ترى ما هي المقدمة المثالية لهذا المقال؟

هل نقول مثلا إن باتمان هو شخصية خيالية من ابتكار بوب كين ظهرت لأول مرة في القصص المصورة الشهيرة DC عام 1939؟ هذه جملة تقريرية مملة، فضلاً عن أنها لا تقدم أي جديد إذ إننا بصدد واحدة من أشهر الشخصيات الخيالية على مستوى العالم، بيد أن هذه الجملة الأخيرة هي المدخل الحقيقي للاشتباك مع شخصية باتمان.

باتمان من أوائل شخصيات الأبطال الخارقين ظهورا على شاشة السينما، عبر مجموعة من الحلقات المسلسلة التي تمتد لأقل من 20 دقيقة وعرضت كفقرة إضافية في قاعات السينما. ومع ظهور التليفزيون حققت الشخصية نجاحًا كبيرًا عبر مسلسل بدأ عرضه عام 1966، ظهر فيه فارس الظلام بألوان زاهية ومشاهد نهارية. أما أولى المعالجات السينمائية لشخصيات الأبطال الخارقين فكانت عام 1978 مع فيلم سوبر مان، أحد أشهر شخصيات DC.

لسنوات طويلة شهدت السينما الكثير من معالجات شخصيات الأبطال الخارقين من عالمي DC ومارفيل، ولكنها اكتسبت زخمًا جماهيريًا عالميًا مع بداية الألفية الجديدة من خلال مشروع شركة مارفيل الواعد، وبالطبع ثلاثية فارس الظلام من إخراج كريستوفر نولان.

حققت مرحلة إعادة إطلاق أفلام الأبطال الخارقين في بداية الألفية طفرة كبيرة على مستوى الإقبال الجماهيري ولا تزال حتى اليوم تتصدر إيرادات شباك التذاكر العالمي بشكل غير مسبوق، بيد أن الأهم أنها خلقت طفرة موازية على المستوى الثقافي تحولت معها سرديات الأبطال الخارقين إلى أساطير حداثية أشبه بالأساطير الإغريقية، يتابعها الملايين من المشاهدين حول العالم، ويحفظون تفاصيلها عن ظهر قلب، ومن هنا جاء سؤالنا عن المقدمة المثالية، فكيف تقدم إلى القارئ ما يعرفه بالفعل؟ ولهذا سنتجاوز المقدمة إلى المقال نفسه الذي يحاول الاشتباك مع شخصية باتمان ودلالتها الفلسفية الأعمق، من بين عشرات الأبطال الخارقين، على تفسخ المنظومة الأخلاقية الأمريكية.

مقدمة ثانية

الوجود يسبق الماهية
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر

تبدأ ملاحم الأبطال الخارقين بقصة تأسيسية قوية ومؤثرة والتي عادة ما تبدأ بحادث مروع واستثنائي مثل طفرة جينية، أو حوادث المختبرات العلمية، أو التواصل مع الكائنات الفضائية..إلخ. أحد الملامح الرئيسية التي تميز شخصية باتمان عن غيرها من شخصيات الأبطال الخارقين، أن قصته التأسيسية وإن كانت مأساوية الطابع، إلا أنها ليست استثنائية ولا تتضمن أيًا من تلك المؤثرات الخارجية غير المتوقعة. تقوم قصة باتمان التأسيسية على حادثة مقتل الأبوين على مرأى من الطفل الذي يثأر لمقتلهما عبر تكريس حياته لمكافحة الجريمة.

ملمح آخر يميز باتمان هو كونه البطل الخارق الوحيد الذي خلق نفسه. إذا ما تأملنا القصص التأسيسية للأبطال الخارقين سنجد أن سوبرمان سقط إلى الأرض من كوكب آخر، وسبايدر مان أصيب بلدغة عنكبوت خارق، وهالك أصيب بإشعاع جاما، وكابتن أمريكا حقن بمادة كيميائية، وآيرون مان لديه قلب إلكتروني. كل هؤلاء الأبطال الخارقين لم يختاروا قواهم الخارقة، ولكنهم استمدوها من أحداث أكبر من قدرتهم على التحكم، وتعلموا التأقلم معها وتطويعها وتوظيفها للصالح العام.

أما بروس وين فقد اختار بشكل واعٍ ومقصود أن يكون باتمان، وقرر بمحض إرادته أن يكرس حياته للهدف الذي عاش أبواه من أجله، أن يجعلا من مدينة جوثام مكانًا آمنًا. وعليه فقد سعى لاكتساب المهارات القتالية، ووضع ثروته الهائلة والتطور التكنولوجي لشركات أبويه تحت تصرف باتمان ولخدمة قضيته.

