هذا المقال ينشر ضمن مسابقة إضاءات وأسبوع العلوم المصري للمقال العلمي/التقني.

لقد ظل علماء الوراثة لفترة طويلة يحلمون بتعديل الجينوم البشري منذ اكتشاف أن الحمض النووي هو المسئول عن كل صفاتنا الجسدية، وحاولوا جهدهم لكن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح؛ بسبب صعوبة التقنية والتكلفة العالية، لكننا الآن نستطيع بكل سهولة تعديل الجينوم باستخدام طريقة كريسبر. فهل نستغل هذه الفرصة في علاج الأمراض الوراثية وربما تطوير القدرات البشرية، أم أنها ستفشل فشلاً ذريعًا كما فشل غيرها من الطرق؟ وهل ستسير الأمور بسلاسة، أم أن النهاية ستكون درامية بما يكفي لتجعلنا نغض البصر عن تعديل الجينوم البشري للأبد؟ هل نحن على أعتاب ولادة سوبر مان حقيقي أم فرانكنشتين مرعب؟ هل تعديل الجينوم البشري مجرد رفاهية، أم أنه ضرورة لتطوير القدرات البشرية في عالم قد يهدد فيه الذكاء الاصطناعي وجود البشر؟


مشروع الجينوم البشري

في عام 2003 احتفل المجتمع العلمي بفك شفرة الحمض النووي أخيرًا بعد جهود مئات العلماء في مختلف الدول لمدة 13 عامًا. لقد كان هذا المشروع أضخم مشروع بيولوجي على الإطلاق بتكلفة بلغت 3 بلايين دولار (وإذا أخبرتك أن عدد النيوكليوتيدات في الحمض النووي هو 3 بلايين يمكنك استنتاج أن تكلفة معرفة نيوكليوتيدة واحدة تكلف دولارًا أمريكيًا واحدًا). كان عدد الجينات البشرية أحد الأسئلة المهمة التي حيرت العلماء لفترة طويلة، وقد تكهنوا بأن العدد هو مائة ألف جين، لكن ذلك لم يكن حتى قريبًا من الحقيقة. فقد أثبت المشروع أن عدد الجينات البشرية هو 20 ألف جين فقط تمثل 2 في المائة فقط من الجينوم البشري؛ أي أنه عدد محدود نسبيًا. ماذا لو استطعنا تعديل هذا العدد المحددود لعلاج الأمراض أو تعزيز القدرات البشرية؟[1]


تعديل الجينوم البشري

في عام 1996 استطاع العلماء تطوير طريقة لتعديل الجينوم تدعى (نيوكليز إصبع الزنك)؛ وهو بروتين يتكون من جزئين: الجزء الأول مصمم خصيصًا ليرتبط بالحمض النووي في المكان المستهدف من الجينوم، والجزء الثاني عبارة عن إنزيم يقوم بعملية التعديل في المكان المستهدف. لكن هذه الطريقة لم تكن بالدقة الكافية لاستخدامها بسهولة وأمان في الأجنة البشرية، كما أنها قد تسبب أيضًا تسممًا في الخلايا مما يؤدي لموتها قبل حدوث التعديل الذي نريده. جاء الحل أخيرًا عام 2009 عندما استطاع العلماء تطوير طريقة أكثر دقة وأقل سمية من الطريقة السابقة تسمى (TALENs)، لكن ظلت المشكلة في صعوبة التقنية والتكلفة الكبيرة لصنع بروتين يرتبط بدقة بالحمض النووي في مكان معين كل مرة.

لقد كان التغلب على هذه العوائق حلمًا صعب المنال، لكنه تحقق على أي حال مع اكتشاف طريقة كريسبر لتعديل الجينوم، فهي تعتمد على قطعة صغيرة من الحمض النووي الريبوزي ترتبط بدقة كبيرة مع الجزء المراد تعديله، ثم نقوم بإدخال إنزيم (كاس) القادر على إحداث التعديل المراد في الحمض النووي؛ إما بإتلاف أحد الجينات أو بإصلاحه حسب رغبتنا. تتميز تقنية كريسبر عن الطرق السابقة بالحساسية الشديدة (sensitivity)، فإذا أردنا استهداف مائة خلية بالتعديل فإننا نحصل في النهاية على أكثر من 90 خلية معدلة، وهو رقم كبير نسبيًا مقارنة بنتائج الطرق السابقة لتعديل الجينوم. تتميز طريقة كريسبر أيضًا بالقدرة العالية على التحديد (specificity)، فيمكننا استهداف الأماكن التي نريد تعديلها بدقة شديدة أفضل من أي وقت مضى [2-3-4].


اكتشاف القرن

في عام 2005 افترض أحد العلماء وجود نظام مناعة مكتسب داخل البكتيريا يسمى كريسبر، وكان هذا الافتراض محط سخرية العلماء، فكيف تمتلك البكتيريا البدائية نظام مناعة متطورًا مثل الموجود في البشر؟ بل كيف تورث هذا النظام عند انقسامها ميتوزيًا للبكتيريا الناتجة من الانقسام؟ فحتى البشر لا يستطيعون توريث نظام المناعة المكتسب لأبنائهم.

