تعاملت السينما، على مدى السنوات القليلة الماضية، مع قضية اللاجئين كمادة جاذبة، حيث يتم «استخدامهم» أو استخدام مآسيهم بصورة أو أخرى، فبات من الصعب الحديث عن هذه النوعية من الأفلام، دون أحكام عاطفية، لكن قطعا النوايا الطيبة وحدها – إن كانت موجودة – لا تصنع فيلمًا جيدًا.

العديد من الأفلام السينمائية والوثائقية تناولت قضايا اللاجئين في السنوات الماضية، مثل الفيلم السنغالي «الزورق» من إنتاج 2012، وإخراج «موسي توراي»، وفيلم «The Land Between» للمخرج ديفيد فيديلي من إنتاج 2014، وفيلم «أوديسة عراقية» 2014 للمخرج العراقي«سمير جمال الدين»، فيلم «ملكات سوريا» إخراج ياسمين فدي وأيضا من إنتاج 2014، كما يُنتظر عرض فيلم «نهاية سعيدة» في 2017 وهو أحدث أفلام المخرج «مايكل هانكه»، والذي صرح بأنه يتناول اللاجئين في أوروبا.

كما شهدت فعاليات «بانوراما الفيلم الأوروبي» في دورتها التاسعة، والمقامة حاليا بالقاهرة، عرض كل من؛ الفيلم الوثائقي الإيطالي «Fuocoammare»، أو «حريق في البحر»، الفائز بجائزة «الدب الذهبي» في مهرجان برلين، والمرشح لتمثيل إيطاليا في جائزة الأوسكار لعام 2017. وفيلم «قصة حب سورية»، الحائز على جائزة مهرجان «شيفيلد» للفيلم الوثائقي، من إخراج البريطاني «شون ماكليستر». وهما من الأفلام التي تناولت قضية اللاجئين، نستعرضهما في هذا التقرير.


حريق في البحر

الفيلم الإيطالي «حريق في البحر»

الفيلم الإيطالي «حريق في البحر» للمخرج «جيانفرانكو روزي» واحد من أعذب الأفلام التي تناولت المهاجرين عبر البحر، وهو يشير إلى أغنية بنفس الاسم، كذلك ربما يشير إلى الحادثة المروعة في عام 2013،حين غرق قارب يحمل لاجئين من إريتريا والصومال، بعد احتراقه بسبب محاولة قائده طلب الاستغاثة من خفر السواحل بإشعال النار في قطعة قماش كبيرة.

مع كل المطالبات بسياسات أكثر رحابة لقوانين الهجرة في أوروبا وإيطاليا، تظل كل هذه الأرواح تعاني، قبل أن تصل إلى «لامبيدوزا»، الجزيرة الصغيرة التي تحتضن البحر، الواقعة في جنوب إيطاليا، والتي تجاوز عدد المهاجرين إليها في آخر 20 عامًا أربعمائة ألف مهاجر، حسبما ورد بالفيلم.

اللاجئين فارين من أفريقيا ومن سوريا، ومنهم من فرّ إلى ليبيا أولًا ثم واصل السفر لإيطاليا، يحوم الفيلم حول رحلتهم، لا يرصدها بالكامل، فبطل الفيلم بالأساس هو البحر، الذي يبتلع بعضهم، فمنهم من يموت، ومنهم من يصاب بحرق بسبب التعرض الطويل للماء المالح والوقود حيث يمكثون بالماء أيامًا طويلة قبل وصولهم للشاطئ. وعلى «قارب الموت» كما يسميه اللاجئون أنفسهم، يتم تقسيمهم طبقيا لثلاث مجموعات، تبعًا للثمن الذي اشتروا به الموت.

لم يُعنَ الفيلم بتصوير إيطاليا كأنها الملاذ للمهاجرين، على العكس، رصد الفيلم الوجه القبيح لاستقبال اللاجئين والمعاملة غير الآدمية التي يتعرضون لها، ترقيمهم كأنهم في معسكرات النازية، مع ذلك يظل الواقع أقسى بكثير، ففي أماكن استقبال اللاجئين يتم إجبارهم على خلع ملابسهم في العراء، ورشهم بمواد مطهرة، لضمان خلوهم من الأمراض الجلدية.

يبدأ الفيلم بأصوات استغاثة، تفيد بأن سفينة مكتظة باللاجئين، معظمهم نساء وأطفال، في طريقها للغرق، ويرد عليها مراقب السفن، بعبارة «حددوا الموقع، حددوا الموقع، اهدؤوا سيتم إنقاذكم». ولكن أصوات الاستغاثة تتلاشي تماما وتسكن قاع البحر. وفي جانب آخر على الجزيرة يتلقى مذيع راديو طلبات من مستمعين لإذاعة أغانيهم المفضلة.

يدور الفيلم في خطين متوازيين ما بين رحلة اللاجئين إلى الجزيرة، وبين أسرة إيطالية تعيش عليها، البحر الذي اتخذه المهاجرون طريقًا للنجاة أو الموت، وابتلع كثير منهم بوحشية، هو ذاته الذي يحيا على ضفتيه أهل جزيرة «لامبيدوزا»، يعملون بشكل أساسي في صيد الأسماك.

