إسلامية المعرفة ووحدانية المصدر، يعد هذا المشروع «مقدمة منهجية معرفية لبديل حضاري عالمي لا يستهدف إنقاذ المسلمين وحدهم ولكن يستهدف إنقاذ العالم كله».

بهذه العبارة وصف الدكتور طه جابر العلواني* مشروع إسلامية المعرفة في كتابه الموسوم بـ «إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم»، وذلك في محاولته المهمة لرسم ملامح مشروع إسلامية المعرفة، لا باعتباره منهج تنظير فكري وإنما مشروع فكري متكامل يهدف إلى إعادة تشكيل العقلية المسلمة، بل وفي سبيل تقديم مشروع ومنهجية علمية للعالم .

في ورقات قليلة جمع د/العلواني أفكارًا متناثرة من عديد المصادر والمراجع عن دور المسلمين في إعادة أسلمة المعرفة، لا تقديم معرفة إسلامية. أفكار تباينت في شكلها بين مناهج عامة وتنظير للمشروع، وبين خطوات جزئية افتقرت لهذا التنظير وهذه النظرة الشمولية، فكان الكتابُ -الصغير حجمًا والكبير عمقًا- محاولة منه لنظم عِقد من الأفكار في إطار منهجي كطور من أطوار المشروع .


حقيقة الإسلامية

يعرض العلواني أول أمره إلى قاعدة مؤصَّلة لمنهج الإسلامية وهو الجمع بين قراءة الكتابين «الوحي المسطور» و«الكون المنظور»؛ جمعًا لا يتحيّز بالمنهج إلى النظرة اللاهوتية ولا النظرة العلمية النفعية، ولا يقتضىي تلفيقًا معوجًا بين الكتابين يلوي أعناق الحقائق ليلين كل واحدة للأخرى، لكنه يُشير إلى عِظم الإشكال الواقع بسبب الفصل بين القراءتين، وأن منهج إسلامية المعرفة واقع أصلاً في كتاب الله؛ حيث إن غايته التنزّل من الكلي للجزئي ومن المطلق للنسبي، والكون الذي بقراءته صعود من النسبي للمطلق ومن الجزئي للكلي، ويؤكد أن كون إسلامية المعرفة في أنها رؤية معرفية ومنهج في التعامل مع المعرفة ومصادرها، وليست حقلاً معرفيًا جديدًا.

أما معالم المنهج فقد حُدّدت هنا بعدة خطوات أو محاور أساسية العمل عليها يشكّل هذا المنهج المعرفي، وأولها تفعيل قواعد العقدة معرفيًا والخروج بها من نسق القواعد العقلية والحقائق المخاطب بها الفرد وحده، إلى كونها قيمة إليها ترجع كل الفروع المعرفية. فوحدانية الإله وخالقيته أساس ينطلق منه العمل العلمي ويشمل جنباته، ثم تكون ضرورة بناء «المنهجية المعرفية القرآنية» التي كانت كافية قبلاً لبناء العقلية المسلمة، ثم لما باعدت الأزمان بيننا وبينها صارت صياغاتها بمثابة إعادة الكشف عنها من جديد، كذا يتشابه هذا المعلم مع معلم «الكشف عن الأنساق المعرفية التي سادت تاريخ الإسلام»، ودوّنت من خلالها الكتب والعلوم، ثم إعادة تمحيصها والنظر فيما كان منها متسقًا مع حقائق الاعتقاد والبناء المعرفي القرآني ومنطلقًا منه، فما كان كذلك فيُقبل، وما لم يكن فيُرد.

يعرّج العلواني إلى إعادة التعامل مع الوحي بمنظور جديد؛ فبناء منهجية جديدة في التعامل مع الكتاب والسنة مَعْلَم أساسي من معالم منهج إسلامية المعرفة، وهنا ينتقد العلواني أسلوبين في التعامل مع الوحي؛ الأول في التعامل مع القرآن باعتباره نصًا لغويًا وحسب، فيكشف أسراره بالكشف عن مرادفات معانيه وجماليات أساليبه، والوقوف عند هذا الحد تفسيرًا وتوليدًا للعلوم. والآخر في التعامل مع السنة بمنهج التقليد لا التأسّي والاتباع، فكون السنة المفسر الأعظم والملزم للقرآن، كان التعامل معها هو فهم لحقائق الوحي المجملة، بل وإدراك مشتمل للتطبيقات النبوية، وهنا لا يجب التوقف على التقليد للأعمال، بل الفهم لمَ كانت هذه الأعمال تحديدًا، والإلمام بالظروف والبواعث التي أدّت لهذه الصورة بالتحديد من التطبيق لحقائق القرآن .


التعامل مع التراث

يفرد العلواني حديثًا مهمًا عن قضية التراث والتعامل معه بشقيه الإسلامي والغربي، ففي التعامل مع التراث الإسلامي يقرر أنه يجب الخروج من الدوائر الثلاث التي يغلبُ التعامل من خلالها وهي: دائرة القبول التام، أو الرفض التام، أو الانتقاء العشوائي دون منهجية. ويشير إلى ضرورة وضع آلية للانتقاء من التراث الإسلامي، فضلاً عن ضرورة إيجاد آلية أخرى نركن من خلالها إلى الرفض أو الانتقاء والتوفيق مع التراث العلمي الغربي، فتخرج من دائرة القبول والتماهي مع ذلك التراث بفلسفاته المختلفة، فضلاً عن دائرة الرفض الأعمى لكل منجزاته العملية المهمة خاصة في حقل العلوم التجريبية.

في المجمل ترى أهمية الحديث عن أسلمة المعرفة في كونها تقدّم «التوحيد» كقيمةٍ عليا سابقة على المنهجية العلمية، ففي الكتاب المنظور هناك وحدانية الخالق، وفي الكتاب المسطور هناك وحدانية المصدر، كون المعارف مصدرها واحد فلا يمكن أن تتعارض بين معارف لاهوتية ومعارف علمية تجريبية، بل كلها إما حقائق كاشفة للوحدانية أو خادمة لها.

إننا نلاحظ أن الأفكار في الكتاب مجملة وتنظيرية لحد كبير، كما أنها تفتقر إلى نماذج تطبيقية وخطوات إجرائية واضحة دقيقة لكل ما عرضه العلواني، لكن هذه السردية التنظيرية لا تخرجه عن أهميته؛ فالكتاب يقدم للمعرفة بالعموم وللمسلمين بالخصوص حلاً للخروج من الواقع الفكري المأزوم منذ عقود في العالم، فقد شهدنا انهيار السرديات التفسيرية الكبرى، بداية من انهيار النظرة اللاهوتية، ثم انهيار النظرية الماركسية، وصولاً للحداثة وما بعدها، ومن ثم وجب على المسلمين أن يقدموا نظرية تفسيرية جديدة تتسم بالجزالة كونها تتكئ على الأصالة.


*د/طه جابر العلواني رحمه الله: ماجستير الشريعة والقانون جامعة الأزهر 1968م، حاصل على الدكتوراه في أصول الفقه جامعة الأزهر 1973، ترأس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بأمريكا، كان عضوًا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وتولى رئاسة المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية.