامًا أنه يقوم بمهمة مقدسة لتستقيم الحياة، وأنه حتى خلال عمله الإغوائي يؤمن تمام الإيمان بالله.

يتحدث المقدسي بلسان إبليس وهو على الأرض يقوم بعمله، لا بلسانه وهو في العالم العلوي قديما، مدركًا تمامًا لدوره الذي رسمه الله له، وأمره بتنفيذه.

يسأل إبليس متحدثًا إلى شخص ينظر إليه ككافر، فيقول:

يا هذا، أتظن أني أخطأت التدبير، ورددت التقدير، وغيرني التغيير؟ لا وعلو عزته، وسنا قدرته. لكنه خلَقَ الحسن والقبيح، والمستقيم والصحيح، جمعًا بين الشيء وضده، ليدل على كمال قدرته؛ فإن الأشياء لا تعرف إلا بالأضداد.

هنا يؤكد إبليس أنه موجود لإظهار الخير، لأن هذا الخير لن يظهر ويعرف ويفهم إلا بوجود الشر، فضَحَّى بنفسه تنفيذًا للمشيئة ليظهر الخير.

ويوضح إبليس ما كان بينه وبين الله:

 فجعلني في الأول أعلم المحاسن في الملأ الأعلى فأبينها للأملاك، وأزين بها الأفلاك، فكنت معلِّم التوحيد. فلما طالع أطفال الكتب أمثلة توحيدهم، وحققوا حروف هجاء تقديسهم وتمجيدهم، نقلني من العالم الأعلى إلى العالم الأسفل أعلمهم ما هو ضد ذلك فأبين لهم القبائح وأزينها لهم. فبي عرف الحسن والقبيح، وميز المستقيم والصحيح، فأنا في الأرض والسماء عريف العرفاء، معلم العلماء، فأنا معجز القدرة، ومشاهد حضرة الحكمة.. فمن هو في الحضرة أدنى مني؟ ومن هو في الذكر أشهر مني؟

ثم عاد المقدسي وكرر المعنى الذي قال به الشبلي من قبله، عن تمنيه أن يذكره الله ولو باللعن، فقال المقدسي على لسان إبليس:

فلي شرف إذ ذكرني، وإن كان قد لعنني، ولي فخر إذ نظرني، وإن كان قد طردني. فبمعرفتي له أنكرني، ولحيرتي به حيّرني، ولغيرتي عليه غيّرني، ولخدمتي خذلني، ولصحبتي حرمني.

ويؤكد إبليس أن حاله الآن مع الله جميل، ومقامه عظيم، حيث يقول:

فالآن وقتي به أصفى، وحالي معه أشفى؛ لأني كنت أخدمه لحظِّي (يقصد قبل طرده من السماء)، والآن أخدمه لحظه (أي بعد أن هبط إلى الأرض). فارتفع الحظ من البين، وأنت تظنه بين، فلئن كنت قد سقطت من العين، فقد وقعت في عين العين.

هذا الدور المهم الذي يقوم به إبليس في الكون جعل الملائكة تصر على احترامه، فنجد الصوفي البنغالي السيد سلطان يقول إن الملائكة أمروا باحترام إبليس حتى بعدما لعنه الله.

ويرى الحلاج أن الحياة كما أنها لم تكن لتستقيم دون النبي محمد، فإنها كذلك لا تستقيم دون إبليس، فكما أن هناك ملائكة يحرسون الجنة، هناك أيضًا حراس للنار، وكذلك فإن محمدا هو أمين سر الرحمة الإلهية، بينما إبليس هو خازن الغضب الإلهي، بحسب الحلاج.

هذه الفلسفة الصوفية ألهمت الكاتب الكبير توفيق الحكيم، ليضيف إليها، حيث كتب قصة فلسفية بعنوان «الشهيد»، مفادها أن إبليس قرر أن يتوب فعرض نفسه على بابا الفاتيكان فرفض، ورئيس إسرائيل فرفض، وشيخ الأزهر فرفض أيضًا.

وكان سبب رفضهم أن توبة إبليس تعني أن الدنيا قد انتهت؛ فبتوبته يصبح الدين كله بلا جدوى ولا معنى، وتصبح الحياة ملائكية مكانها الجنة.

ولذلك فإن إبليس حين رفض قادة الأديان توبته صاح صيحته الشهيرة وقال «أنا شهيد»، معتبرًا أن تضحية إبليس بتوبته واستمراره رمزًا للشر ضرورة لاستمرار الحياة واستمرار الأديان.

المراجع
  1. «الطواسين»، للحلاج
  2. «مثنوي»، الرومي
  3. «تفليس إبليس»، المقدسي
  4. «منطق الطير»، العطار
  5. «ديوان السنائي»، لحكيم سنائي
  6. «شرح شطحيات»، روزبهان البقلي
  7. «إبليس نامة»، السيد سلطان
  8. «أرني الله»، توفيق الحكيم
  9. «مأساة إبليس»، صادق جلال العظم
  10. «الأبعاد الصوفية في الإسلام»، لـ آنا ماري شيمل
  11. «Muslim Bengali Literature»، لـ Haq Enamul