علاقة فريدة جمعت بين عملاقي الأدب العربي طه حسين وتوفيق الحكيم خلَّدتها المكانة العظيمة التي حازها كلاهما في مجاله، فكلَّما كتب توفيق الحكيم نقده طه حسين والعكس، وهكذا استمرَّ التشابك بين كل واحدٍ منهما كلما زاد الآخر إبداعًا، لتتخذ علاقتهما أشكالاً معقدة من الإبداع الأدبي والغيرة المهنية والصداقة الإنسانية والصراع على لقب الأفضل.

يحكي إبراهيم عبد العزيز، في كتابه «أيام العمر»، أن الصداقة التي جمعت بين طه حسين وتوفيق الحكيم شابها كثيرٌ من حالات المد والجزر، فشخصية طه حسين الناقد غير شخصية طه حسين الصديق، وهو رجل «صداقته متعبة وعداوته متعبة» كما وصفه الكاتب أحمد أمين.

ولعل هذا ما دفع توفيق الحكيم يومًا ليصف علاقته بطه حسين بأنها «لحظات صفاء.. ولحظات غيوم».

كان أول غيض التعارف بينهما هو سلسلة المقالات العنيفة التي كتبها طه حسين ضد الأزهر الشريف، والتي أحدثت رجَّة في المجتمع، فلم يكن من المعتاد حينها أن يقرب أحد هذه المؤسسة الحصينة بسوء.

بسبب هذه المقالات سمع توفيق الحكيم عن طه حسين لأول مرة، يقول الحكيم في كتابه «سجن العمر» الذي عرض سيرته الذاتية وصدر عام 1964م:

بلغ مسمعي أن شابًّا أزهريًّا مكفوفًا نابغًا يهاجم بمقالاته العنيفة علماء الأزهر المتجمدين، دون أن يخطر لي على بال أنه بعد نحو عشرة أعوام ستنشأ بيني وبين هذا الأزهري النابغة صداقة، وسنمرح معًا على جبال الألب، وسنسجل مرحنا في كتاب.

ومنذ هذه اللحظة بدأت العلاقة المركبة التي جمعت بين عملاقي الأدب المصري، والتي حملت كثيرًا من الود وقليلاً من المشاكل والصراعات التي وصلت إلى تبادل الشتائم في أحيانٍ كثيرة، والتي لخَّصها تعليق طه حسين على صدور كتاب «سجن العُمر»، فكتب تهنئة مُحلاَّة بالعتاب قال فيها:

وأنا أهدي إلى الكاتب الصديق «توفيق الحكيم» تهنئة خاصة، وشكرًا جميلًا؛ لأنه تفضل فلم يرسل لي كتابًا من كتبه منذ سنين، فله الشكر، وإن كنت أرجو أن يأذن لي في أن آخذ شيئًا من هذا الشكر لأهديه إلى الصديق الكريم الذي أعارني هذا الكتاب.

ويقول الكاتب إبراهيم عبد العزيز إنه بالرغم من علاقة الصداقة التي جمعت بين الأديبين الكبيرين، فإن الحكيم لم يهده كتاب «سجن العمر»، وهو ما كان يستدعي من طه حسين أن يتجاهله إلا أنه لم يفعل ذلك وعلَّق عليه محتفيًا دون أن ينسى لمز صديقه بعتابٍ صغير.

أرجوك، أبعِد عنِّي هذا الرجل

إنني مضطر أن أبعث إليك بهذه الرسالة وأخشى أن يكون في هذه الرسائل إنفاق لوقتك، أكثر مما ينبغي.. ومن المستحيل الآن أن أكتب شيئًا أو أن أفكر في شيء دون أن أعرضه عليك، إن في هذا راحة لي كبيرة، وفائدة كبيرة أيضًا… وأرجو أن يقبل الدكتور أطيب تحيتي وعميق احترامي.
رسالة من توفيق الحكيم إلى طه حسين – بتاريخ 26 مايو/ آيار عام 1933م

بالرغم من تمتُّع الكاتبين بكثيرٍ من الصفات المشتركة التي تُهيِّئ أن تكون عُرى الصداقة بينهما في أشدِّ حالاتها فإنه كان ينغصُّ هذه الصداقة عقدة أن طه حسين لم يتخلِّ أبدًا عن أمانة النقد؛ فلم يرحم سنُّ قلمه أحدًا على صفحات الجرائد ولو كان صديقه المُقرَّب، ولم يتخلَّ أبدًا الحكيم عن أمل كل كاتب أن يرى أكوام المدح تنهال على مُؤلَّفه فكان صدره يضيق بهذا النقد، ويتمنَّى لو يتخلَّى صديقه عن حياديته الصارمة قليلاً أو يخرس للأبد!

