تخيل بيتاً مغلقًا على من فيه، محاطًا بعشرات الأفراد المدججين بالأسلحة يخوضون معركةً ضروسًا فيما بينهم؛ ما عساه يكون شعور أصحاب البيت؟ وما عساهم يفعلون إذا ما أُتيحت لهم فرصة أن يروضوا المعركة الدائرة؟ وهل بالإمكان أن يثقوا في المتحاربين حتى وإن وضعوا السلاح؟

هذه الصورة التمثيلية ستساعد على فهم أطروحة «طلال أسد» المقدمة في كتابه «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»[1]. وطلال أسد أستاذ متخصص في الأنثربولوجيا بجامعة مدينة نيويورك الأمريكية، وُلِد في السعودية وله اسهامات لافتة ومهمة في مجاله، تحديداً فيما يخص أنثربولوجيا الدين [2]. ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: العلماني، والعلمانية، والعلمنة؛ وتسعى هذه المفاهيم جميعها إلى محاولة تقديم رؤية أنثربولوجية للعلمانية.


العلماني

يبدأ طلال أسد بتوضيح موضوع علم الأنثربولوجيا الذي على أساسه سيبدأ بحثه، فيرى أن موضوع الأنثربولوجيا ليس العمل الميداني، وإنما بشكل أوسع مقارنة المفاهيم والتمثيلات المتضمنة داخل المجتمعات المختلفة، ومحاولة كشف النقاب عن الآليات التي تظهر بها هذه المفاهيم في الحياة العملية للأفراد. وقد رأى أن هذه المفاهيم ليست بُنى جوهرية وثابتة ومستقلة، مما قاده لاستتباع «منهج» معين اتخذ طريق «علم الأنساب» كما قدمه نيتشه وطوره فوكو بعد ذلك؛ لأن هذا «المنهج» يسعى لتتبع الخيوط التي تشكل حاضر معين. ولما كان الأمر على هذا النحو، فقد بدأ طلال أسد البحث ليس في «العلمانية كمذهب»، وإنما في «العلماني» كمقولة معرفية [3] تتميّز عن غيرها ويمكن عليها إنشاء مفاهيم وممارسات أخرى؛ أو بمعنى آخر، بدأ بمحاولة النظر في البنية المفاهيمية التي مكَّـنت العلمانية كمذهب وممارسة من الظهور. وبما أن «العلماني والعلمانية أصبحا البحر الذي يسبح فيه الأفراد المعاصرون»، فسيلجأ طلال أسد في محاولة تتبع «العلماني» إلى سبل غير مباشرة؛ فمن الصعب مقاربة الموضوع مباشرة نظرًا لشدة وطأته على العقل المعاصر.

من هنا، بدأ أسد بتحديد أن «العلماني كمقولة ومفهوم» لا كجوهر ثابت، فهو عبارة عن مجموعة من المفاهيم التي تداخلت وتضافرت بشكل معين لتجمع سلوكيات ومعارف ومشاعر معينة في الحياة الحديثة. ولفهم العلماني، ذهب أسد باحثًا في مجموعة مفاهيم اشتبك معها العلمانيّ وأعاد تنظيمها واستخدامها، وهذه المفاهيم هي: الأسطورة، المقدس/المدنس، الطبيعة، القدرة على التصرف، الألم، التعذيب، القسوة، والإنسان. فعلى سبيل المثال، رأى أنه مع بدايات عصر الحداثة وقع تغير في فهم الطبيعة كمفهوم؛ إذ أصبحت تُفهم على أنها كيان يقبل التغيير ويتميز بالتجانس ويخضع للقواعد الميكانيكية، وكل ما يتعدى هذه الصفات أصبح يُلحق بما يُسمى «ما فوق/وراء الطبيعة»؛ وهذا العالم الخارق للطبيعة هو عالم يعده الكثيرون امتدادًا خياليًا للعالم الطبيعي الواقعي يتميّز بأحداث غير منطقية، وبمخلوقات لا وجود واقعي لها، واُطلق على هذا العالم الخارق لفظة «أسطوري». ثم أُلحق هذا المفهوم الجديد بفهوم آخر جديد عن «المقدس/المدنس».

