بعد سابع محاولة انتحار فاشلة، وقف البطل على حافة جسر ليُلقي بنفسه في النهر في محاولةٍ يرجو أن يكون الأخيرة ليُنهي بها حياته. تمر الدقائق والشاب يتردد، أكثر ضعفًا من أن يقفز، وحياته أشد بؤسًا من أن يعود إليها. يظهر له من الظلام رجل يرتدي معطفًا أسود وقبعةً تغطي وجهه ويمد له ببطاقة تعريف، قاتل تحت الطلب لمساعدة الراغبين في الانتحار.

تمضي أحداث فيلم «تموت في أسبوع: أو تسترد أموالك» بموافقة الشاب على مساعدة القاتل المأجور، ويختار كذلك طريقة موته المثالية، أن تصدمه شاحنة وهو ينقذ طفلًا من أمامها، كي يُخلِّد ذكراه بعد موته كبطل شعبي. لكن في وسط الأحداث تتحسن حياة البطل، يتمسك بالحياة أكثر، يطلب من القاتل المأجور أن يُلغي الاتفاق، لكن العقد يقول لا تراجع عن الاتفاق.

لن أحرق لك باقي أحداث الفيلم، إذا أردت مشاهدته، لكن ماذا لو كان كل هذا قانونيًّا؟ القاتل لا يرتدي معطف الأشرار الشهير، بل يرتدي معطفًا أبيض. والسلاح في يده هو حقنة مهدئة ستنقلك للعالم الآخر بسلاسة ودون أن تشعر. والعملية برمتها لا تتم في الشوارع الخلفية، بل في عيادات طبية، أضف لكل ذلك أن الشرطة لن تقبض على الطبيب أو تصادر رخصة العيادة، بل إنها تشجع مثل هذه العمليات، حتى صاغت مصطلحًا خاصًّا، السياحة الانتحارية.

إحدى الشركات التي حصلت على ترخيص القيام بهذه العمليات، التي تسميها القتل الرحيم، اعتمدت على تقرير منظمة الصحة العالمية كحجة لطلب الترخيص. قالت منظمة الصحة إن شخصًا ينتحر كل 40 ثانية حول العالم، أي 800 ألف منتحر سنويًّا. ما يعني أن عدد المنتحرين سنويًّا يبلغ 3 أضعاف قتلى الحروب وحوادث الطرق والموتى بأنواع السرطان المختلفة.

الشركة قالت إن غالبية عمليات الانتحار تلك تتم بصورة بشعة، كإطلاق النار على النفس، أو تناول مبيدات حشرية، أو وضع الفرد نفسه أمام قطار أو عربة مترو أنفاق. لذا فإن الشركة تتعهد لهم بعمليات قتل رحيمة، بلا ألم أو دماء، كما ستوفر لهم مدافن في حالة رفض ذويهم استلامهم أو رفضت دولهم إدخالهم مرة أخرى بعد أن عصوا قوانينها بممارسة القتل الرحيم.

عالم وموسيقي: تعددت الأسباب والموت واحد

 عالم النبات الأسترالي ديفيد جودال آخر أبرز شخصية اختارت الموت على الأراضي السويسرية لقانونية القتل الرحيم فيها. بعد أن قضى جودال 104 عامًا في وطنه، قرر أخيرًا أن يغادره طلبًا للموت. بعد بلوغه التسعين بدأت أمراض الشيخوخة في مهاجمته، وانتصرت عليه جولةً بعد الأخرى، حتى أصبح ممنوعًا، وغير قادر، على الخروج من غرفة منزله.

حاول الانتحار بمفرده مرارًا لكنه كان أضعف من أن يستطيع تنفيذ الانتحار، كانت آخر محاولاته بتوجيه نداءات وخطابات متكررة لجعل القتل الرحيم قانونيًّا داخل أستراليا. أو حتى أن يحصل على استثناء بالموافقة كونه مواطنًا عتيقًا وعالمًا مهمًّا، ومن جملة ما قال أن من حق الفرد اختيار الطريقة التي يفضلها لقضاء آخر أيام حياته، حتى إذا كان ما يفضله هو إنهاءها، فمن العادل ألا يتدخل أحد.

 لكن رفضت الدولة الأسترالية طلبه، قرر أن يتقدم لـ «منحة الانتحار »، كما يصفها، ليحصل على الحق في الموت، كما يقول.

جودال هو الأبرز، لكنه ليس الوحيد، كثيرون سبقوه وعديدون تبعوه بعد رحلته عام 2018. فقد بلغ الوافدون على سويسرا طلبًا للموت الرحيم أكثر من 600 فرد سنويًًا.

 من بينهم الموسيقار الإيطالي «فبيانو أنطونياني» الذي أنهى حياته في سويسرا أيضًا عام 2017. فبيانو فقد نظره، وأصيب بالشلل الرباعي، جراء حادثة سيارة عام 2014. في السنوات الثلاث بين الحادثة وموته ناشد البرلمان الإيطالي 11 مرة الموافقة على السماح له بالموت، لكن طلبه رُفض في كل مرة، فقرر الذهاب إلى سويسرا.