يتمثل السبب الجوهري في ارتباط الجماهير حول العالم بشخصية باتمان في كونه بشريًا بلا أي قدرات خارقة، كما أن أعداءه هم أيضًا بشريون بلا أي قدرات خارقة، على خلاف أعداء باقي الأبطال الخارقين من الوحوش الضخمة، أو الكائنات الفضائية ذات القدرات الهائلة التي تتجاوز قدرات البشر.

يختلف باتمان كذلك عن غيره من الأبطال الخارقين في كونه ذا جانب مظلم، وهو ما يتم التعبير عنه من خلال اللون الأسود والأجواء المظلمة في كهفه الخاص، وطبيعة عمله ليلًا، وأخيرًا من خلال مجاز الخفاش البصري. أما على المستوى النفسي، يعاني بروس وين من صدمة شكلت حياته وهي مقتل أبويه أثناء طفولته على مرأى ومسمع منه. حادثة مقتل الأبوين رسخت في الطفل وين كراهية الجريمة والشر.

في مشاركته في كتاب «باتمان والفلسفة» يرى ستيفن كيرشنر أن كراهية باتمان للشر تجعله أكثر قسوة مع أعدائه، ورغم التزامه بقاعدته الخاصة بعدم القتل، إلا أنه يكون في منتهى القسوة مع أعدائه ويستمتع بممارستها ضدهم فيما يبدو كما لو كان ذلك معبرًا عن جانب شرير في ذاته، فضلاً عن أن الكراهية هي صفة منبوذة وغير أخلاقية حتى لو كانت كراهية المجرمين. غير أن كيرشنر يستدرك أن الكراهية قد تستهلك باتمان وتؤثر على سلوكه، ويعتبرها في هذا السياق دلالة على شخصية صالحة وليس العكس.[1]

إذا ما تأملنا المعضلة الأخلاقية في فعل الكره سنجد أن المجتمع الأمريكي يغذي ثقافة الكراهية والعنف بشكل كبير، وقد يقول قائل إن قسوة باتمان وعنفه هي أحد الملامح المؤسسة لنوع فيلم الحركة الأمريكي وليست بالضرورة صفة معبرة عن الشخصية بشكل استثنائي. ولكننا إذا ما تجاوزنا هذه المقولة وما تحمله من تناقض إذ إن الإفراط في مشاهد العنف هو في حد ذاته دلالة قوية على تغذية تلك الثقافة على المستوى الشعبي، فإننا لن نعدم الكثير والكثير من الأمثلة المعبرة عن انتشار ثقافة العنف والكراهية والتعصب والعنصرية بين الشعب الأمريكي إزاء كافة الأقليات التي تعيش بين جنبات هذا المجتمع، وهو ما يمثل أولى فجوات المنظومة الأخلاقية الأمريكية التي تعكسها سردية باتمان.

باتمان الخارج على القانون

في الجزء الثاني من ثلاثية المخرج كريستوفر نولان، يقوم الجوكر بسلسلة من عمليات القتل ويهدد باستمرارها إذا لم يقم باتمان بتسليم نفسه إلى العدالة، وهنا نسأل: هل باتمان خارج على القانون ويستحق المحاكمة والعقاب؟

يخبرنا الفكر السياسي أن الدولة الحديثة هي المحتكر الوحيد لاستخدام القوة وذلك بغرض إنفاذ القانون وإقرار النظام، وهو المبدأ الذي تخرج عليه كل سرديات باتمان في القصص المصورة والسينما. على خلاف كافة الأبطال الخارقين في عالمي DC ومارفيل، والذين يمارسون نشاطهم إلى جانب الدولة وبمباركتها، لدى باتمان تصوره الخاص لإحقاق العدالة والقصاص من المجرمين، وكذا تصوره الخاص لاستخدام القوة والذي لا يخضع إلى الدولة بأي شكل من الأشكال، فضلاً عن أنه يمتلك من سبل القوة ما يفوق ما تملكه الدولة في كثير من الأحيان.

في بداية الجزء الثاني من ثلاثية نولان نشاهد مجموعة من المواطنين قرروا الاقتداء بباتمان ومكافحة الجريمة من خلال ارتداء زي مشابه له واستخدام أسلحة نارية. هنا يتحول باتمان إلى رمز للفوضى والخروج على سلطة الدولة ونظامها وقانونها. يبدو هذا طرحًا جادًا لنقد أحد أهم جوانب سردية باتمان، لكن الفيلم لا يلبث أن ينقلب عليه بالعودة إلى السردية الرئيسية عندما ينتهي إلى أن باتمان هو شخص صالح بالضرورة، وأن استخدامه للقوة بهدف وحيد هو مكافحة الجريمة وتحقيق الأمن في مدينة جوثام، كما أنه لا يستخدم أسلحة نارية ولا يأتي فعل القتل نهائيًا، ولذلك لا يجب أن يساورنا أي شك في نواياه، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة.