فبينما كان المقدس قديماً لا يتمتع بمجاله الخاص، وإنما أُطلق على عدة أماكن وأزمنة يُحرَّم انتهاكها ولكل منها صفة فريدة ويتطلب كل منها كلمات بعينها، تُعبر عنها بما يليق بها، أصبح المقدس في القرن التاسع عشر مُلحقاً بجوهر ثابت سُمى بالديني. ثم مع الوقت، وبتحول الاهتمام نحو «العالم الدنيوي الطبيعي»، أُلحقت كلمة مقدس بالتعبيرات الدائرة حول الدولة الحديثة والمواطن الحديث. فبينما كان المقدس قديمًا يتمتع بقوة سامية تفرض نفسها على شيء بعينه لتجعله من المحرمات وتمنع انتهاكه، أصبح في القرن التاسع عشر مجرد صفة للأشياء. وبهذا، يُمكن فهم لمَ عَدّ سيغموند فرويد الاعتقاد بالمحرمات والخرافات عرَضا من أعراض الكبت يلزم التحرر منه. كما أصبحت هذه الشبكة المفاهيمية من «الطبيعة، الأسطورة، المقدس والمدنس» لا دور حقيقي لها إلا في إطار الفن والأدب، وبدوره تغير مفهوم «الوحي»؛ فبينما كان الكتاب المقدس يُعد ضربًا من الوحي الإلهي يترك كبير الأثر في حواس متلقيه ومشاعره على حدٍ سواء، أصبح ضربًا من المعاني البشرية يتطلب تحليلاً لغوياً وسياقياً بمعزلٍ عن الحواس.

ومن المفاهيم المهمة في تشكّل «العلماني» مفهوم القدرة على التصرف، فقد نُظر إلى قدرة الفرد على التصرف بالاعتماد على تزوده بمسئولية القدرة على الفعل، أو بمعنى آخر: أصبح على الشخص لكي يتصرف/يفعل أن يُعزى إلى فعله سبب معين، فالذات العلمانية يُنظر إليها على أنها تتمتع بالقدرة على التقدم في اتجاه تاريخي واحد راغبةً فيه، ويتمثل هذا الاتجاه في زيادة تمكين الفرد وتخفيف الألم عنه، وأصبح على إثر هذا يُنظر إلى من يتألم وفقَ اعتبارين اثنين: إما أن هذا الشخص فاعلاً للألم، أو أنه متلقٍ سلبي له. ويؤدي هذان المفهومان إلى فهم كيفية ظهور «مؤسسة»أو «كيان» ما يسعى نحو تمكين الأفراد، أو نحو إدانتهم على اعتبار أنهم إما فاعلين أو مفعول بهم.

وعلى هذا النحو استتبع طلال أسد استعراض باقي المفاهيم الأخرى المتعلقة بالعلماني كمقولة معرفية، ومن هذه المفاهيم مفهوم التعذيب. ويرى أسد أن تصادم الغرب المُتستَعمِر مع مستعمراته يبرز ثنائية مهمة: فمن جهة، جرَّم الضمير العلماني أي محاولة للتعذيب داخل حدود دولته، ولكن من أخرى فقد مُورِست أشكال مختلفة من التعذيب والقسوة ضد المستعمرات؛ فكيف حدث هذا؟

يرى طلال أسد أن هذا الأمر نتج عن الفكرة القائلة بـ«ضرورة أنسنة العالم» بانتزاع الوحشية والخرافة منه، وعلى هذا الأساس مُيِّز بين نوعين من المعاناة: «اللاإنسانية» وهي غير الضرورية والتي يجب شجبها، و«الضرورية» التي لا مفر منها إذا أراد العالم أن يتحلى بالإنسانية. وتتضافر هذه الفكرة مع المفهوم الجديد حول «الأسطورة»، فبدأ يُنظر إلى سكان المستعمرات الذين يعبرون عن معاناتهم الناتجة عن فرض المتسعمر عليهم التخلي عن معتقداتهم بعين جديدة؛ فهؤلاء السكان «غير متحضرين» لأنهم يتمسكون «بالمعتقدات». هذه الطريقة فتحت الباب أمام رؤية تفيد بأن: وحده الفرد دائم التشكك في معتقداته ومعتقدات الآخرين هو من يمكنه التحرر دون معاناة، أما من يتمسك بمعتقداته باستماتة فهو صاحب وعي مزيف يمكن حتى للقوة أن تتدخل ضده.


