أصبحت التقنية الرقمية الآن ملحقة بكل تفاصيل حياتنا؛ بدءًا من حياتنا الشخصية والترفيهية إلى حياتنا المهنية، وتظهر كل يوم آفاق جديدة من التقنية الرقمية التي تندمج بشكل واسع جدًا مع حياتنا؛ حيث من المتوقع أن يصل عدد الأجهزة الذكية المستخدمة حوالي 8.4 مليار من أجهزة الكمبيوتر والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية المتصلة بالشبكة العنكبوتية في 2017، تصل في عام 2020 لما يقارب 20.4 مليار جهاز تبعًا لتقرير مؤسسة الدراسات والأبحاث العالمية جارتنر.

ورغم الآثار السلبية المحسوسة، تُظهر لنا العديد من البحوثات والدراسات الآثار الإيجابية لها على عقولنا وحياتنا بشكل واسع وملحوظ، وكيف لهذه التقنية القدرة على تطوير الإدراك المعرفي لعقولنا وتدفع بها في اتجاه الأفضل. لذلك سنستعرض بعضا من هذه الآثار الإيجابية لها.


الذكريات أكثر وضوحًا

في عام 2005، كان ديب روي وزوجته – العالمان بمعهد ماساتشوستس للتقنية – ينتظران ولادة طفلهما الأول، ووجدا أنها فرصة قوية لمراقبة تعلم واكتساب طفلهما للغة والبدء بالتحدث، من وقت ولادته والخروج ببعض الدراسات من ذلك؛ لكن كانا يبحثان عن طريقة علمية لتسجيل كل لحظات تحدّثهما مع الطفل، أو تفاعل وتحدث أي شخص آخر معه. بدآ بتركيب كاميرات وميكروفونات في كل أنحاء المنزل وُصلت بمساحة تخزينية عملاقة تكفي لثلاثمائة جيجا بايت من البيانات يوميا لمدة عامين.

لاحظ ديب في أحد الأيام محاولة طفله للوقوف والمشي، ففتح ذراعيه لطفله وقال له «هيا، هيا، تستطيع أن تقوم بذلك». بدأ الطفل في التحرك خطوة بخطوة حتى استطاع أن يصل إلى ذراعي والده. بعدها بعدة أسابيع عندما أراد روي الحصول على النسخة الرقمية التي سجلتها الكاميرات لتلك اللحظة، فوجئ بأنه لم يتذكر ما حدث بشكل جيد على الإطلاق؛ فقد كان يتذكر تلك اللحظة بأنها كانت في صباح يوم مشمس وعندما كانت زوجته بالمطبخ؛ بينما فوجئ عند مشاهدة التسجيل بأنه لم يكن بصباح يوم مشمس وكانت والدته هي من بالمطبخ.

كان ديب يتذكر أن اليوم مشمس وزوجته بالمطبخ؛ بينما فوجئ عند مشاهدة التسجيل بأنه لم يكن بيوم مشمس وكانت والدته هي من بالمطبخ

في الفترة ما بين سبعينات وثمانينات القرن الماضي،قرر عالم النفس ويليام واجنار تسجيل بعض اللحظات التي تحدث له يوميًا لمدة ست سنوات مع بعض التفاصيل الخاصة بكل لحظة مثل أين حدثت هذه اللحظة ومع من. وبعد أن أنهى ويليام التجربة، وجد أنه يتذكر فقط 70% من اللحظات التي حدثت منذ نصف عام مضى، وحوالي 29 % من اللحظات التي حدثت في الخمس سنوات السابقة. لكن الأمر الغريب حينما وجد ويليام أن 20 % من اللحظات لا يتذكرها نهائيًا.

وفي عام 1962 سأل العالم دانيال أوفر مجموعة من الصبية في عمر الأربعة عشر عامًا أسئلة حول جوانب مهمة من حياتهم واحتفظ بإجاباتهم، بعد مرور 34 عامًا سألهم مرة أخرى نفس الأسئلة، فكان أكثر من ثلثي من قالوا إن الدين الذي يعتنقونه كان مفيدًا لهم سابقًا، 26% فقط منهم أشاروا لذلك. ومن بين 82% ممن أجريت عليهم التجربة الأولى أقروا بتعرضهم لعقوبة جسدية من قبل والديهم، تذكر الأمر حوالي ثلثهم فقط.