لتُعبِّر علاقتهما عن طبيعة الصداقة بين ناقد عجز عن أن يكون أديبًا وأديب عجز عن أن يكون ناقدًا، فاستمرَّ كلٌّ منهما في مجال براعته، فقُدِّر لهما أن تُخيِّم العلاقة بين الكاتب والأديب على صداقتهما، وهي عسيرة بكل الأحوال في دنيا الأدب، فممارسو المجالين دومًا كطرفي المقص قد يفترقان أحيانًا إلا أنهما لا بد أن يتلقيا مهما طال الزمن.

يحكي الحكيم في كتابه «وثائق من كواليس الأدباء»، أنه عندما صدرت رواية أهل الكهف عام 1933م أحدثت دويًّا كبيرًا وتكالب النقَّاد والأدباء على مدحها والإثناء عليها إلا طه حسين، صمت بشكلٍ مريب أثار قلق الحكيم بأن عميد الأدب يُدبِّر له نقدًا زاعقًا.

قوَّى هذا الشعور في أعماقه ما قاله له صديقهما المشترك الدكتور حلمي بهجت بدوي، والذي كان أستاذًا في كلية الحقوق، أخبره أن طه حسين قال له: «سأكتب عن صديقك، وسيكون لي معه حساب عسير».

اغتمَّ الحكيم وقال لصديقه: «أرجوك أبعِد عنِّي هذا الرجل.. الكتاب الآن قد كُتب عنه بما فيه الكفاية، والمطبوع منه قد نفد»، ولكن الدكتور حلمي لم يتمكن من صرف طه حسين عن الكتابة.

بعد هذا الحديث، فُوجئ توفيق الحكيم بمقالة لطه حسين في مجلة الرسالة، والتي كان يُحرِّر فيها العميد باب نقد الكتب، والمفاجأة أن المقالة كنت مُتحمِّسة جدًّا للعمل وأشادت به إشادة كبيرة.

كتب طه حسين:

أما قصة أهل الكهف، فحادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي العصري وحده، بل أقول في الأدب العربي كله، وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطًا به، مبتهجًا له، وأي محب للأدب العربي يغتبط ويبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول إن فنًّا جيدًا قد نشأ فيه، وأضيف إليه، وإن بابًا جديدًا قد فتح للكتاب (يقصد باب التمثيلية الأدبية)، وأصبحوا قادرين أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن.

وأما الحساب العسير الذي توعَّد به طه حسين صديقه، هو أن الكتاب حوى خطأ إملائيًّا ما كان ينبغي أن يقع فيه رجل كالحكيم.

فكتب الحكيم إلى طه حسين، بعد أن أمِنَ نقده: إني أشكر أهل الكهف الذين قادوني إليك، وإن كان هذا هو الغرض من بعثهم في كتابي فقد حق البعث نجح، الحقيقة أن رعاية الدكتور طه هو أثمن من تمنحني القديسون الثلاثة من كنوز، وإن صداقته التي أطمح إليها يوم أكون خليقًا بها هي مفتاح عملي الأدبي في المستقبل, إنه ليشق عليَّ أن يمضي الأسبوع ولا ألقى الدكتور، فلقد وجدت في حديثه زادًا روحيًّا لا غنى لي عنه.

وهكذا، مرَّت «أهل الكهف» بسلام، وكانت إحدى المرات النادرة التي نال فيها الحكيم مدحًا كاملاً من صديقه ذي الحس النقدي البتَّار الذي لا يرحم.

ولم يكد طه حسين ينتهي من الإشادة بأهل الكهف، حتى أصدر توفيق  الحكيم عملاً تاليًا قُدِّر له أن يُغيِّر تاريخ مصر، بعدما ألهمت حبكته البطل جمال عبد الناصر للقيام بثورة يوليو، وهو رواية «عودة الروح».

