من دونك أشعر فعلاً بأني ضرير، لأني معك قادرٌ على استشعار كل شيء وعلى الاختلاط بالأشياء التي تحيط بي.
طه حسين متحدثًا عن زوجته

في أحد صباحات باريس الخانقة، تكاثرت الأثقال على نفس الشيخ الصعيدي طه حسين علي وزادته عتمة فوق عتمته؛ دراسة شديدة الصعوبة، نقود شحيحة، غُربة مُرة كالعلَقَم وشعور عارِم بالوحدة يبتلعه ويخنقه.

وبداخله بدأ يسأل: هل كان يجب عليه قبول البعثة الفرنسية حقًّا؟ لم تستقبله حتى الآن باريس بالترحاب الذي توقعه، وأغرقته في جُبِّ نفورٍ جعله يشتاق إلى «عزبة الكيلو» الصعيدية التي عرف العالم لأول مرة بين جنباتها الخشنة.

جلس تائه النفس في قاعة المحاضرات بالسوربون لا يتحرك، ولولا أنفاس شهيق وزفير يُنتجهما صدره رغمًا عنه لحسبه الناظر من بعيد تمثالًا.

فجأة، شقَّ الظلام صوتٌ عذبٌ كوَى قلبه الأعزب ما أن سمعت أذناه عبارة أنثوية فرنسية «أستطيع مذاكرة دروسك»، ألقتها صاحبتها على الفتى الصعيدي الذي حطَّت عليه كافة مُسلَّمات القَدر ليكون نقيضها في كُل شيء؛ الدين والجنس والوطن واللغة.

في تلك اللحظة لم يكن يجمعهما إلا شيءٌ واحدٌ؛ حُب الأدب والشغف بدراسته، وكفى بها نِعمة.

خمَّن بذكائه أن طلاقة صاحبة العبارة تُنبئ أنها من أهل هذه البلاد، ردَّ طه عليها بفرنسية ضعيفة لا تزال في المهد: «نعم! من أنتِ؟!».

اقتربت منه الفتاة، وجذبت مقعدًا مجاورًا له تمامًا، وهي تُجيبه بهدوء: سوزان.. سوزان بريسو.

لا نعرف كثيرًا عمَّا جرى بين الشابين هذا اليوم، لكن يكفينا أن العميد حين أراد وصفه تحدَّث عن «الشمس التي أقبلت فى ذلك اليوم من أيام الربيع فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذى كان بعضه يركب بعضًا، والذى كان يعصف ويقصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقًا وروعًا، وإذ المدينة تصبح كلها إشراقًا ونورًا».

اغفري لي.. أنا أحبك

تحكي سوزان خلال حوارٍ لها أجرته مع الكاتبة الصحفية نِعم الباز، ونشرته في كتابها «زوجاتهم وأنا»: «كانت معرفتنا والتصاقنا معًا بالتدريج، وكانت لنا لقاءات كثيرة حول مجلدات الأدب الذي عشقه كلانا».

تاقتْ نفس الشاب العربي شِبه المطرود من وطنه إلى قلب تلك الباريسية رائعة الصوت، لكنه تهيَّب كثيرًا من الاعتراف لها بحبِّه خوفًا من خسارة زخة المطر الوحيدة التي لطَّفت على مسامه صهد باريس المُر، فآثر ادِّخار هذه الكلمة إلى لحظاته الأخيرة في فرنسا.

 

تحكي سوزان في كتابها عن حياتها مع العميد بعنوان «معكِ»، أنها كانت كانت تقرأ له يوميًّا، وكانا يتحدثان بكثرة ما جعله يُحقِّق تقدُّمًا عظيمًا في اللغة الفرنسية وباتت تصحبه إلى الجامعة في أغلب الأوقات. شم أستاذه الإيطالي في الأجواء روحًا عاطفية فكشف لتلميذه النجيب طه أنه واقع في الغرام وإن لم ينطق لسانه بعد، ثم أخبره بعدها نبوءته الخطيرة: «هذه الفتاة ستكون زوجتك».