ترسخ سردية باتمان لفكرة تقزيم الدولة، وهو ما نشاهده في مختلف النسخ والمعالجات. في الجزء الأول من نسخة المخرج تيم بورتون، وفي مشهد المواجهة النهائية بين باتمان والجوكر، تظهر الشرطة متأخرة للغاية بعد أن عاثت عصابة الجوكر في المدينة فسادًا، وأطلقت سلاحًا غازيًا على المواطنين. فكرة تأخر الشرطة، والتي طالما كانت محط تهكم دائم من الأفلام المصرية، حاضرة بقوة في كل قصص باتمان، فهو دائمًا الأسرع والأذكى ويمتلك من الأدوات التكنولوجية والأسلحة المتقدمة ما لا يتوفر لدى الدولة وأعتى أجهزتها الاستخباراتية.

في الجزء الثاني من ثلاثية نولان، يقوم باتمان بتطوير تقنية تكنولوجية باستخدام تقنية انتشار الصوت (سونار) من الهواتف المحمولة لتمده بصورة حية لكل نواحي المدينة، وبذلك يمكنه رؤية المدينة وسماع كافة مواطنيها، أو بالأحرى التجسس عليهم. في حوار يدور بين باتمان وفوكس لوشيوس (أحد مستخدميه) يخبره الأخير أن ما يفعله خطير وغير أخلاقي، وأن هذه السلطة أكبر من أن توضع في يد شخص واحد، فيجيبه باتمان أنه اضطر لذلك للإمساك بالجوكر. هكذا بكل بساطة تنتفي لا أخلاقية الوسيلة أمام نبل الغاية.

قد يقول قائل إننا نحمل الأمور أكثر مما تحتمل، وإننا بصدد الحديث عن شخصية خيالية وليست واقعية، غير أن الأمر لا يختلف كثيرًا في الواقع. في نهاية عام 2005 نشرت جريدة نيويورك تايمز قصة صحفية تكشف فيها أنه في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، صرح الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش لوكالة الأمن القومي الأمريكي بالتنصت على المكالمات الهاتفية للأمريكيين بحثًا عن النشاطات الإرهابية، متجاوزًا بذلك ما ينص عليه القانون بوجوب الموافقة القضائية على كافة أعمال التنصت.

وفقًا للفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد، فإن النبي إبراهيم عندما هم بقتل ابنه إسماعيل، لم يخالف بذلك أي قانون أخلاقي إذ إن الأمر أتاه من الله، وهو ما يعني أن الفعل يتجاوز الأخلاق البشرية.[2] وبالمثل فإن باتمان بمقدوره تجاوز القواعد الأخلاقية والقوانين الوضعية سعيًا لتحقيق العدالة، فيمكنه الاعتداء على رجال الشرطة الفاسدين، ويمكنه اقتحام المنازل والملكيات الخاصة، ويمكنه أيضًا التنصت على مكالمات مواطني جوثام، طالما أنه يفعل ذلك باسم العدالة والصالح العام.

تقوم الديمقراطية على التبادل السلمي للسلطة وذلك بهدف منع احتكارها من قبل شخص أو مجموعة أشخاص، ولذلك يتم تحديد الفترة الرئاسية بمدة 4 سنوات حتى لا يتجبر رأس السلطة بأي شكل ويسيء استخدامها، وهو احتمال قائم أيضًا في حالة باتمان، سيما وأنه يعيش في بيئة فاسدة قادرة على تحويل الفارس الأبيض «هارفي دينت»، إلى المسخ والوحش «ذي الوجهين»، فما الذي يضمن نقاء باتمان أمام سلطة وقوة بهذا الحجم؟

ديمقراطية زائفة

المنظرون الديمقراطيون الليبراليون قد لاحظوا منذ مدة طويلة أنه في مجتمع يُسمع فيه صوت الشعب، فعلى مجموعات النخبة ضمان أن يقول ذلك الصوت الأشياء الصحيحة.
نعوم تشومسكي – من كتاب «قراصنة وأباطرة: الإرهاب الدولي في العالم الحقيقي»

الخوف هو التيمة الرئيسية في فيلم «Batman Begins»، الجزء الأول من ثلاثية نولان. في هذا الفيلم، تستخدم ثلاث شخصيات الخوف كسلاح. الأول هو فالكون، زعيم العصابة الذي يستخدم الخوف كسلاح لإرهاب مواطني جوثام وتعطيل نظام العدالة. والثاني هو دكتور جوناثان كرين، عميل منظمة «عصبة الظلال» والذي يستخدم غازًا يسبب الهلوسة لإخضاع أعدائه. أما الثالث فهو باتمان نفسه، الذي يستخدم شخصيته البديلة والمستوحاة من أحد أكثر المخلوقات الموحشة «الخفاش» لبث الفزع والخوف في نفوس مجرمي جوثام.