والتي قال عنها طه حسين:

أنت في عودة الروح تقص، ولكنك تمثل رغمًا عنك، فأنت في قصصك ممثل أكثر منك قاصًّا.. وكانت عودة الروح هذه هي التي حببتك إلى عامة الفقراء والقراء، الذين يقربون من الشعب، ولا يسمون إلى أرستقراطية التفكير، ذلك لأنك اقتطعت هذه القصة من حياة الشعب اقتطاعًا.. صورت الحياة المصرية كما يحياها الأوساط من المصريين، والفقراء أيضًا، وصورت هذه الحياة في كثير من الحب والشغف بها والفناء فيها، كأنما كنت تصور نفسك، لأن كل المصريين الذين صورتهم في هذه القصة يتصلون بك من قريب أو بعيد…

أكبر سُلطة في الدولة لن توقع بيننا

لم يدم الود طويلاً بين الرجلين، بسبب التهور الذي ميَّز الحكيم واندفاعه للذود عن كُتبه وفنِّه ضد كل مَن يمسُّه بسوءٍ ولو كان صديقه، وفي إحدى المرات أخبر صديق للحكيم أن طه حسين كتب مقالاً سيئًا عن عمله، فثارت ثائرة الحكيم ودون أن يقرأ المقال، كتب خطابًا حادًّا أرسله إلى طه حسين، ما أن فضَّه الأخير حتى قال لنفسه متعجبًا: «سبحان الله.. لقد نشرت مقالًا عن الكتاب الذي صدر لتوفيق الحكيم ليس فيه غير الإعجاب فرد عليَّ يشتمني!».

وبالفعل كان العميد على حق، فلقد كان أكثر من انتقد توفيق الحكيم على هذه الفِعلة هو توفيق الحكيم نفسه، الذي قرأ المقال ولم يجد فيه غير الشكر، فسأل نفسه: «كيف استطاع إذن هذا الصديق، رحمة الله عليه، أن يغير شعوري ويثيرني ضده؟!».

أما الخلاف الأكبر بينهما، فهو عندما رغب طه حسين في كتابة مُقدمة للطبعة الثانية لرواية «أهل الكهف»، وهي خطوة كان يُعدُّها تكريمًا وتشجيعًا للأدباء والمفكرين، فعلها في كتاب «المرآة» لعبد العزيز البشري، و«فجر الإسلام» لأحمد أمين وغيرهما، بل كتب مُقدمات كتب أدباء أقدم منه ولا يقلون عنه مكانة مثل الشاعر خليل مطران في ديوانه «الخليل».

وكان الأدباء يعتبرون تزيين طه حسين لكتبهم بمقدمة شرفًا لا يُضاهى واعترافًا من العميد بموهبتهم، وكان الناشرون يتسابقون على هذه الخطوة باعتبارها ستضمن لهم مبيعات مضمونة، فمن ذا الذي يجرؤ على تجاهل كتاب أشاد به طه حسين؟!

وبالرغم من كل هذا رفض توفيق الحكيم عرض صديقه، وفضَّل أن يخرج الكتاب دون مقدمة العميد بدعوى أنه «يكره المقدمات»!

يقول الحكيم في خطابٍ قديم أرسله إلى صديقه القاضي طاهر رشيد:

أن يُقدِّم للقصة أحد كبار الأدباء المشهورين في مصر كما هو المتبع فهذا ما أمقته، لأنك تعلم أنني رجل مخلص صريح، وأن أولئك الكتاب المشهورين قلما يقرأون ما يقدمون له من كتب، وأن عملي إن هو إلا عمل يمثل شبيبة اليوم الصريحة المخلصة، التي تسعى إلى العمل المجدي لا إلى الشهرة الفارغة؛ لذلك تجدني مصرًّا على عدم التمحك في الكتاب بالمشاهير، لأحظى بمقدمة لا تظهر إلا نفاق كاتبها، وجهله بالقصة التي يكتب عنها.

لم يشرح توفيق الحكيم موقفه كما ينبغي للعميد، وإنما اكتفى بالرفض!

وهو ما استغربه طه حسين واعتبره إهانة له، وقال عنه في كتابه «فصول في الأدب والنقد»:

نتحدث عن أهل الكهف، وعن طبعة ثانية بين الناس، فأقترح أنا أن أقدمها إلى الجمهور، ويظهر الأستاذ (توفيق الحكيم) وأصدقاؤنا الرضا بذلك والابتهاج به، ثم يلقى الستار ويرفع، وقد تمت الطبعة الثانية من أهل الكهف، وأبطأتُ أنا بالمقدمة أسبوعين، فينشر الكتاب بغير مقدمة وبغير أن يتحدث أحد في ذلك، فيسوؤني ذلك بعض الشيء.