عندها يتشجَّع طه ويقرر أن يفضح نفسه قبل أن تفضحه نفسه؛ ذات يوم، فوجئت به يقول: «اغفري لي، لا بدَّ من أن أقول لكِ ذلك؛ فأنا أحبكِ»، لم تفاجئها الجُملة بقدر ما باغتها رد فعلها بالغ الفظاظة، انتفض جسدها كما لو أنها لُدغت، وصرخت فيه: «لكني لا أحبك»!

ولم يأخذها رده الحزين به شفقة حينما قال: «إنني أعرف ذلك جيدًا، وأعرف جيدًا كذلك أنه مستحيل ولا شك».

تركته وغادرت، ولا ندري هل انفعالها الزائد عن الحدِّ في هذه اللحظة كان رفضًا مُبينًا لشخصه أم مقاومة لبذرة الشغف الوردية التي راحت تنمو داخل أعماقها تدريجيًّا بحقِّ ذلك الأعمى الآتي من بلاد الفراعنة المجهولة؟!

هي لا تعلم ولا أحد يعلم، لكن تداعيات الأحداث التالية أثبتتْ أن الخيار الثاني هو الأصوب.

من مصر، لم ينقطع طه عن مُراسلتها حتى لان قلبها قليلًا، واقتنعت بأن تُحادث أهلها في أمره، لكنها طلبت منه إرجاء ذلك حتى يعود إلى فرنسا مُجددًا.

وما أن جاء حتى أعلنت لأسرتها أن شابًّا (عربيًّا/ مسلمًا/ أعمى) من بلدٍ لم يزره واحدٌ من العائلة أبدًا، يريد الزواج بها ظنُّوا أنها جُنَّت تمامًا، وحده عمها القِسِّ وافَق على الالتقاء به في جلسة تعارُف، شحذ فيها طه كُل أسلحته الإبهارية حتى امتلك رأس العمِّ الفرنسي فخرج مُباركًا لهذه الزيجة، وقال لها عبارة لم تنسها أبدًا «مع هذا الرجل سوف تشعرين بالامتلاء».

هنا لم يعد هناك مفرًّا للاستسلام؛ رفعت سوزان الراية البيضاء ووافقت على الزواج به.

وهو تنازل كبير لم تُقدِّم مثله في علاقتهما مُجددًا، فعدا أنها منحت ولديها منه اسمين عربيين، لم تتنازل سوزان مرة أخرى، ولم ترفع الراية البيضاء أبدًا إلا لتطوق بها زوجها من أي أمر تظن أنه سيؤرق راحته.

اشترطت عليه أن يُقيما حفل زفافهما في كنيسة، وبالفعل في التاسع من أغسطس/آب عام 1917م كانا يُزفَّان معًا أمام مذبح كنيسة القرية، وآل بريسو يُحيطان بهما من الجانبين، وبالطبع تخلَّف كل آل حسين عن الحضور فوقف طه في عُرسه وحيدًا، لكنه لم يبالِ؛ فلقد اكتفى بتلك الحسناء التي تتأبَّط ذراعه من الآن وإلى الأبد.

الزواج في كنيسة فتح النار على طه حسين لاحقًا، وسيكون كمُستندات الفساد التي كان يُعايره بها خصومه كلما ثاروا عليه، حتى إن البعض تطرَّف في الأمر واتَّهم طه بأنه تخلَّى عن الإسلام نهائيًّا وتنصَّر كرامةً لعيني سوزان الكاثوليكيتين.

 

تمسَّكت سوزان بمسيحيتها ولم تنخرط في دين زوجها، وواظَبت على الذهاب إلى الكنيسة أسبوعيًّا حتى ماتت ودُفنت في مقابر المسيحيين، وكذا لم تُفرِّط في لسانها الفرنسي فلم تنطق إلا بها مع طه حتى لحظة طلوع روحها، ولنا أن نتخيَّل أن اللغة الرسمية في منزل عميد اللغة العربية لم تكن العربية! وعليه فكان عليه إذا رغب في شُرب قهوة أن يقول: «Je veux boire une tasse de café».