فبيانو اتفق مع جودال في المطالبة بحق الموت، وكلاهما قام بنفس رد الفعل الذي يفعله كل من يدخل سويسرا طلبًا للموت،  توجيه رسائل قاسية لدولهم يعاتبونها فيها على عدم السماح لهم بالموت في أوطانهم وبين أهلهم.

لتفزْ بالموت: طلب ورقي و5000 يورو

الموت الرحيم في سويسرا، والدول الأخرى التي تقننه، عملية شديدة البساطة والليبرالية. فشعار عيادات الموت الرحيم هو الموت بكرامة، أو الموت حق للإنسان. والقواعد التي تعمل وفقًا لها هي أن يقدِّم الفرد ما يثبت أمرين: أن قواه العقلية سليمة أثناء اتخاذه هذا القرار، وأن حياته تحمل من المعاناة ما يجعله غير قادر على الاستمرار فيها. وتترك لهم العيادات حق اختيار الموت بين ذويهم، أو في منازلهم، أو في أحد الغرف التابعة لشركات القتل الرحيم.

ولإثبات ذلك يتقدم الراغب في الانتحار بطلب للشركة، التي تقوم بدورها بتحويله إلى مجموعة من الأطباء المستقلين عنها، ليقرروا شرطي السلامة العقلية والمعاناة غير المحتلمة. والأولوية لمن يعانون من إصابات جسدية ظاهرة كالشلل في حالة فبيانو، أو أمراض الشيخوخة المزمنة في حالة جودال.

 وبالطبع يكون أن الفرد قادرًا على دفع تكاليف العملية التي تبلغ 5000 يورو للفرد، رغم أن القانون يشترط أن تكون عيادات القتل الرحيم عملًا غير ربحي، كي لا تؤثر الإغراءات المادية في قبول العيادة للأفراد، لكن دائمًا ما توجد طرق تستطيع العيادات بها تبرير الأموال التي تتقاضها من الأفراد.

شهرة سويسرا في هذا المضمار لا تعني أنها وحدها من يقنن عمليات القتل الرحيم، فهناك دول عدة مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا، وبعض الولايات الأمريكية، لكنهم جميعًا، باستثناء سويسرا، يضعون شروطًا دقيقة وصارمة لقبول القيام بهذا الإجراء. كما أن سويسرا ليست أول أعلى البلدان في القتل الرحيم، بل هولندا. 4.5% من حالات الانتحار في هولندا هى انتحار بمساعدة الطبيب.

تاريخ القتل الرحيم

كما أن سويسرا ليست من ابتكرت مفهوم القتل الرحيم، بعض المؤرخين يقولون إن الأمر بدأ منذ لحظة اختيار سقراط لتجرع السم بيده بدلًا من النفي، فقد اختار بشكل واعٍ إنهاء حياته. ربما لا تعتبر تلك القصة بداية حقيقية للقتل الرحيم، لأن سقراط اختار الموت بدلًا من الهروب ليثبت صحة مبادئه وينفي عن نفسه النكوص عنها بالهرب.

لكن ما يمكن اعتباره بدايةً للقتل الرحيم هو حادثة عام 1936. جورج الخامس، ملك المملكة المتحدة، أصيب بجروح خطيرة في الحرب العالمية الأولى، لم يستطع جسده التعافي منها بسبب تدخينه بشراهة، ولاحقًا عانى من صعوبة في التنفس. ما دفع طبيبه الخاص لإعطائه جراعة زائدة من الكوكايين ليموت بشكل لائق.

تبعد تلك القصة عنا بأكثر من 80 عامًا، لذا من غير المحتمل أنها ما أثارت النقاش الحديث حول القتل الرحيم كذلك.

الاحتمال الأكبر أن أول حالة اضطرت العالم لمناقشة القتل الرحيم، كانت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2005. إذ تعرضت مواطنة أمريكية لحادثة عام 1990 توقفت بسببها وظائفها الدماغية لكنها ظلت على قيد الحياة بفعل الأجهزة المتصلة بها وأنانبيب التغذية.

ظلت الفتاة، البالغة 26 عامًا وقت الحادثة، طوال 10 سنوات على أنابيب التغذية منتظرةً الموت لكنه لم يأتِ. فقاد زوجها حملةً لمطالبة الرأي العام بالضغط على السياسيين للسماح له بفصل الأنابيب عنها، وبالفعل حصل على الموافقة عام 2005.