الحكومة الأمريكية تستخدم المنهج نفسه مع مواطنيها، وهو ما يركز عليه عالم اللغويات الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه قراصنة وأباطير: الإرهاب الدولي في العالم الحقيقي». يذهب تشومسكي إلى أن الحكومة الأمريكية تعول طول الوقت على وجود خطر خارجي يبث الخوف والرعب في نفوس المواطنين، ومن ثم تستطيع أن تستخدمه كوازع لسلوكها غير الأخلاقي على المستوى الدولي.

في فترة الحرب الباردة بين القطبين الدوليين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كان الخطر الشيوعي هو فزاعة الحكومات الأمريكية، وبعد انتهاء تلك الحقبة بتحلل الاتحاد السوفييتي تحول الخطر إلى مفهوم مطاط هو «الإرهاب الدولي»، والذي يقترن بمفهوم آخر هو «الضربات الاستباقية»، أي أن تقوم الولايات المتحدة بمهاجمة أعدائها المزعومين قبل أن يقوموا بأي أفعال إرهابية تهدد الدولة العظمى، بل إنه يستخدم داخليًا في السيطرة الفكرية على الشعب الأمريكي، ولهذا يرى تشومسكي أن الولايات المتحدة تبدو فريدة في غياب الكوابح على حرية التعبير، ولكنها فريدة أيضًا في مدى نجاعة الأساليب التي توظف لكبح حرية الفكر.[3]

القدرة على تعطيل القانون هي إحدى السمات المشتركة بين سرديات الأبطال الخارقين، إذ إن مفهوم «الصالح العام» يقضي بأن الغاية تبرر الوسيلة. بيد أن باتمان يقوم بتعطيل الوازع الأخلاقي والقانون أكثر من أي بطل خارق آخر.

في الجزء الأول من ثلاثية نولان يعطل باتمان مهمة إنقاذ مدينة جوثام من مخطط منظمة «عصبة الظلال» من أجل إنقاذ حبيبته رايتشل بعد أن تعرضت لغاز الهلوسة. يتكرر الأمر مرة أخرى في الجزء الثاني عندما يختار باتمان إنقاذ رايتشل وليس هارفي دينت. قد يقول قائل إن هذه مواقف إنسانية طبيعية تتغلب فيها الذاتية على الموضوعية، ولكن ذلك لا يستقيم إذا ما نظرنا إلى باتمان كرمز للعدالة، وسلمنا أن باتمان أكثر دراية بالصالح العام، ومن ثم ليس هناك معنى لمحاسبته على اختياراته وامتلاكه لتلك القوة الهائلة.

يضفي نولان طابعًا خاصًا من الوجودية على أفلامه، فيه من القتامة والكآبة المستقاة من عالم ما بعد الحداثة. تقوم الفلسفة الوجودية على ثلاث خصائص رئيسية هي: الذاتية وقدرتها على التلاعب برؤية الإنسان، والحرية، والقدرة على خلق المعنى.[4] الأزمة الوجودية هي ما يدفع بروس وين لخلق شخصية باتمان كرمز للعدالة، وتجعل من هارفي دينت قاتلًا ساخرًا، وتدفع الجوكر ليكون وكيلاً للفوضى.

في كتابها «الوجودية وراء باتمان في نسخة نولان»، ترى المؤلفة كايلين ماري ووكر، أن مدينة جوثام هي تجسيد للعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، عالم يسوده الشك في كل الثوابت بعدما أعلن نيتشه أن الإنسان قد قتل الإله. يسود جوثام حالة مماثلة من الشك وانعدام المعنى، ولهذا كان وجود باتمان كرمز يمكن للعامة التعلق به، ومعنى وأمل وحيد في حالة الفوضى العارمة والفساد غير المسبوق.