ما أوهَن لغة الضاد على لساني ابنه وابنته، ولم يرثا ولو نصف إجادة والديهما للعربية، فكان بحقِّ باب العميد مخلَّع!

وفيما بعد سيكون لهذا التمسُّك الكاثوليكي سببًا في حرمانها من حقها في أن ترث زوجها بسبب القانون 71 لسنة 1962، الذى ينصُّ على أن اختلاف الديانة بين المتوفى وبين أبنائه أو أحد الزوجين يمنع الإرث.

وخلال سنوات ارتباطهما، لم تكن سوزان مُجرَّد زوجة عادية ولكنها طالبة آداب سابقة، وبالرغم من أن قُدراتها لم تُمكِّنها من المُضي أبعد من ذلك، فلم تُنتج دراسات أو أبحاثًا مرموقة ولم تخطُّ أشعارًا أو روايات ذائعة الصيت أو حتى قليلته، إلا أنها قرَّرت أن يكون هذا الإخفاق وقودها لتدفع طه حسين إلى نجاحٍ لم يسبق له مثيل.

وأن يكون العميد هو أعظم رواياتها التي ستُخلِّد اسمها في سماء الأدب إلى الأبد، وإن لم تكتب في سبيل ذلك سطرًا واحدًا.

وإزاء هذا التحدي كان عليها أن تتخلَّى تمامًا عن «سوزان بريسو» لصالح «سوزان حسين»، التي عملت باحثة أدبية لصالح شخصٍ واحدٍ فقط، نذرت نفسها له سكرتيرة وقارئة ومُمرضة ومتُحدِّثة بِاسمه في المؤتمرات.

عندما اضطرتها بعض الشواغل إلى السفر إلى فرنسا كان يُراسلها يوميًّا ليحكي لها عن كل شيء بدءًا من لوعته بغيابها وحتى آخر أحداث بلده.

كتب لها في إحدى هذه الرسائل يومًا: «كان لطفي بك (أحمد لطفي السيد) يقول إن طه لا يستطيع أن يعمل بعيدًا عن زوجته، ذلك أن قلبه لا يكون آنذاك معه. أي نعم، ولا كذلك عقلي!»، وهو ما عبَّر لها عنه في رسالة تالية كتب لها فيها: «كيف أعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقوِّيني»، ولمَّا شعر بجفاف القريحة وعدم استطاعته تأليف أي كتاب لم يتردد في اللجوء إليها قائلاً: «لا أُنتج شيئًا، أوحي إليَّ يا مُلهمتي».

وفي رسالة أخرى يُحدِّثها عن مدى ضيقه من مجرد فكرة عدم وجودها جواره:

كنت بحاجة للشجاعة لأقوم بخلع ملابسي، ولكن أنتِ، من يسهر عليكِ؟ ومن يُعنى بكِ؟ لو أنني قربكِ، لا لشيء إلا لكي أحمل لكِ مؤنس، وأُلبس عنكِ أمنية، وأعطيكِ روم النعناع.

في العام 1939م، كانا في فرنسا حيث أنهى طه كتابه المعجزة «الأيام»، وفي طريقهما للعودة استقلا باخرة في زمنٍ كانت به الحرب العالمية الثانية تعيش أوجها، وعاش كل الركاب قلقًا من أن تُستهدف السفينة بإحدى غواصات هتلر التي لا ترحم، وعندما لاحقتهم الانفجارات أجرى قائد السفينة تمرين إنقاذ، لاحظ خلاله أنها تحمل كيسًا جلديًّا بحرصٍ بالغ، سألها: «إنها ولا شك مجوهراتك؟»، فأجابته: «لا، يا سيدي القائد، إنه مخطوط كتاب لزوجي».

في نهاية هذه الرحلة، يمكننا أن نقول بثقة إن قرار سوزان بالانزواء تحت راية الزواج حمل تنازلاً مباشرًا عن طموحها الأدبي، لكنه في الوقت نفسه كان السبب الرئيس في أن يكون زوجها عميدًا له.