نجد من ذلك أن بعض اللحظات لا نتذكرها على الإطلاق، والبعض الآخر لا نتذكره بالصورة الحقيقية التي حدثت عليه؛ فكما يخبرنا عالم النفس الأمريكي دانيال شاكتر في كتابه The Seven Sins of Memory أن عقولنا تتذكر الأشياء بالصورة التي تحب أن تكون عليها، وليس بالصورة التي حدثت بالفعل، فالذاكرة تشعر أنها أفضل كذلك كما حدث مع ديب روي. لكن ما علاقة هذا كله بالتقنية؟

حاول البشر لمواجهة ضعف الذاكرة الاستعانة ببعض الأدوات، وابتكار بعض الطرق لتسجيل اللحظات المختلفة التي يمرون بها وذلك على الأقل منذ ألفي سنة. نمتلك الآن العديد من الأدوات التقنية التي تمكننا من تسجيل لحظات حياتنا المختلفة مثل البريد الإلكتروني، الرسائل النصية، الصور والفيديوهات التي يتم تسجيلها سواء من كاميرات الهاتف الذكي أو الجهاز اللوحي، تطبيقات تدوين الملاحظات، وأيضًا مواقع التواصل الاجتماعي.

كل هذه الأدوات ساعدتنا في تذكر اللحظات بشكلها الصحيح، تذكر اللحظات التي ننساها، قومت من ذاكرتنا الهشة وجعلتنا نمتلك أفضلية بصورة قوية تجاه ما مضى من حياتنا، الآن نستطيع أن نسجل ذكرى زواجنا أو ميلاد أول طفل لنا أو بعض اللحظات المهمة الخاصة بالحياة المهنية دون أن ننسى تفاصيل تلك اللحظات، وتجعلنا نتذكرها بصورتها الصحيحة.

عندما تنظر إلى فيديو قمت بتسجيله فإنك تتذكر كافة الأشياء التي وقعت بالحدث الذي قمت بتسجيله، لكن قبل ذلك لم يكن لدى ذاكرتنا القدرة على تذكر التفاصيل الكاملة والتي سيُحدث تذكرها بشكل دقيق فارقًا جليًا عن تذكر اللحظات على غير حقيقتها. قد يساعدنا تذكر بعض اللحظات بصورتها الحقيقية على التعلم بصورة أفضل وتحليل الأمور بصورة أكثر صحة، وصولا لحاضر أفضل كذلك.

يرى البعض أن تذكر كل الأحداث ليس بالأمر الجيد؛ وذلك بالطبع لأن هناك بعض اللحظات التي تكون سيئة ونحاول أن ننساها للمضي قدمًا في حياتنا الحاضرة والمستقبلية، كما أنها تقلل من أهمية الأحداث عندنا لأننا أصبحنا نمتلك القدرة على العودة في أي وقت لاسترجاع وتذكر تلك اللحظات.


كيف طورت التقنية الرقمية إدراكنا المعرفي ؟

قد يساعدنا تذكر بعض اللحظات بصورتها الحقيقية على التعلم بصورة أفضل وتحليل الأمور بصورة أكثر صحة، وصولا لحاضر أفضل كذلك

قبل أن يظهر الإنترنت، كان نادرًا ما يكتب العامة. يذكر لنا كتاب The Postal Age أنه في العصر الذهبي للرسائل وفي سنوات الذروة لكتابة الرسائل في المملكة المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، كانت هناك رسالة واحدة مكتوبة لكل مواطن بمعدل بلغ كل أسبوعين. وفي عام 1860 بالولايات المتحدة الأمريكية في العصر البريدي، كان نصيب الفرد من الرسائل يساوي 5.15 رسالة للسنة الواحدة.

تساعد الكتابة بصورة واضحة في استيضاح تفكير الأشخاص واستخلاص وتحويل الأفكار الغامضة إلى مواضيع واضحة، وكذلك تقييم الأفكار بعد كتابتها بشكل موضوعي

يتم كل يوم الآن حسب كتاب The SenticNet Sentiment Lexicon: Exploring Semantic Richness in Multi-Word concepts لراؤول بياجيوني الباحث بمعهد دبلن للتقنية إرسال ما يزيد على 154 مليار بريد إلكتروني، ما يزيد على 150 مليون «تويتة» على موقع التواصل الاجتماعي Twitter ، ما يتخطى مليون منشور وما يزيد على 1.3 مليون تعليق على تلك المنشورات على مدونات الوردبريس فقط، وأكثر من 16 مليار كلمة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك في اليوم الواحد. ما يتم كتابته على مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة والبريد الالكتروني يوميًا يعادل 36 مليون كتاب، وهو رقم مهول جدًا إذا ما قورن بما كانت تتم كتابته في القرون ما قبل ظهور الإنترنت. والسؤال هنا كيف غيرت هذه الكتابات اليومية التي نقوم بها سلوكنا المعرفي؟

1. تساعد الكتابة بصورة واضحة في استيضاح تفكير الأشخاص. الكتاب المحترفون يخبروننا أن الكتابة تساعدهم في استخلاص وتحويل المفاهيم والأفكار الغامضة داخل عقولهم إلى مواضيع وأفكار واضحة، كما يمكنهم ذلك من تقييم الأفكار المكتوبة بطريقة أكثر موضوعية على عكس وهي داخل عقولهم. لا ينطبق ذلك فقط على الكتاب المحترفين ولكن ينطبق ذلك علينا جميعًا عندما نستخرج الأفكار من داخل عقولنا وتحويلها إلى كلمات على الورق أو مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت.