وبحسب الكاتب إبراهيم عبد العزيز، فإن البعض ساهم في توسيع رقعة الخصومة بين الحكيم وطه، فعلى سبيل المثال شارك أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة، بشكل غير مباشر في نشر تفاصيل الخلافات بين القطبين الكبيرين على نطاق واسع، حينما كان ينشر الرسائل والمقالات المتبادلة بينهما في المجلة، واسعة الانتشار، نقلًا عن مجلة الوادي، محدودة الانتشار، ولكن الزيات لم يكن يقصد بالطبع نشر خلافات الأديبين رغبة في تعميق الخصومة، وإنما كان يرى في هذه المعارك الأدبية والفكرية إثراء للساحة الأدبية والثقافية.

ولكن حين رأى توفيق الحكيم أن صديقه طه حسين يظن به الظنون، بادر إلى مصالحته، قائلاً له: «إن أكبر سلطة في الدولة لا تستطيع أن تفسد الصداقة بيننا»، ثم أرسل له برقية قال فيها:

لا دخل لما بيننا من خلافات في الرأي والفكر بأي أمور سياسية، وإنه لم يخطر ببالي مطلقًا حينما لم أدعك تكتب مقدمة أهل الكهف أن ذلك يدخل في باب الخصومة، إأنني أكن لك ودًّا وحبًّا بالغين.

ولم يكد هذا العام ينقضي إلا وتجددت الخلافات بينهما، هذه المرة بسبب مسرحية «شهر زاد» التي كتبها توفيق الحكيم وكتب عنها طه حسين كعادته، وهذه المرة كان رأيه سلبيًّا، فقال: «إن مؤلفها توفيق الحكيم في حاجة إلى مزيد من القراءة الفلسفية»، وهو ما استدعى ردًّا حاميًا من توفيق الحكيم فأرسل خطابًا لاذعًا لصديقه أخبره فيه أنه يقرأ في الفلسفة أكثر منه، وأنه ليس بحاجة إلى نصائحه.

أغضبت هذه الرسالة العميد بشدة فأعلن مقاطعته التامة للحكيم، وأن شخصه لم يعد يعنيه بعد الآن، وردَّ له مجموعة من أسطوانات بيتهوفن سبق أن استعارها منه.

وهي الرسالة التي سرعان ما ندم عليها الحكيم كعادته، ولما هدأ أيقن أنه أخطأ في كلامه الجارح لصديق عُمره ومرآة أدبه، فأراد معالجة فِعلته بخطاب آخر حمل اعتذارًا حارًّا وتضرع لطلب العفو لدرجة أن الحكيم طلب من صديقه أن يعفو عنه، وإلا فسيتخلى عن الفن، وكل سيرته الأدبية!

يقول توفيق في هذه الرسالة:

إني أتألم بحق، بعد التفكير اتضح لي أني مخطئ، كان عليَّ، على الأقل أن أستشيرك قبل أن أنشر كتبي.. ما رأيك في تصرفي؟
الذي يؤنبني أكثر هو ما أبديت من لطف في العفو عني بكل هذا الكرم.. إنك في الحقيقة فنان عظيم في أعماقك، هذا مؤكد، وأنا أعترف أني لا أتمتع بمثل هذه الروح، أنا لست جديرًا بالفن ولا بك.
والآن ها هو قراري: إذا ظللت غاضبًا مني فسأتخلى عن الفن، وعن كل سيرتي الأدبية… ووقع في الخاتمة: المخلص توفيق الحكيم.

صوَّر سيد قطب هذه الواقعة بين الرجلين في كتابه «شخصيات وكتب»، فقال:

هناك ملابسات شخصية أحاطت بالموضوع، ولكن بقي وراء هذه الملابسات شيء ثابت، هو طبيعة الدكتور طه وطبيعة توفيق الحكيم، فالدكتور أوفر حظًّا من الحياة الواقعية وتوفيق أوفر حظًّا من التأمل والتجريد، والدكتور معني بالنفوس البشرية كما هي.

ومن هنا أعجب الدكتور طه بأهل الكهف لأن مخلوقاتها من صنع الطبيعة، وهنا وقعت الجفوة بين الدكتور وشهر زاد، فشهر زاد هي قصة توفيق الحكيم الكاملة -على طريقته- هي قصة الذهن الإنساني المجرد من أوشاج البشرية، هي قصة القلق الفكري والشك الذهني.

القصر المسحور

عقب انقشاع هذه الغيوم، عادت المياه إلى مجاريها بين العملاقين، ولم يتوقف الحكيم عن استشارة حسين قبل إعداد كتبه، مثلما حدث في كتابه «محمد» والذي تضمَّن سيرة النبي، وفي النهاية تُوِّج شهر العسل بينهما بكتاب «القصر المسحور» الذي ألفاه معًا.