«أنتَ لا تُطيق الحياة المُريحة»

لقد حنا يا ابنتي هذا الملك على أبيك فبدله من البؤس نعيمًا ومن اليأس أملًا، ومن الفقر غنًى ومن الشقاء سعادةً وصفوًا.
طه حسين يصف زوجته لابنته أمينة

يتحدَّث الكاتب صلاح عيسى في كتابه «شخصيات لها العجب» عن سوزان قائلًا:

هي وحدها التي حلَّقت معه بالحوار إلى آفاق النشوات العُليا، وهي التي قاسمته المحن التي اختصته بها الحياة، وهي وحدها التي تملك أسرارًا لم تقلها ولن تقولها.

في بداية علاقتهما، كان عليها أن تتعامَل مع عددٍ من العُقد التي أحاطت بطه حسين. منها شغفه المستمر للعلم والدراسة، يحكي زوج ابنته وزير خارجية مصر الأسبق محمد حسن الزيات في كتابه «ما بعد الأيام»، أن طه بعد الخطوبة لم ينفق ليله ونهاره على كتابة كلمات الحب والغرام، وإنما في دراسة تاريخ اليونان والرومان والأدب الفرنسي.

ويؤكد أنه انشغل بالدراسة بشدة حتى إنه اكتشف فجأة أن ميعاد زواجه قريب من موعد الامتحانات، فقام بتأجيلها ليتفرغ إلى سوزان.

وبعدما أنجبت زوجته أمنية، لم يؤثر هذا قطُّ على شراهته العلمية، فكان يُملي الرسائل الأدبية على زوجته وهو يحمل ابنته بين ذراعيه ويتمشَّى بها في الغرفة.

وبالإضافة إلى ذلك، نعرف أيضًا أن الرجل كان مصابًا بدستة من الحساسيات النفسية بسبب معاناته المستمرة بسبب ظلام عينيه، منها مثلًا أنه كان يرفض الأكل أمام الناس مظنةً أنهم سيسخرون من الضرير الذي تتعثر يده في طريقها لدسِّ التفاحة داخل فمه.

في العام 1923م، حضرا مؤتمرًا دوليًّا عن التاريخ في بروكسل، شارك طه فيه ببحثٍ أدبي عميق، لكنهما فوجئا أنه يجب يُلقي كلمة بنفسه أمام الحضور، وهو ما رفضه العميد تمامًا وكاد ينسحب من المؤتمر، لولا أن أنقذت سوزان الموقف وصعدت بدلًا منه وقرأت كلمته.

وما أن علم الحضور بحقيقة الأمر ضجَّت القاعة بالتصفيق!

تصفيق لم ينالاه حينما تكرَّر الأمر في جامعة الأزهر، ودُعي طه لإلقاء محاضرةٍ فيها.

في هذه الأوقات ستتجلَّى أمام سوزان عُقدة أخرى لا دخل لطه فيها، وهي «عُقدة الوطن» الغارق في ظلام الجهل والغفلة، بسبب نقص التعليم والتزمت الديني والاحتلال الإنجليزي، وجميعها كانت معاول هدم مستمرة في عقول الأمة.. معاول حاربت طه في علمه وحياته وزواجه!

دخل طه قاعة الدرس الأزهري، وكعادته كانت على يمينه زوجته التي يتوكَّأ عليها تصل به حتى مقعده فتداعَى عليه الغنم!

أشعل هذا المشهد الأهواء المتزمتة، وتطايرت من الحضور كلمات عنترية بحقِّ «خطورة الزواج من الأجنبيات»، وتحوَّلت المحاضرة إلى «حفل سباب جماعي» بحقِّ طه حسين خرج منه مبهوتًا مكسورًا ضريرًا!

وقتها لم يجد في مصر كلها يدًا تُربِّت عليه إلا أصابع سوزان التي احتوت رأسه وهوَّنت عليه ما جرى.

 

وهو الأمر الذي سيتكرَّر بعدها كثيرًا، ولم تنقطع قسوة مصر عليه للأسف حتى في أيامنا هذه بعدما تحوَّل منزله في قريته إلى سوق ملابس والقرار العجيب بإطلاق اسمه على محطة صرف صحي في الزمالك!