2. كان للكتابة على الإنترنت تأثير قوي جدًا لأن ما نكتبه دائمًا ما يكون معروضا للجمهور لقراءته سواء كان ما نكتب منشورًا أو تعليقا على صورة أو غير ذلك. يجعلنا هذا الأمر نركز فيما تتم كتابته حتى نستطيع إيجاد نقاط الضعف فيما نكتبه أو رؤية الحجج التي نعرضها بصورة واضحة، لأننا على يقين أن هناك أحد ما سيقوم بقراءته وقد يقوم بالتعليق عليه. وقد تستغرق عملية كتابة المنشور أو التعليق بعض الوقت حتى نتأكد أننا وصلنا إلى أحسن نسخة مما نكتبه. يطلق علم الاجتماع على ذلك «audience effect»، التحول في أدائنا وتفكيرنا عندما نعلم أن هناك أشخاصا يشاهدون أو يقرءون ما نكتبه سواء كان عددهم صغيرًا أو كبيرًا.

نشر مجموعة من العلماء بجامعة Vanderbilt دراسة أجريت على مجموعات مكون من عشرات من الأطفال بعمر الرابعة والخامسة، حيث أعطوا لهم مجموعة من الألغاز وطلبوا من إحدى المجموعات بحل تلك الألغاز مع أنفسهم، وطلبوا من مجموعة أخرى أن يقوموا بتسجيل صوتي لكيفية حلهم هذه الألغاز، ثم طلبوا من مجموعة ثالثة أن يقوموا بتوضيح طريقة حلولهم للغز لأمهاتهم. لوحظ أن المجموعة التي قامت بحل اللغز مع أنفسهم كانت الأسوأ على الإطلاق بين الثلاث مجموعات، في حين أن المجموعة التي طُلب منها أن تسجل صوتيًا كيفية حلها للألغاز كانت أفضل قليلًأ، وكانت المجموعة التي ُطلب منها أن تقوم بشرح طريقة الحل لأمهاتهم هي الأفضل على الإطلاق.

وجد باحثون أن من يكتب مع القراءة يمارس المزيد من الجهد المعرفي على عكس من يقرأ فقط، يساعد ذلك في تذكر الأشياء بشكل أكثر سهولة

وعندما طلبت أحد الأساتذة في Douglas College من تلاميذه مهمة عمل صفحة على موقع ويكيبيديا عن أحد الكتاب الكنديين لترى هل سيجعلهم ذلك يأخذون المطلوب منهم على محمل الجد أكثر أم لا؟ وجدت أنهم على غير العادة كتبوا مقالات دقيقة وتملك مصادر قوية، وعندما سألتهم… كانت إجابتهم تتمحور حول أن هناك جمهور يقرأ تلك المعلومات وعندما حاولوا كتابة مقالات بمصادر غير جيدة، قام مجتمع ويكيبيديا بحذفها ببساطة، لذلك كان عليهم أن يقوموا بكتابة مقالات ذات مصادر قوية.

3. ينتج عن الكتابة آثار إدراكية أخرى جيدة ومفيدة، فالكتابة تحسن الذاكرة الخاصة بنا، اكتب عن شيء ما وتستطيع أن تتذكره بشكل جيد والذي يُعرف generation effect. ففي عام 1978، قام اثنان من علماء النفس باختبار كيف لمجموعة من الناس أن يتذكروا مجموعة من الكلمات، وقاما بتقسيم الناس لمجموعتين، مجموعة تقرأ الكلمات ومجموعة أخرى تكتبها؛ فوجدوا من كتبوا تذكروا بشكل أفضل ممن قرأوها فقط. وجد الباحثون أنه يرجع ذلك أن من يمارس الكتابة يتطلب منه المزيد من الجهد المعرفي على عكس من يقرأ، وكلما بذلت جهد أكثر كلما كان لك القدرة على تذكر الأشياء.

نستنبط مما سبق أن للتقنية تأثيرا إيجابيا واضحا في تحسين قدراتنا على تذكر الأشياء والأحداث بصورة صحيحة، كما أنها تساعدنا بشكل واضح في الارتقاء بإدراكنا المعرفي من خلال الأدوات المختلفة المستخدمة من خلالها كالكتابة. يمكنك الآن أن تبدأ بالنظر لنصف الكوب الممتلئ عند استخدامك لأدواتك التقنية المختلفة.

المراجع
  1. Smarter Than You Think_ How Technology Is Changing Our Minds for the Better by Clive Thompson
  2. Intelligence and technology_ the impact of tools on the nature and development of human abilities by Robert J Sternberg and David Preiss