العلمانية

هذه الشبكة المفاهيمية والرؤى الخارجة من رحم «العلماني» مكَّـنت مذهب العلمانية السياسي من الممارسة، ويوضح طلال أسد ذلك من خلال تحليله للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه تعبيرا عن العلمانية، التي تستبطن الشبكة المفاهيمية آنفة الذكر. فيذكر أسد أن «جوهر» الإنسان أصبح يُحدد قانونيا في هذا الإعلان؛ فالإنسان كائن سيادي ومالك لذاته، وليس مجرد كائن يعي هُويته، لكن العلمانية لا تعترف بالإنسان إلا إذا كان مواطناً في دولة يمكنها تقرير الحق والقانون؛ فالدولة وحدها هي المصدر الذي يعترف للإنسان بأنه مواطن، ثم على هذه الصفة الأخيرة يمكن خلع مبادئ حقوق الإنسان العلمانية [4]. ولتوضيح هذه النقطة أورد أسد مثالين على ما أسماه «خطاب الخلاص»؛ أي تلك الخطابات التي حاولت تخليص جماعة بعينها من اضطهاد يُمارس ضدهم، فأما الخطاب الأول فهو خطاب مالكوم إكس الذي انتقد فيه حركة الحقوق المدنية الأمريكية في الستينيات، والآخر هو خطاب مارتن لوثر كنغ.

فخطاب مالكوم إكس اتركز على أن حقوق الإنسان تسمو على سيادة الدولة الأمريكية؛ فهو يرى أن الحقوق المدنية تصوغها الولايات المتحدة وبالتالي لا يمكنها أن تُحرر الأمريكيين الأفارقة، بينما حقوق الإنسان كما يراها الإعلان العالمي تفتح الباب أم كل فرص التحرر من السيطرة الأمريكية، وعليه فيجب النضال من أجل حقوق الإنسان، وأن تُرفع القضية للأمم المتحدة [5]. هنا، يرى طلال أسد أن مالكوم إكس يرى أن العدالة قانونية بطبعها، وأنها تتحقق في مصدر سيادي آخر غير الولايات المتحدة الأمريكية وهو هنا الأمم المتحدة. إن هذا الخطاب يعكس أن الإنسان بمنأىً عن جهة سيادية تُمثله يُـصبح كيانًا مجردًا بلا حقوق، ويعزي طلال أسد فشل خطاب مالكوم إكس إلى أنه قد غفل قوة أمريكا مما ينقلنا إلى خطاب مارتن لوثر كنغ الذي صاغه حول «اللغة التكهنية الأمريكية» فلأمريكا قصة «قومية» تتحدد بقصة فرار البيوريتانيين من الاضطهاد في بريطانيا نحو أمريكا، وبقصة انشاء الثلاثين مستعمرة بسيادة واحدة ضد استعمار بريطانيا، بالإضافة إلى التقاليد المسيحية-اليهودية والتقاليد المعروفة بالأمريإنديانز؛ وتتشارك هذه القصة في تعريف معين للبشر وهم أي إنسان باستثناء المستبد والوثني والعبد [6]. وقد مثل خطاب مارتن لوثر هذه القصة حين دعى إلى أنه حان الوقت لتحقيق هدف أمريكا وهو الحرية، كما أكد أنه مهما يكن فلا يجب تخطي أمريكا إلى ما سواها وأنه يجب على الأفارقة أن يقفوا بجوار وطنهم؛ لأن مصيرهم مرتبط بمصيره، هنا لقى خطاب لوثر حفاوةً لم تتوفر لخطاب مالكوم، ببساطة لأنه وعى بقوة الدولة التي يحيا في كنفها.

ومن تحليله للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولخطابات التحرر، ولهيمنة أمريكا، ثم لتصور أوروبا عن نفسها، وللدولة القومية الحديثة يخرج طلال أسد بنتيجة أن العلمانية تعد مذهباً قائماً على اقتراضات العلماني. وتفتح هذه الرؤية سؤالاً آخر: هل يتضمن التحول من النظام السياسي الديني إلى نظام تحكمه دولة علمانية ببساطة التخلي عن سلطة الديني لمصلحة القانون؟


العلمنة

حاول طلال اسد الإجابة على هذا التساؤل من خلال عرضه للعلمنة التي شهدتها مصر، وتحديداً من خلال اكتشاف العوامل التي تضمنتها عملية القيام بتغيرات مفاهيمية لجعل العلمانية قابلة للتصور. كما رأينا في العرض السابق، فالعلمانية تتداخل مع ممارسات الدولة الحديثة، وكان لزاماً على طلال أسد إذن أن ينظر في كيفية بناء الدولة وزيادة سلطتها إذا ما أراد فهم كيفية دخول العلمانية إلى مصر، وقد رأى أن الشريعة الإسلامية تحولت بشكل جذري عندما أصبحت مجموعة من القواعد القانونية التي تُعرّف الحالة القانونية للشخص؛ فقد أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من حكم الدولة، لكن بعد أن مرت بعملية تعديل، فأصبح الفرد يكتسبُ حقوقه من خلال وجوده في مجالات مختلفة تتقيد بنصوص القانون الذي يمثل الدولة. وأهم ما التفت إليه طلال أسد هنا هو مجال الأسرة.