في خريف 1921م، وضعت سوزان ابنهما الثاني، وعندها أمسك طه بيدي زوجته، وسمعها تهمس: «إنه ولد» فردَّ عليها: «إذن هو مؤنس».

حاوَل أن يُنقذ ابنه من البراثن الفرنسية ويغرس حُب العربية في نفسه، فكان يُلقي بأشعار القصائد العربية القديمة على مسامعه وهو بعد في شهره الثالث، وكانت هذه إحدى المهام التي فشل فيها فظلَّت الفرنسية هي الأقرب إلى نفس مؤنس طه حسين، فحصل على الدكتوراه في الأدب من السوربون، كما كتب بالفرنسية شعرًا أخرجه في ديوانين مغمورين، هما: «كان الفجر شاحبًا» و«الصباح الصافي».

بعد ولادة مؤنس بعدة أعوام، خاض طه حسين واحدة من أكبر معاركه بعدما اصطدم بالملك شخصيًّا، فانعقد مجلس الوزراء بأكمله، برئاسة إسماعيل صدقي باشا، وقرَّر عزله عن عمله الحكومي (عمادة كلية الآداب)، لينقطع راتبه وتفقد أسرته مورد رزقها الوحيد، ولم تكن هذه وحدها نهاية المصائب.

أبلغت  الحكومة شركة مصر الجديدة «البلجيكية»، أن العميد لم يعد عميدًا وبالتالي لم يعد له حق سكن المنزل الذي استأجرته له الجامعة، لذا عليه إخلاءه فورًا.

يومها، سهر طه طول الليل ولا يعلم ماذا يفعل إزاء هذا الفرمان الذي قضى على راتبه ومنزله بضربة واحدة، مرة أخرى تُربِّت عليه ملاكه الحارس، وتقول له: «سهرك الليل لن ينفعنا شيئًا، ومَن يُريد أن يقف وقفتك ضد الطغيان لا بد أن ينام قرير العين مرتاح الضمير».

لا تكاد تمرُّ أيام ويأتيه عرضٌ سخي من جامعة أمريكية؛ راتب ضخم، حرية كاملة في اختيار موضوعات محاضراته، لكنه يرفضه فورًا.

يقول لسوزان:

نعم أنا أستاذ معزول، وعالم ممنوع عن العمل، وواجبي أن أسعى إلى العمل، ولست أستطيع الآن أن أقوم ببحوثي هنا وأن أؤلف، وكل هذا سيكون مكفولًا في أمريكا، ولكني سأكون هناك أجنبيٍّا، سيتوفر لنا العيش المادي كما نريد، ولكنني سأنظر إلى حياة  البلد من حولي دون أن أشارك فيها، وستكون مسئوليتي في أمريكا محدودة جدًّا، ومن ذا الذي أذن لي بالتخلي عن مسئوليتي إزاء بلدي، هذا البلد الذي منحني كل شيء؟

هنا تجيبه زوجته: «بالاختصار، أنت لا تطيق الحياة المريحة، أنت لا تطيق الحياة بغير تعب».

وربما تذكرت سوزن وقتها إحدى عباراته الخالدة التي ألقاها على مسامعها وشكَّلت في نفسها بُعدًا جديدًا في شخصيته، حين قال لها: «إننا لا نحيا لنكون سعداء»! وهي الجملة التي حاولت جُل عُمرها أن تُقنعه بخطئها حتى فشلت واقتنعت هي بها.

جدي كان بيدلعها ويقولها يا سوز.
سوسن محمد حسن الزيات – حفيدة طه حسين

في حوارها مع نِعم الباز، منحتها الأخيرة سؤالًا بديهيًّا لِمَن في مثل حالتهما «هل شعرت يومًا باحتياجه لكِ أكثر من احتياجك إليه؟»، أجابت بالنفي.

كان كلٌّ منا يُكمل الآخر. لم أشعر بأي اختلاف بيننا في طريقة التفكير، وهناك أشياء صغيرة كانت تقابلنا في الطريق كنا نهذبها كما يفعل البستاني من أشجار الحديقة.