يصور الفيلم مشاهد، من حياة أسرة الطفل «صامويل»، تطبخ الأم الكاليماري، يذهب الولد لطبيب العيون ليخبره بضرورة وضع حائل على إحدى عينيه، يحاكي بيديه مسدسًا يضرب به جنودًا وهميين، تطلب أمه من مذيع الراديو أغنية حريق في البحر، والتي تشير إلى الحرب البحرية التي حدثت على شاطئ لاميدوزا عام 1940. أيضا هناك طبيب الجزيرة، والمسئول عن الكشف على اللاجئين، يعرض صورهم، ويقول أنهم «تسببوا في إحداث فراغ في قلبه»، فلم يعد يقوَ على النوم من هول ما رآه.

البحر ليس طريقًا نمر من خلاله.. البحر ليس طريقا.. إنها مخاطرة ألا تخاطر في الحياة.. لأن الحياة نفسها مخاطرة

هكذا يغني اللاجئ النيجيري، في مرثية يصف بها الأهوال التي تعرض لها، هو وآخرون، عبروا البحر، نجا بعضهم ومات البعض الآخر، لجؤوا إلى ليبيا، تعرضوا هناك للسجون، لأنهم أفارقة، عبروا الصحراء، ونجا منهم عدد ضئيل، ولم تنج روحه. يبدو الفيلم مفعمًا بالشاعرية، وهو يعرض وجها البحر، الذي يسلكه الفارون من بلاد مالحة المذاق، إلى الضفة العذبة من البحر.


قصة حب سورية

فيلم «قصة حب سورية»

على الجانب الآخر، وضمن فعاليات البانوراما، تم عرض فيلم «قصة حب سورية» الحائز على جائزة مهرجان «شيفيلد» للفيلم الوثائقي، من إخراج البريطاني «شون ماكليستر» الذي عمل كمراسل صحفي في سوريا،بدأت نواة الفيلم عام 2008 عندما أراد «ماكليستر» أن يصنع فيلمًا عن سوريا كنموذج لما سماه «الديكتاتورية الفعالة»، بعدها تعرف على «عامر داود»، وهو ناشط سياسي وعضو بمنظمة التحرير الفلسطينية، وزوجته «رغدة حسن»، وهي كاتبة ومعارضة لنظام الأسد بالرغم من كونها علويّة.

حينها قرر «ماكليستر» أن يصنع من قصة الزوجين فيلمه عن سوريا. الزوجان اللذان تعرفا على بعضهما في المعتقل، حيث كانا متجاورين في الزنزانة، يتواصلان من خلال ثقب في الحائط، ثم تزوجا بعد خروجهما. تعرضت الزوجة مجددًا للاعتقال لمدة 9 شهور، وأُطلق سراحها عام 2011، في عفو أصدرته الحكومة السورية في محاولة منها لاستيعاب الثورة في بدايتها. بعدها اعتقل مكاليستر، وصادرت السلطات السورية أجهزته، التي احتوت تسجيلات للزوجين السوريين، ما اضطرهما إلى الهرب إلى لبنان.

يرصد الفيلم حياة الأسرة السورية منذ اندلاع الثورة عام 2011، وحياتهم أثناء اعتقال الزوجة، ثم خروجهم من سوريا على حد قول الزوج الذي كفر بالثورة؛ «لا مستقبل ولا حياة بسوريا الأسد». وجاء الفيلم ناطقًا بالإنجليزية لظروف التوزيع.

اعتمد الفيلم على صور وفيديوهات من أحداث الثورة، وصور لجنود يعذبون مسجونين. سلط الفيلم الضوء على الابن الأصغر للأسرة، كأنه يعرض الثورة وتطور حياة الأسرة خلالها بعينيه، في أحد أشد المشاهد إيلاما، نعرف أن الطفل تعود أن يسأل كل امرأة في الشارع، عندما كانت أمه بالسجن «هل أنتِ أمي»؟

تحكي الأسرة، بإنجليزية ركيكة، ماذا فعلت بهم الثورة لمدة خمس سنوات. تم تصوير الفيلم كله داخل بيتهم، تخرج رغدة من سجن الأسد، ولكن شيئا ما شرخ علاقتها بزوجها، يرصد الفيلم أيضا تطور علاقتهما بالتوازي مع الثورة وشجارهما الدائم وتشكك الزوج الدائم في حب رغدة له، إلى أن خرجا من سوريا.

مثل رحلة «حريق البحر»، خاض الزوجان رحلة هروب مضنية، من سوريا إلى لبنان، أما الزوجة التي كانت تحمل سوريا بداخلها، عادت إليها مرة أخرى، دون زوجها وأبنائها، الذين لم يستطيعوا الهرب مجددا إلى أوروبا دونها، لكن في النهاية، وبعدما أصبح العيش في سوريا مستحيلًا، وباتت قصة الحب مستحيلة أيضا، سافروا إلى فرنسا، لتتركهم الزوجة وتعيش بمفردها في تركيا، بعد انفصال الزوجين.

خرّب النظام السوري قصة الحب مثلما خرّب سوريا، فبات عليهم أن يسيروا في صحراء البحر وحدهم حتى يصلوا للضفة الأخرى حاملين في قلوبهم ندوبًا لا تزول.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.