محتوى مترجم
المصدر
فورين أفيرز
التاريخ
2016/03/02
الكاتب
فاطمة بوجاني

أتناء وجوده في كردستان العراق في يناير من العام الماضي، مر محقق أوروبي بحقل من الحفر، التي زرعت بها عبوات ناسفة. تشكلت النقاط عبر خط مستقيم يمتد إلى أقصى ما يناله البصر. «لقد زُرعت بحيث تصيب أيًا من يعبر ذلك الحقل»، حسبما أخبرني الباحث، الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية.خلال الأشهر العشرين الماضية، كان يبحث بدقة، بمشاركة زميل له، سلسلة توريد مكونات أكثر من 700 عبوة ناسفة يستخدمها تنظيم الدولة الإسلامية داعش في العراق وفي منطقة كردستان السورية. وأعلنت اكتشافاتهما في تقرير صدر أواخر فبراير، والذي مثل أحدث إضافة إلى قائمة الوثائق المتعلقة بأسلحة داعش، التي نشرتها منظمة أبحاث الصراعات المسلحة، وهي منظمة خاصة معنية بتتبع الأسلحة بتكليف من الاتحاد الأوروبي.يمكن صنع العبوات الناسفة بواسطة العديد من المواد العسكرية وغير العسكرية، ويمكن استخدامها وتنشيطها بطرق عديدة، تختلف بين القنابل المزروعة على جانب الطريق والألغام الأرضية والعربات المفخخة. ورغم أنه قد جرى استخدامها لعقود، انتقل المصطلح المشير إليها إلى الاستخدام الروتيني من قبل الجيش الأمريكي بين عامي 2002 و 2003 في حرب العراق. حيث حدثت الخسائر الأولى بفعل عبوة ناسفة يوم 29 مارس 2003، عندما مات أربعة جنود نتيجة انفجار سيارة مفخخة.يستخدم داعش العبوات الناسفة على نطاق وصفه التقرير بأنه «شبه واسع»، وطبيعة ذلك النطاق غير معرّفة ولكنها تنطوي على إنتاجٍ غزير ومميكن. «الأمر غير مسبوق»، حسبما قال لي المحقق، «لم نر مثل ذلك من قبل، يصل عدد العبوات إلى الآلاف. فلم تعد فقط بضع عبوات على جانب الطريق. بل هناك -حرفيًا- حقولٌ منها».يصعب معرفة العدد الدقيق للعبوات لأن البيانات التي جمعتها القوات العراقية والسورية التي عملت المنظمة معها ليست موثوقة للغاية، حسبما أخبرني المحقق. ومع ذلك، حسبما يتابع، يبدو واضحًا أن العبوات الناسفة قد تسببت في خسائر بالقوى العسكرية التي تقاتل داعش – القوات العسكرية العراقية، الكردية العراقية، الكردية السورية والميليشات الشيعية العراقية – أكثر من أي سلاح آخر. كما نتج عنها عدد كبير من الوفيات المدنية.وفق بيانات وكالة «جيدا» التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، حدث 11,500 انفجار لعبوة ناسفة في العراق خلال عام 2015. وقد نتج عن تلك الانفجارات إصابة حوالي 35,000 شخص، ما يضع العراق على رأس قائمة الدول الأكثر تضررًا. حيث تأتي أفغانستان في المركز الثاني برصيد 8000 حادثة و12,000 مصاب، ثم سوريا في المركز الثالث برصيد 4000 حادثة و5400 مصاب. وتتعقب الوكالة المتفجرات حسب الدولة، وليس المنظمة. ولكن المتحدث باسم الوكالة أخبرني أن الأغلبية العظمى من العبوات الناسفة في العراق هي على الأرجح مرتبطة بداعش.يبدو أن داعش «يصنع ويستخدم العبوات الناسفة بشكل غير مسبوق»، حسبما أوضح، «في السابق بالعراق، كنا نطارد صانع القنابل الوحيد باستخدام القياسات الحيوية المأخوذة عن العبوة الناسفة، ونحاول أن نربط الأحداث عبر ذلك. ولكن الآن، نحن في مواجهة مصانع ضخمة للعبوات الناسفة، ولديها خطوط توريد وتمويل هائلة».لا يعتبر استخدام داعش للعبوات الناسفة الأمر الوحيد غير المسبوق، بل يعد الضرر الذي يحدثه باستخدام تلك القنابل مذهلًا أيضًا. «هناك فارق نسبي كبير بين عدد الحوادث وعدد الإصابات، ما يعني أنه في العراق، وبشكل أكبر من أي مكان آخر، تسبب العبوة الناسفة ضررًا أكبر، ما يعطينا لمحة عن القوة المتفجرة للعبوات الناسفة هناك وحجمها، واستخدامها»، وفق المتحدث باسم الوكالة. كذلك تستخدم داعش العبوات الناسفة بطريقة مختلفة قليلًا عن التنظيمات الأخرى. ففي العراق، يستخدمها في الدفاع والهجوم – في صنع العربات المفخخة، لمحاصرة المدن، لعزل نقاط الوصول، ولإحداث تصدعات داخل المدن الجديدة.