حينما انتقلا إلى منزلهما الجديد في فيلا «رامتان»، تكفّلت سوزان بتصميم الفيلا، بمعاونة مهندس يوناني صديق، أما الحديقة فرسمت خريطتها وغرست فيها الأشجار والزهور بنفسها؛ لذا أصبحت مستقر طه حسين طوال العشر سنوات التي عاش فيها داخل منزله الجديد، ولم يكن يمنعها عنها إلا المرض أو برد الشتاء.

وبخلاف ذلك تكفَّلت أيضًا بكل ما يتعلَّق بحياة العميد، بداية من قراءاته اليومية وحتى جلساته مع أصدقائه، والتي كانت لا تخجل من إنهائها إن شعرت أنها طالت أكثر مما تحتمله صحة زوجها، ما دفع البعض إلى توجيه الانتقاد إليها بأنها تبني سورًا حول الرجل وتعزله عمَّن حوله.

حتى إن الكاتب الصحفي أنيس منصور خلال إجراء لقاء شهير معه بصحبة 10 من كبار الأدباء، يحكي أنه لم يقلق على صحة العميد المتداعية ولا على فشل اللقاء لأي سبب تقني، كل ما خشي منه هو زوجته سوزان التي لن تتورَّع عن إفساد الأمسية وطردهم جميعًا إن أحسَّت أن أنيس يضغط على صحة زوجها أكثر من اللازم.

لذا استغلَّ أنيس فرصة خروجها من المنزل، وطلب من المخرج إيقاف سيارة التليفزيون بعرض الشارع، وأمره بأن يمنعها من الدخول عند عودتها!

 

في العام 1973م، لم يُكتب له أن يتابع عن كثب حُلمه الأعظم بأن يمتلك وطنه قوةً يُدافع بها عن نفسه، لأنه بينما كان جنود مصر يدكُّون خطَّ بارليف كان المرض قد بلغ بجسده مراحله الأخيرة وتسلَّخ ظهره حتى بات عاجزًا عن النوم عليه، فوجئت به يومًا يهذي لها: «إنهم يريدون بي شرًّا»، ولما سألته عمَّن يقصد أجابها: «كل الناس»، فردَّت عليه بعتابٍ: «حتى أنا»، فأجابها بعنف وكأنه ينفي عن نفسه تهمة كبرى: «لااااا، ليس أنتِ».

في يومه الأخير، استفتحه بشُرب اللبن من يديها، كعادته، ولما استدارت عنه لتأتي له ببعض البسكويت، وعندما عادت له بدا لها أنه يعيش آخر لحظاته، قال لها: «أعطيني يدك» قبض عليها كما فعل دائمًا ثم أطلق أنفاسه الأخيرة منطلقًا إلى رحلة لن تستطيع أن يتكئ فيها على سوزان هذه المرة، التي كتبت عن ذلك:

ذراعي لن تمسك بذراعك أبدًا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن.

رفضت سوزان الرحيل عن مصر أبدًا طالما أنها «بلد الحبيب»، كما أبت مغادرة منزلهما «رامتان» الكائن بالهرم، ولم تستسلم لضغوط الأبناء بالانتقال للعيش معهما في فرنسا أو حتى في حيِّ الزمالك القريب.

ظلَّت تتصرَّف كما لو أنه لم يرحل عنها، وحافظت على كل طقوس حياتيهما، واستمرت في العناية بكتبه وحاجياته حتى لفظت أنفسها الأخيرة.

وفي لحظة الوفاة، كُتب عليهما الفراق بسبب التباين الديني الذي سيمنعها من الدفن في مقابر المسلمين، فلم تجمعهما بعدما دُفنت في مقابر المسيحيين.

لكن هذه العقبة لم تكن لتمنع أبدًا من ائتلاف روحيهما كما امتزجتا معًا لسنواتٍ طويلة، بل ربما كانت تقرأ عليه الآن هذه المقالة، وهو يهزُّ رأسه في رضا ولا يكفُّ عن التربيت على كفِّها.