بدأت قصة الكتاب حينما ذهبا معًا للاصطياف عام 1936م في قرية فرنسية تُدعي «سالانش»، والتي تقع على جبال الألب، أقاما معًا في فندق واحد، ومارسا العديد من الأنشطة ومرَّا بالكثير من المواقف التي حفزتهما على كتابة «القصر المسحور»، والذي كانت بطلته شهر زاد، التي كانت ستُفرق بينهما للأبد ذات يوم.

صدر الكتاب في العام التالي مباشرة بالرغم من تخوفات طه حسين من التجربة، بعكس توفيق الحكيم الذين كان أشد المتحمسين لهذه التجربة حتى إنه أهدى نسخة منه إلى كوكب الشرق أم كلثوم، والتي طربت له بشدة، وكتبت إلى العميد رسالة شاكرة قالت فيها:

سيدي الأستاذ الجليل طه بك حسين.. حظيت بمؤلفكم القصر المسحور، الذي تفضلتم بإهدائه إليَّ، فأكبرت منكم ذلك العطف الكريم، ولا شك عندي في أنني سأجد بين طياته غذاءً يضاعف شكري ويحفظه لكم في نفسي أجمل الذكريات، أدامكم الله منارةً للعلم والأدب.

وفي عام 1985م، أي قبل وفاته بعامين، علَّق الحكيم على هذه التجربة في حوارٍ مع إقبال فهمي، الصحفية بجريدة «الحياة الأسبوعية»، قائلًا:

كنا نريد اللهو، وكانت شخصية شهر زاد، التي طغت على الشخصيات الأدبية في الأدب العربي، موضع هذا اللهو. إن شهر زاد تعد أشهر الشهيرات ولا أحد ينكر معرفتها، لهذا أردنا اللهو بها، ولكن خلال تبادلنا الرسائل، اكتشفنا أنها هي التي سخرت منا، سخرت مني ومن طه حسين، ومن كل الأدباء.

وفي العام 1950م، وبينما كان العميد وزيرًا للمعارف، رشَّح الحكيم للعمل في وظيفة مدير إدارة الكتب، وهو الترشيح الذي لم يرق لمصطفى النحاس رئيس الوزراء بسبب هجوم الحكيم عليه.

وفي جلسة لمجلس الوزراء الوفدي، عرض طه حسين رغبته في ترشيح الحكيم رئيسًا لدار الكتب، فوجم الوزراء وتوقعوا أن يثور النحاس على وزيره، فكيف له أن يجرؤ على ترشيح كاتبٍ هاجمه أكثر من مرة في الصحف، ويطالب بترقيته من موظف درجة ثالثة إلى مدير عام بدرجة وكيل وزارة، ولكن فوجئ الوزراء الواجمون بموافقة النحاس على اقتراح طه حسين دون مقاومة احترامًا لمكانة الرجل.

وفي العام 1951م قرَّر العميد أن يقضي الصيف في أوروبا كعادته، ولم يستطع الحكيم أن يلحق به هذه المرة، فودَّعه في الميناء، ومن أوروبا أرسل له طه حسين خطابًا قال فيه:

قد مضت أيام كثيرة طويلة منذ افترقنا، ولكنا نذكرك فنطيل ذكرك، وأذكرك حين أخلو إلى نفسي فأطيل ذكرك أيضًا، فأنت بعيد قريب.

أنت كاتب نابه.. بل نابغة

فور انطلاق ثورة يوليو كان طه حسين في إيطاليا فراسل صديقه قائلاً:

كم كنت أحب أن أكون معك في مصر، أو أن تكون معي في أوروبا أثناء هذه الأيام التي تنشر فيها مصر تاريخها كتابًا وتطوي كتابًا. خيل لي أن للأدب حقه في هذه الثورة الرائعة هيأها له قبل أن تكون، وسيثورها بعد أن كانت. نفسي ليست مستقرة. جثماني في إيطاليا ونفسي في مصر.

ويرسل الحكيم ردًّا على صديقه، قائلًا:

إن أحداث مصر قد شغلتنا عن الحر والشعور بوطأته، وهي أحداث أجل من أن توصف في خطاب، بل إني أرى الأدب عاجزًا عن تسجيل تلاحقها السريع.. إن كل شيء في رأسي ونفسي مضطرب وثائر، وإني لأفكر في كل شيء كما لو كنت أنا المنوط به حل الأمور، فأنا أعيش حياة بلادي الآن كما يعيشها المواطن الصالح.. أعيشها كإنسان وكمصري، وأرجو أن أعيشها مرة أخرى كأديب عندما يكتمل لي استيعاب أكثر نواحيها.