لقد ظل الجو هادئًا فيما يخص هذا الموضوع حتى قام أحد العلماء (فنج زانج) في معهد ماساتشوستس للعلوم والتكنولوجيا بإعادة النظر في الموضوع، وفكر فيما يمكن أن نجنيه لو استطعنا استخدام نظام المناعة هذا في تعديل الجينوم في الكائنات الحية، وبالفعل تمكن من تطوير طريقة جديدة لتعديل الجينوم (طريقة كريسبر). إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أعلنت (جينيفر دودنا) بجامعة كاليفورنيا أحقيتها ببراءة الاختراع؛ لأنها توصلت إلى الفكرة أولاً، وبعد صراع طويل في المحاكم أعلنت المحكمة أحقية فنج زانج ببراءة الاختراع. وهنا يطفو على السطح سؤال مهم: هل يجوز منح براءة اختراع لشيء موجود بالفعل في الطبيعة؟ وهل تعديل الجينوم اختراع أم اكتشاف؟ على أي حال لقد كان اكتشافًا هائلاً حتى أنه تم ترشيحه للفوز بجائزة نوبل في عامين متتالين في الطب والكيمياء.[5-6-4]


علاج الأمراض الوراثية بطريقة كريسبر

سنأخذ مثالاً لمرض يصيب خلايا الدم وهو أنيميا الخلايا المنجلية (الذي ينشأ عن وجود طفرة في الحمض النووي تجعل الهيموجلوبين يتكتل داخل كريات الدم الحمراء عند التعرض لنقص الأكسجين مما يتسبب في تكسيرها). ماذا لو استطعنا إصلاح تلك الطفرة؟ سوف يتعين علينا في هذه الحالة أخذ الخلايا الجذعية لنخاع العظم من دم المريض مباشرة، لنقوم بعملية تعديل الجينوم بطريقة كريسبر في المعمل وإصلاح الطفرة المسببة، ثم نتأكد أن الخلايا المعدلة قادرة على إنتاج هيموجلوبين طبيعي، ثم نقوم بإعادة هذه الخلايا إلى دم المريض لتستقر في نخاعه العظمي وتبدأ في إنتاج كريات دم حمراء سليمة خالية من المرض.

لنأخذ مثالاً آخر وهو مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) الذي لا يوجد علاج شافٍ تمامًا له حتى الآن. يمكننا أخذ عينة من دم المريض والقيام بتعديل الخلايا التائية المساعدة المصابة بالفيرس في المعمل، لإزالة الجين الذي يرمز لبروتين يعمل كمستقبل للفيروس، وبذلك لا يتمكن الفيروس من دخول الخلية وإصابتها لأنه لن يستطيع إيجاد المستقبل الخاص به على سطح الخلايا التائية[7-8].


الإنسان السوبر مان

لنفترض أننا أخذنا حيوانًا منويًا من ذكر وبويضة من أنثى ليتم التلقيح في المختبر (أطفال الأنابيب)، فينشأ عن ذلك زيجوت يبدأ في التضاعف ميتوزيًا لتكوين الجنين. ماذا لو استخدمنا طريقة كريسبر لتعديل جينوم هذا الجنين بسهولة في المختبر؟ إما لعلاج مرض معين أو الحصول على صفات جسدية أو عقلية مرغوبة، هل يمكننا بهذه الطريقة جعل أطفالنا أكثر قوة وأشد ذكاءً وأكثر ثباتًا نفسيًا؟ هل يتم استخدام هذه الطريقة في الأغراض السلمية فقط، أم أنها تمتد لتشمل أغراضًا حربية؟ هل نحن بصدد ميلاد سوبر مان جديد؟ يستطيع العلماء الآن ربط الكثير من الجينات بالصفات الجسدية والعقلية والأمراض الوراثية وغير الوراثية كالسكري والضغط مما يخلق أهدافًا كثيرة لتعديل الجينوم البشري[9].


مخاوف العلماء

يخشى العلماء من أن تعديل الجينوم في الجنين لن يؤثر عليه فقط بل يتم توريث هذا التعديل لكل السلالة الناتجة منه في المستقبل، ماذا لو أخطأنا وأدخلنا تعديلاً غير مرغوب انتقل لسلالة كاملة من البشر؟ مع الأخذ في الاعتبار أن تعديل جينوم الجنين قد يكون الحل الوحيد لعلاج مرض وراثي لم نتوصل لعلاجه بعد حتى الآن. هل يستحق الأمر المخاطرة؟[10]

الآن بعدما تعرفت على ما يمكن لطريقة كريسبر تحقيقه وكيفية عملها. هل تعتقد حقًا أنه يمكننا استخدامها بأمان في تعديل جينوم الأجنة البشرية، أم أن الأمر ما زال مبكرًا على هذه الخطوة؟ وهل نحن مستعدون نفسيًا لوجود طبقة جديدة من البشر معدلة جينيًا ذات قدرات خاصة، أم أن هذه مجرد أحلام صعبة المنال؟

المراجع
  1. All about the Human Genome Project
  2. Genome Editing Comes of Age
  3. CRISPR/Cas9 and Targeted Genome Editing: A New Era in Molecular Biology
  4. CRISPR Timeline
  5. Bitter fight over CRISPR patent heats up
  6. CRISPR Gets snubbed again by the Nobel Prize Committee
  7. Current application of CRISPR/Cas9 gene-editing technique to eradication of HIV/AIDS
  8. Gene editing corrects sickle cell mutation
  9. CRISPR fixes disease gene in viable human embryos
  10. What are the ethical concerns about genome editing