هذه السردية لا تختلف كثيرًا عن واقع الولايات المتحدة الأمريكية وموقعها من العالم. فقد دخلت الولايات المتحدة حرب فيتنام، وهي حرب غير مبررة وغير أخلاقية، تحت مسمى الخطر الشيوعي، واحتلت العراق على أساس مزيف ومعلومات مغلوطة وبأهداف سياسية بحتة بعيدة عن أي دوافع أخلاقية أو مبررات حقيقية، وقد ثبت بعد سنوات الحرب أن العراق لم تحز أي أسلحة دمار، كما أنها لم تكن ذات صلة بهجمات سبتمبر، ورغم ذلك كان من السهل على الحكومة الأمريكية تسويق قرار الحرب للشعب الأمريكي بدافع الخوف من خطر الإرهاب.

في الجزء الثاني من ثلاثية نولان، يعجز باتمان عن فهم دوافع الجوكر، فيخبره خادمه ألفريد بقصة عمله في بورما مع الحكومة المحلية التي حاولت شراء ولاء القبائل بمنح قادتها الأحجار الكريمة، غير أن قوافلهم لم تنجُ من قاطع طريق، وعندما بحثوا عن الأحجار وجدوا أن قاطع الطريق لم يهتم بشأنها وألقاها إلى الأطفال. ثم يضيف ألفريد عبارته الأخيرة: «بعض الرجال لا يبحثون عن أي شيء منطقي كالمال. لا يمكن شراؤهم ولا إرهابهم ولا مجادلتهم ولا التفاوض معهم. بعض الرجال لا يريدون سوى رؤية العالم يحترق».

يمكن لهذه المقولة أن تلخص رؤية الولايات المتحدة لأعدائها ممن تصفهم بالإرهابيين، وترى أنهم لا يملكون أي معتقد حقيقي، ولا يسعون إلى سلطة أو مال، ولكنهم يسعون من أجل الخراب بشكل مطلق. هذه المقولة صالحة تمامًا لإقناع الشعب الأمريكي بشرعية كل الجرائم التي تمارسها الولايات المتحدة، وتمكن الحكومات المتعاقبة من مواصلة خلق الأعداء والأخطار الخارجية اللازمة للتحكم في الرأي العام وهندسة موافقته على مختلف الأنشطة غير الأخلاقية وغير الشرعية التي تمارسها.

وصف ألفريد لا ينطبق على أعداء الولايات المتحدة المزعومين، فهم لا يرغبون في إحراق العالم، ولكن أهدافهم تتضارب مع أهداف الولايات المتحدة، ورغم استخدام بعضهم للعنف مثل الجماعات الإرهابية المسلحة في أفغانستان فهو استخدام واعٍ لتحقيق مكاسب سياسية مباشرة، وليس سلوكًا عدميًا كما يصفه ألفريد.

إن تركيز نولان المتكرر على الذاتية وقدرتها على التلاعب، يرسخ من فكرة أن الحقيقة الموضوعية هي أمر مستحيل، وبالتبعية فإن الأخلاقية الموضوعية هي أمر مستحيل كذلك. ومن ثم فإن استجواب باتمان العنيف للجوكر في مقر الشرطة وبموافقة مفوضها وممثل الدولة جيم جوردن، هو أمر مقبول تمامًا في سياق هذه السيولة الأخلاقية. طالما أن الغاية النهائية هي الصالح العام، فأي وسيلة تكون مبررة.

تنتظم ميثولوجيا باتمان في سردية أكثر تعقيدًا من غيره من الأبطال الخارقين، وأكثر بشرية كذلك. ولكنها في الوقت نفسه تضم الكثير من التناقضات، ليس في ذاتها، ولكن بما تعكسه من تناقضات المنظومة الأخلاقية الأمريكية ومفهومها عن قيم مثل العدالة والحرية والقانون، وتكاد تجسد الفلسفة الأخلاقية لأقوى دولة في العالم والتي تقوم على مفهوم واحد هو القوة، مخلفة حالة من السيولة تختفي معها أي ملامح مميزة للخير والشر في عالم ما بعد حداثي يفتقد إلى المعنى في أبسط صورة.

المراجع
  1. Mark D. White and Robert Arp, Batman and Philosophy: The Dark Knight of The Soul, USA: John Wiley & Sons, 2008, p. 44
  2. Kaylin Marie Walker, The Existentialism Behind Nolan’s Batman, USA: Boston College University, 2012, p. 23
  3. نعوم تشومسكي، قراصنة وأباطرة: الإرهاب الدولي في العالم الحقيقي، سوريا: دار حوران للدراسات والطباعة والنشر، 1996، ص 20
  4. Kaylin Marie Walker, The Existentialism Behind Nolan’s Batman, USA: Boston College University, 2012, p. 13