وعندما انتُخب توفيق الحكيم عضوًا في مجمع اللغة العربية عام 1954م، كان أكثر المُرحبين بهذه الخطوة هو رئيس المجمع، حينها، طه حسين، وحرص على استقبال الحكيم على باب المجمع، خلافًا للمعتاد بأن يكون المُستقِبل هو صاحب ترشيح الحكيم للمنصب وكان الكاتب أحمد أمين.

وكتب له بهذه المناسبة قائلاً:

أنت كاتب نابه، بل أنت كاتب نابغة ما في ذلك شك، قد اجتمع الناس على إكبار فنك، واجتمع على إكباره النقاد منهم وغير النقاد، وقد اجتمع العرب كلهم على إكبار فنك، والإعجاب به، وقد تجاوزت لا أقول حدود وطنك، بل حدود العالم العربي.

وبالرغم من هذا الترحيب، فإن طه حسين لم يتخلَّ عن طبيعته النقدية فقيَّم تجربة صديقه بقوله:

مضيت فيما مضيت فيه من كتبك التي لا أجد وسيلة إلى إحصائها، وأكاد أعتقد أنك لو استأنيت بنفسك شيئًا، وأنتجت في شيء من الإبطاء، لأعطيتها آيات تشبه في جودتها وقوتها وبراعتها واستعدادها للبقاء هذين الأثرين: أهل الكهف، وعودة الروح.

يُذكر أنه بعد هذا الحوار بعامٍ كامل، زار يوسف السباعي، وزير الثقافة، الحكيم في مكتبه وعرض عليه أن يكون رئيسًا لأول «نادي قصة» يقام تحت رعاية حكومية. رفض  توفيق الحكيم فورًا لأنه لا يصح أن تُشكل مصر نادي قصة لا يكون طه حسين رئيسه.

وعندما تلقَّى دعوة لزيارة الاتحاد السوفيتي لحضور مهرجان أدبي اشترط أن يُصاحبه في الزيارة صديقه طه حسين، ولما رفضوا لم يذهب.

وفي حوارٍ معه اعتبر الحكيم أن طه حسين يستحق جائزة نوبل عن جدارة، فقال:

لو تُرك لي الخيار لرشحت دكتور طه حسين لهذه الجائزة، فهو في نظري يستحق نوبل لاعتبارات كثيرة، منها أنه رجل ضرير استطاع أن يخرج من البيئة الدينية التي نشأ فيها إلى أوروبا، ويعمق تفكيره ويقيم جسرًا ثقافيًّا بين الأزهر والسوربون، فلقد كان يتوجب على الغرب أن يقدر هذا الجسر فضلًا عن الصرح الفكري الذي شيده إنسان ضرير، ثم إن طه حسين كان مناضلًا، لقد جاهد من وجهة نظر إنسانية ضد الظلام وأبدع، أجل كان يستحق فعلًا جائزة نوبل للآداب.

وفي أكتوبر من العام 1973م، رحل العميد في ظل انشغال المصريين بمعارك الحرب، ورغم ذلك لم ينسَ توفيق الحكيم أن يُودِّع صديقه الراحل بكلمة نشرتها الأهرام يوم 29 أكتوبر 1973، جعل عنوانها «فارق الحياة بعد أن فارق اليأس روح مصر».

رثى الحكيم في كلمته صديق عمره قائلاً:

فجيعة الأدب العربي في عميده العظيم، وفجيعتي أكبر في أخ قديم كريم، وإذا كان اللسان العربي منذ نطق أدبًا سوف ينطق إلى آخر الدهر باسم طه حسين وفضله على لغة العرب، فإن لسان القلب لن يكف عن ترديد ذكراه ما بقيت على قيد الحياة، فقد جمعتنا أجمل أيام العمر كما جمعنا الفكر على صفحات كتاب.

تحكي سوزان طه حسين في كتابها «معك»، أن جامعة القاهرة أقامت مأتمًا رهيبًا للعميد طه حسين، ولم تجد عبارة تُودِّع بها الرجل إلا عنوان مقالة صديق عُمره فكُتبت على اللافتة التي مُدَّت فوق النعش الذي أوى جثمان العميد، معلنة نوعًا نادرًا من الصداقة ودَّعت فيه كلمات الحكيم طه حسين حتى باب قبره.