الإرهاب المحمول

في ذات الشهر الذي مر به المحقق عبر حقل العبوات الناسفة، اكتشف أيضًا أن هناك نموذجًا محددًا من هواتف «نوكيا» قد تم استخدامه في العديد من العبوات الناسفة التي يتم تفجيرها عن بعد. وقد استعادت قوات البشمركة الهواتف من ذلك النوع أثناء مداهمة لخلية تابعة لداعش في مطلع ديسمبر 2014، بعد تفجير داعش داخل العاصمة الكردية في 19 نوفمبر. وفي إربيل، تمكن المحقق من الوصول إلى ثلاثة من تلك الهواتف المحمولة. فباستخدام رموز «IMEI» الخاصة بالهاتف «مشابه للرقم المتسلسل»، تمكن من مطالبة شركة مايكروسوفت «التي استحوذت على نوكيا منذ عامين» بوثيقة لتتبع سلسلة التوريد.صنعت تلك الهواتف في فيتنام، ثم شحنت تلك الدفعة تحديدًا من الهواتف إلى وسيط في دبي، حيث وصلت في يوم 14 نوفمبر 2014. وهنا تنتهي الخطوات التي تم تعقبها، بما أن الوسيط لم يستجب لاستفسارات المنظمة بشأن المشترين اللاحقين لتلك الهواتف. وبعد ما يتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع من توصيلها إلى دبي، صادرت قوات البشمركة تلك الهواتف.تظهر تلك الفترة الزمنية القصيرة للغاية بين البيع الشرعي للهواتف ومصادرتها من قبضة داعش السرعة التي تمكنت بها داعش من وضع يديها على مكونات العبوات الناسفة بعد توريدها بشكل قانوني إلى وسيط في المنطقة. ربما تمثل تلك السرعة الاكتشاف الأهم بالتقرير.بمجرد أن وجد المحققون العبوات الناسفة والهواتف المحمولة، وتتبعوا تواريخ الهواتف إلى أقدم حد ممكن، بدأوا البحث عن معلومات بشأن المكونات الأخرى للعبوات الناسفة. فإن كانت المواد غير مرخصة – أي أن، نقلها لا يتطلب موافقة حكومية – كانوا يذهبون إلى المصنعين طلبًا لوثائق بيع وتوصيل المعدات. وإن كانت مرخصة، فإنهم يذهبون إلى الحكومات المشاركة.بشكل قياسي بالنسبة للعبوات الناسفة، كانت تصنع من مكونات رخيصة ومتوافرة بسهولة من أجزاء عديدة من العالم؛ صواعق التفجير من الهند، معجون الألومنيوم من رومانيا، سماد من روسيا، وماء الأوكسجين من هولندا. وقد بيعت تلك المكونات بشكل قانوني من قبل صناعها إلى وسطاء التوزيع الإقليميين في الشرق الأوسط، الذين باعوها لاحقًا إلى كيانات تجارية أصغر. ومما لا يعد مفاجأة، بسبب قربها، ظهرت كيانات تركية بشكل متكرر كآخر -أو الأقرب للأخير- مُشترٍ شرعي للمكونات ضمن سلسلة التوريد.تتلاشى سلسلة التوريد لدى الشركات الأصغر. «كلما تتبعت خط التوريد إلى حد أكبر، كلما أصبحت أقرب إلى نقطة التحول»، حسبما أوضح المحقق. «من الصعب جدًا التحكم في تلك المكونات وتعقبها بمجرد مغادرتها لطرق التجارة الرئيسية. على سبيل المثال، جاء معجون الألومنيوم الذي وجدناه من رومانيا وذهب إلى تركيا. ولكن الوسطاء الأتراك لا يتعقبون أرقام بضائعهم ولا يطابقونها بالعملاء، لذلك من المستحيل تعقبها فيما بعد».