القتل الرحيم والانتحار بمساعدة طبيب

يجب التفريق بين مصطلحين، الموت الرحيم والانتحار بمساعدة الطبيب. سويسرا تشتهر بالقتل الرحيم، وهو عملية يقوم فيها الطبيب بتخدير الفرد تخديرًا عميقًا يودي به للموت. والقتل الرحيم يكون للأشخاص الذين ينتظرون الموت بالفعل بسبب داء مزمن، أو يعانون من آلام شديدة نتيجة أمراض سرطانية، لكنهم يريدون تعجل الموت.

 أما الانتحار بمساعدة طبيب، فهو مخصص للأفراد العاديين الذين لا يعانون من أمراض مزمنة أو أي شيء مؤلم جسديًّا، لكنهم يريدون الانتحار لأسباب أخرى، وفي تلك الحالة هم من يتناول دواء الانتحار بنفسه، لكن دور الطبيب هو تسهيل حصولهم عليه، ومنحهم بعض المسكنات لتسهيل الموت.

وفي سويسرا يشترط القانون أن يتناول الفرد، ما دام واعيًا وليس في غيبوبة،  المادة المميتة بنفسه. وفي حالة جودال الذي لم يكن يملك القدرة على البلع، وضعت المادة في محلولٍ وصُوِّر جودال وهو يفتح الصمام الذي سيسمح لمادة الموت بالسريان في دمائه، وحوله الفريق الطبي ينظر لما يفعله الرجل بإجلال وفخر.

نظرات الفخر في أعين الفريق الطبي في عيادات القتل الرحيم  ليست غريبة، فالفريق الطبي في تلك العيادات يؤمن بما يفعل، ويملك فلسفةً خاصةً به. فالصور  الفوتوغرافية لمن أنهوا حياتهم تُعلق في تلك العيادات، ودائمًا ما ينظر لها الفريق الطبي بفخر. فأحد الأطباء يقول إن دورهم هو جعل حياة الناس فقرةً ممتعة فحسب، لا معاناة فيها.

ويقول آخر إن عمليات القتل الرحيم تحمي الفرد من ضغوط اجتماعية واقتصادية كبيرة جراء الحاجة الدائمة للعلاج وللرعاية. وأن عيادات القتل تنقذ الأفراد من الاستنزاف النفسي ومن الاكتئاب المصاحب لأمراضهم المزمنة. كما يقول آخرون إن الأفراد الذين يلجؤون لتناول أدوية قاتلة في تلك العيادات، هم بالفعل يتناولون أدوية قاتلة خارجها كعلاج لأمراضهم، لكنهم فقط رغبوا في التحكم في ظروف موتهم، وأرادوا أن يودعوا الحياة وذويهم بهدوء.

الموت السائل

رواية « أمسترادم » المنشورة عام 1998، الحائزة على البوكر عام 1999، للبريطاني إيان ماك إيوان، تدور حول اتفاقية للقتل الرحيم يعقدها صديقان مؤلف موسيقي ومحرر صحفي، بالطبع في عالم الروايات لا بد من أن تتعقد الأمور حتى تصل إلى حافة الكارثة بعد أن يكون الأمر رومانسيًّا حالمًا، إذ عقدا الاتفاقية بعد أيام من حضور جنازة محبوبتهما، مولي، وكلاهما كان عاشقًا لمولي، وكلاهما ظن أنه لا يحتمل الحياة بعدها.

لكن في الواقع قد يحدث نفس الأمر بسلاسة أكبر، الإحصاءات الرسمية السويسرية تتحدث عن نسبة كبيرة من انتحار متزامن للأصدقاء وللزوجين. تقول الإحصاءات إن ظاهرة انتحار الزوجين معًا، حتى لو كان أحدهما فقط من يعاني مرضًا عضالًا، بدأت في الظهور عام 2009، لكنها تتصاعد منذ ذلك الحين.

على الرغم من البريق الذي تُسوِّق به سويسرا لنوعها الجديد من السياحة،  فإن وراءه الكثير من الجدل سواء في العالم أو حتى في سويسرا نفسها. الكثير من السياسيين، وقرابة 22% من الشعب السويسري يطالبون بحظر السياحة الانتحارية تمامًا. أما 15.5% من الشعب فيطالبون بوضع ضوابط أكثر صرامة لتقنين العملية.

كما أنها تفتح نقاشًا متجددًا حول شرعية القتل الرحيم، التي تعارضها الدول العربية والإسلامية بشكل مطلق لا استثناءات فيه. أما الدول الأوروبية فتمارسه بصرامة شديدة وبضوابط معقدة تجعل الأمر مقصورًا غالبًا على الحالات التي تُصاب بالموت السريري، أي لا أمل إطلاقًا أنها سوف تعود للحياة مرة أخرى.

لكن في ظل السيولة التي تعيشها المجتمعات حاليًّا، لا يُستبعد أن يُسحب حق تقرير المصير من الشعوب ويمنح لكل فرد، ويختار هل يريد أن يستمر في حياته أم لا، وعلى الدول أن تساعده في إنهائها إذا أراد، لأن الدول في الغالب لا تساعد على استمرار الحياة.