يرى فوكو أن الدولة الحديثة توجه اهتمامها المعرفي نحو «السكان»، وهنا تظهر الأسرة على أنها وحدة أولية يتلقى فيها الإنسان تشكلاته الأولى، وهذا المجال «الأسري» هو ما تتدخل فيه الدولة الحديثة، ويأتي طلال أسد بمثال كاشف في هذا الصدد وهو تقرير الإمام محمد عبده عام 1899م حول إصلاح المحاكم الشرعية [7]. فيرى أسد أن هذا التقرير اهتم فيه عبده بدور المحاكم الشرعية فيما أصبح يطلق عليه «الأسرة»، وقد كتب محمد عبده أن هذه المحاكم تدخل بين المرء وزوجه وبين الوصيِّ والموصى به، وبين الإخوة، فليس هناك من حق يتعلق بنسيب أو قريب إلا ولدى المحاكم حق النظر والبتّ فيه؛ وبهذا يتحول هذا المجال الاجتماعي إلى مجال تتدخل فيه إدارة الدولة الحديثة المعبئة بـ«العلماني» لينخرط في تشكلات الإنسان الأولى، وقد تدخل قاسم أمين بعد ذلك داعيًا إلى تحويل الأسرة إلى «عصرية» تتألف من زواج لا مجال فيه لتعدد الزوجات، مما جعل الشريعة موضع هجوم لديه ولدى كثير ممن أُطلق «المصلحين».

وبالإضافة إلى تعاظم دور الدولة السيادي، وسلطة الأسرة الأخلاقية، أُضيف إلى ذلك مجال آخر وهو حرية التجارة وتغلغل رأس المال. كل هذه التغيرات أدت في الأخير إلى تقبل الفصل بين «القانون» و«الأخلاق»: فالقانون هو مجال طاعة سيادة المدينة/الدولة، والأخلاق هي مجال السيادة الفردية، وقد كان هذا الانفصال مفيداً للدولة التي تحاول خلق مجال قانوني تسعى من خلاله إلى تدريب المواطنين على أخلاقيات عامة جديدة، وبهذا خُلق مجال مفاهيمي وعملي لتقبل العلمنة في مصر.

بالطبع، إن كتاباً كهذا حري به أن يقرأ مرات عدة، ولا يمكن عرض كل ما جاء فيه في مقال مختصر، ويتبقى إيضاح الصورة التمثيلية الواردة في أول المقال: فالبيت هو العلمانية كمذهب سياسي، والمتحاربين هم كل من لا يعتنق هذا المذهب أو مقولاته حتى وإن كان فردًا عاديًا لا يسعى للعنف أو الإطاحة بالعلمانية، والمعركة هي صورة متخيلة يخلقها «العلماني كمقولة معرفية» تجعل من السعي نحو ترويض هؤلاء و«أنسنتهم» امراً ممكناً، بل ضرورياً.


[1] طلال أسد، «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»، ترجمة دينا حسن فرختو، (بيروت، جسور للترجمة والنشر، 2016)، 400 صفحة.[2] من أهم اسهاماته كتاباه: «عرب الكبابيش»، و«جينياولجيا الدين»، كما أسس مع آخرين مموعة للراءة خرج منها جريدة The Review of Middle East Studies والتي لعبت دوراً هاماً في دراسات الاستشراق والبحث الميداني. وقد درَّس في عديد من الجامعات منها: جامعة الخرطوم، جامعة هال، وجامعة نيويورك. ويعد الآن واحداً من أهم وأبرز علماء الأنثربولوجيا حول العالم. انظر: https://www.aub.edu.lb/islam-today/Pages/AboutTalalAsad.aspx[3] الكلمة المستخدمة في النص الانكليزي هي: Category، وقد تُرجمت في الكتاب العربي إلى «فئة ابستيمية»، لكن كلمة “مقولة” هي الكلمة العربية المستخدمة في “مبحث نظرية المعرفة” لترجمة هذه الكلمة. انظر: Talal Asad, “Formations of the secular: Christianity, Islam, Modernity”, (California: Stanford University Press, 2003), p.1 [4] هنا تمثل الدولة شكلاً من أشكال مفهوميْ «التمكين» و«الحد من الألم».[5] Malcolm X, “the ballot or the bullet”, in “Malcolm X speaks”, ed. George Breitman (New York: Grove Weidenfeld, 1990) pp. 34-35 [6] George Shulman, “American Political Culture, Prophetic Narration, and Toni Morrison’s Beloved”, Political Theory, vol. 24, no. 2, (1996), p. 295 [7] «تقرير إصلاح المحاكم الشرعية»، في: «الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده»، ج2، صـ 97-217