قال متحدث باسم الوكالة موضحًا: «فلنفكر بشأن سلسلة توريد مكونات العبوة الناسفة وكأنها مخروط، حيث يكون الشخص الذي يستخدم العبوة على رأس المخروط»، وفي قاع المخروط هناك مجموعة واسعة من المنظمات الشرعية والقانونية تمامًا. ويتواجد بين هذين الجانبين المهربين، مقدمي الخدمات المالية والمستودعات.بسبب طبيعة سلسلة التوريد، قد يكون الأمر شبه مستحيل أن يتم التحكم في البضائع التي تستخدم من قبل المزارعين والإرهابيين. فمعجون الألومنيوم، السماد، والعديد من المكونات الأخرى التي قد تستخدم في المتفجرات، منزلية الصنع لا يتعين ترخيصها من أجل التصدير؛ وبالتالي فإنها تتدفق دون تنظيم أو مراقبة في أنحاء المنطقة. والبضائع التي يلزمها ترخيص، مثل الصواعق، لها استخدامات تجارية؛ ما يعني أن استيرادها يظل سهلًا نسبيًّا.وبالتالي «لم يكن فرض التراخيص كافيًا لمنع استحواذ قوات داعش» على المكونات، حسبما يشير التقرير. وفي أثناء ذلك، وفق وكالة «جيدا»، لم يتغير أي شيء من المكونات الأساسية للعبوات الناسفة منذ ذروة حرب العراق. فجميعها يتضمن مصدرًا للطاقة، صاعق، والمتفجرات. وجميع تلك المواد، في ذلك الحين والآن، متاحة بالفعل، وفي أغلبها تكون مستخدمة في أمر آخر مشروع. علاوة على ذلك، يعني الإبقاء على سجلات مهملة بالكيانات التجارية الأصغر أنه من الصعب للغاية مراقبة هويات المشترين النهائيين. لذلك، يتمثل أحد الحلول في الضغط على الوسطاء للاحتفاظ بسجلات أفضل لمبيعات جميع السلع.لن تتحدث الوكالة بشكل محدد بشأن سلوكها المضاد للعبوات الناسفة في العراق، ولكن أحد الممثلين عنها قدم لي لمحة عن الأساليب التي تستخدمها الوكالة في باكستان وأفغانستان. وتتمثل إحدى الإستراتيجيات في إقامة شراكات داخل صناعة الأسمدة من أجل تطوير تركيبات جديدة لها احتمالات قليلة أو منعدمة لتستخدم في صناعة المتفجرات. كما تحاول الوكالة حمل شركات الأسمدة على تدشين آليات أفضل لحفظ سجلات المبيعات. ووفق تقرير منظمة أبحاث الصراعات المسلحة، تستخدم قوات داعش، النشطة في العراق وسوريا بشكل شبه حصري، المتفجرات منزلية الصنع المصنوعة من الأسمدة، مثل نترات الأمونيوم واليوريا، مع مزجها بمواد كيميائية أخرى.أيًا ما كانت طبيعة الحلول، لن تختفي مشكلة العبوات الناسفة قريبًا. فبالمقارنة بعام 2014، ارتفع عدد انفجارات العبوات الناسفة في العراق في عام 2015 بنسبة 80 بالمئة. وفي الرمادي منذ أيام قليلة، ظل المحقق يرى أسماء نفس الشركات الموثقة في تقرير المنظمة على مكونات عبواتٍ ناسفةٍ أحدث. «نفس نوع السماد ومن نفس الوسطاء، ولكن التاريخ يعود إلى عام 2015 وليس 2014»، حسبما أوضح. أي بعبارة أخرى، قد يستمر عدد الانفجارات في التزايد خلال العام القادم.